الأربعاء الكئيب
أماني أحمد أسكندارني (+)
استيقظت لين صباح الأربعاء الخامس من أيلول، لترى عالماً مشبعاً بالسواد محيطاً بها من كل جهة، تصرخ وتتألم لكن لا يسمع صراخها أحد.
تحاول الإمساك بهم ولمسهم، لكن دون جدوى، حتى باءت كل محاولاتها اليائسة بالفشل، ولم يعد للصراخ معنى.
هدأت ولملمت شتات نفسها محاولةً استيعاب ما يدور حولها، فالعويل يذاع عبر الأفواه، والتأوه يصارع نبضات القلوب، وقطرات الحزن والألم تنساب برقة دون أن يمنعها أو يوقفها أحد.
قاومت النسيان وبدأت تجتر ماضيها اجترارا لعله يوقظ ذاكرتها المتخاذلة الضعيفة، لكن عبثاً ما كانت تفعل.
بدأت الظلال بالتحرك والمسير عبر متاهات الزمن، وأمام أعين مترقبة خائفة، وأخرى متعاطفة حزينة، وثالثة ملتاعة مشفقة… وأخرى وأخرى… ، إلى أنْ توقفت الظلال، لقد حان الوقت.
إنّه وقت الوداع، لحظةٌ لا رجوع منها، فراق لا لقاء بعده، ثمّ أنزلت اللوحة متكسرة مهترئة، أنزلت قطعةً، قطعة، ليتم جمعها معاً ويُعاد تشكيلها ثانية في مكانٍ عميق لا يصل له نور ولا يطاله حزن، ليُقال: ها قد اجتمعتم من جديد، لن يفرقكم أحد.
كانت “لين” ترى كل هذا بعينين غير مصدقتين، متفاجأتين حيناً، وربما فرحتين حيناً آخر.
لم يكن هذا اللقاء ممكناً لولا هذا، فالأيدي ممسكة ببعضها، والهدوء والسكينة تصبغ الهالة المحيطة، وبات للتسامح مكاناً بعد أن طرد البغض والحقد والنزاع.
تخبر “لين” نفسها بأنّ انعكاسها جميل وصورتها أصبحت أفضل بكثير، فما قد تمنته يوماً قد نالته الآن، أليست هذه السعادة بعينها، تنتقل بين الجموع واحداً واحداً لتخفف عنهم وتطمئنهم بأنّها بحالٍ أفضل وأنّ من معها لن يدعها وحيدةً بعد الآن، سيشاركونها جميع لحظاتها، سيشاركونها صمتاً وهدوءً.
تتحدث إليهم وتسرّ إليهم بأس أسرها التي لم تفكر للحظة أن تشاركها أحد، بل وحتى نفسها، فقد كانت حبيسة أزوية مجهولة في أغوار نفسها لا يعلم مكانها أحد.
تسقط عبرة وتليها أخرى وأخرى…. دون توقف، إنّها لحظة تشعر فيها بجمود كل شيء من حولك، ربما تشبه توقف الساعة عن الدوران ،ونوم الشمس دون استيقاظ، وسفرٌ للقمر دون عودة.
تمسح لين دموعها بيديها الشفافتين، وتحمدُ الله على هذه النعمة، فمن كان تائهاً قد عُثر عليه، ومن كان متدثرا بالشهوة والنشوة قد فُكّ عنه، ومن كان مقيداً بقيد البعد والوقت قد تحرر، ومن كان معنّف بجبروت الألسنة والقيل والقال فقد شفي، ومن كان يقف على سماء موطنه خذيلاً مقهوراً قد انتصر.
أجل إنّها عدالة السماء التي لا تفوقها عدالة، الآن قد انتهى كل شيء، انتهى زمن المطر الأسود، وانتهى فصل الشتاء المرير بسمائه المتدثرة بألوان رمادية، وشمسه الباردة، ورياحه القاسية، انتهى زمن تراقص البيوت المصطفة على موسيقا الغدر والألم، انتهى زمن الأصوات المنذرة المهددة، ودقات الطبول المتسارعة، انتهى زمن اللهاث والخوف، وانتهى زمن الآه يا أمي، انتهى زمن الآه يا أمي.
الآن أراك يا أمي، بوجهك الملائكي الذي افتقدته، وصبرك الذي فاق صبر النبي أيوب عليه السلام. أراك الآن قد خلعت عنك وشاح القلق اللا متناهي، والخوف لترميهما بعيداً ولترتدي ثوب الزفاف الأبيض.
هذا اليوم هو عرسك، والجميع يزفونك بعيونهم المحمرة، وشفاههم المرتعشة، وقلوبهم الشاكية.
تتوسطين الجميع كملكة تحمل على أكتاف العبيد، تتناقلك الأيدي المحبة بينها لتلمس وجهك الناعم الأبيض.
الكل يحتفل بكِ حتى أوارق الشجر تعانق بعضها البعض كأنّها تقول لك ستفتقدك، ستفتقد من كان يستيقظ معها باكراً قبل بزوغ الفجر يدعو ويهلهل للمولى سبحانه.
أراك الآن مبتسمة، هل أنتِ كذلك حقاً؟ أم أنني أختلق صواًر ومشاعر؟، أم تراني أصنع قناعاً وألبسك إياه؟
أراك الآن قد أعددت لنا وجبتنا الأخيرة، كم كانت شهية، ربما لن نجوع بعدها يوماً يا أمي.
هل أنت راضية؟ فعروسٌ مثلك تشهد عرس أبنائها وبناتها معها، لحريٌ بها أنْ تكون أكثر الناس سعادة.
فها أنتِ تشعين نواًر وضياءً، ترافقك ابنتيك بثوبهما الأبيض الطويل، كلتاهما تمسك بطرف ثوبك، كصغيرتين لم تفطما بعد.
وأنا يا أمي، ماذا عني؟، أرجوكِ لا تفطمينني عن صدرك؟، دعيني أرضع بلا توقف.
لم أكن يوماً ملجأً لك، ولا عكازةً ليدك، ولا منديلاً لعبرتك.
ربما لأنني لم أكن نزيلةً في رحم أمومتك يوماً، فلم تكوني قادرة على منحي غرفةً في قلبك، أعلم أنّني لم أكن يوماً كأختيَّ، لكنني رغم هذا أحبك.
ألا ترين هذا، ها أنا أقف أمامك ممسكةً بأزهار بيضاء، لم أشأ الابتعاد عنك يوماً، كنتُ دائماً أحاول تنظيف أرضٍ داخلية، لأزيل عنها همّاً أرقها ولم يدعها تنام أبداً.
أمّي، انظري …. انظري إلى بطاقات الدعوة التي صنعتها من أجلنا، إنّها حمراء اللون كشقائق النعمان، ألا تحبين اللون الأحمر؟ إنّه لونك المفضل يا أمي.
أمّي، كم أحب تكرار كلمة أمّي، فلها وقعٌ جميل في نفسي.
أمّي، أتذكرين حين قلتِ لي في ذلك اليوم هلوسات وأوهام عن مملكة أخرة وملكة أخرى سواك، عن ملكٍ آخر سوى والدي العزيز، عن حياة أخرى مختلفة عن حياتي، لم ولن أصدقك، وأدعو لك الله أن يشفيك منها.
فليس في هذا الكون ملكةٍ سواك، يكفي نظرة من عينيك العسليتين الصافيتين لتشعرني بالبهجة، يكفي لمسة صغيرة من يدكِ ليزول ألمي.
لماذا ترغبين دوماً في سرد مسلسلٍ تاريخي مزيف، لما لا تقصين عليّ قصصاً أجمل كسندريلا أو فلة.
ألا تحبين قصص الأطفال يا أمي؟
لا أخفيك يا أمي أنّني لن أستطيع منحك دمي ولا خلايا جسدي، وكم يحزنني هذا، فلو كان الأمر بيدي لمنحتك كل ذرةٍ من جسدي.
أمّي، ألاّ تذكرين حين تعالت الأصوات واشتد الصراخ، وبات الانفصال حلٌ سلمي، فتمّ التقسيم، ولم يكن لي حينها نصيباً من القسمة، وتركتُ كأثاث مهمل لم يشأ به أحد.
أعلم أنّ النسيان قد غلف عينيك وقلبك حينها ومنعك من رؤيتي.
أمّي، أليس اسمي جميل؟ لم يكن يوماً يعجبك، لا أعلم لماذا تركتني أحمل لقباً لا يعجبك، لكن لا عليكِ يحق لك تسميّتي ما شئت.
ولكن يا أمي أليست الزهور أجمل من القرود؟ أوليست الورود أجمل من الخنازير؟.
ومع هذا، فكل نغمةٍ تخرج من فمك لتصل لسمعي هي فضلٌ من الله.
أمّي، ماذا عنّي الآن؟
أراهم يأخذونني بعيداً، لماذا يا أمي؟
هل لقبي الجديد لا يسمح لي بالبقاء معكِ في منزلك هذا.
أرجوكِ يا أمي، أخبريهم أنني لا أريد أي عنوان أو صفة، فقط أريد ملازمتك.
ألا تعلمين أنتِ قطعةٌ مني، وإنْ لم أكن أنا كذلك بالنسبة لك.
أرجوكِ يا أمّي، اسمحي لي أن أكون خادمةً لك وتحت قدميك.
أعدك أنني لن أبكي إذا رأيتك تغلقين باب حنانك في وجهي.
أعدك أنني لن أحزن إنْ كان ملمس يدك قوياً على وجهي.
أعلم أنّك لا تقصدين أذيتي.
أرجوكِ يا أمّي، أرجوكِ، لا تجعليهم يطفئون شمسي، ويظلموا ضوء قمري.
ماذا الآن؟
أرى الحيرة تقتلهم، وأراهم قد تخلوا عني، أجل إنهم يدعونني الآن.
أنظر إليك ولأخوتي تنامون بهدوء في منزلكم الجديد، فماذا عنّي يا أمّي؟ لقد ساد الصمتُ المكان.
أمّي، أمّي، أمّي؟
أفتح عيوني المغمضة، منذ متى وهي مغمضة؟ لا أعلم يا أمي؟.
أرى وجوهاً تصرع، وأخرى تترامى كخرقةٍ بالية، وثالثة تبكم، واربعة وخامسة.
من هم هؤلاء يا أمّي؟ ومن هذه التي تصرخ صراخا يهتز له عرش الرحمن
ياأمّي.
إنّها تعتصرني، كأنّها لا تصدق ما حدث.
أرى نفسي بثوبي الأبيض، فلماذا لم أزف معك يا أمّي؟ الم نتفق أنّ العرس جماعي؟.
لماذا يا أمّي لم أعد أ ارك أو أرى إخوتي؟ لماذا
ياأمّي؟ أين ذهبت؟ أرجوكم أبعدوا هذه الملتاعة عني؟ من هي وماذا تريد مني؟
إنّها تقول شيئاً، أسمعها تقول تلك الكلمة التي دعيت الله مراراً وتكراراً في صلواتي أن أسمعها يوماً.
ابنتي، حبيبتي، غاليتي.
لماذا وجهي مبلل؟ أتراها تمطر؟ أم أنّ لي سماءً أخرى تمطر عليّ وحدي؟
أأحلم؟ أم أنّ هناك قلباً قد جعلني نزيلته؟ وفماً مبتسماً ومرتعشاً ينادي باسمي “لين”؟ وعيناً دامعة تسكنها صورتي.
ماذا؟ ماذا تقول؟ هل تسمعون ما أسمع؟ إنها تناديني بأمّي؟ أمّي، أمّي، لن أتركك بعد الآن.
كان يوماً غريباً يا أمّي؟ يوماً كان كسنين وسنين؟ سنيناً وشهوراً ودقائق وثوان؟ إنّه يوم الأربعاء الكئيب يا أمّي، أم هل أقول إنّه يوم الأربعاء الجديد يا أمّي.
(+) كاتبة من سورية
