من ذكريات المسيرة الخضراء: آلام وآمال

عبد العزيز الخطابي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
في عام 1975، كان المغرب على موعد مع حدث تاريخي غير مسار التاريخ، وكنتُ في تلك الأثناء شابًا يزهر بين زهور الحياة، أدرس في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. كنت شغوفًا بالأفكار الشيوعية واليسارية، ملتزمًا بمبادئ العدالة الاجتماعية. لكن، من يدري أن تلك المبادئ ستُختبر في قلب الصحراء، حيث قرر الملك الحسن الثاني، رحمه الله، أن يدعو الشعب إلى مسيرة خضراء لاسترجاع الأراضي المغتصبة.
عندما ألقى الملك خطابه، شعرت وكأنني أُصبت بصدمة كهربائية. كانت الكلمات تتدفق من فمه كأنها سحر، تدفعني نحو شيء أكبر من نفسي. حملت حقيبتي وقررت أن أكون جزءًا من هذا الحدث التاريخي؛ انطلقت مع إخواني وأخواتي، كأني أشارك في عرض مسرحي، لكن هذه المرة لن يكون هناك تصفيق ولن تكون هناك أضواء مسرحية، بل ستتجلى فيها معاني التضحية والوحدة.
بالطبع، لم تكن المسيرة نزهة في حديقة،جوع، عطش، وصعوبة في التنظيم، كنا نعيش في حالة مرتبكة، نُحاول جميعًا البقاء على قيد الحياة، في حين كانت الأجواء مشحونة بالطاقة الوطنية.
وفي خضم هذه الأجواء الصعبة، كان هناك شعور غريب بالانتماء. كنا نُدرك أننا جزء من شيء أكبر، شيء يُعيد صياغة تاريخ أمتنا. كانت المسيرة بمثابة اختبار للإرادة الجماعية، حيث اجتمعنا من مختلف المشارب الفكرية، متحدين تحت راية واحدة. ومع كل خطوة، كنت أشعر بالفخر، لكن أيضًا بالخوف من المجهول.
الرحلة لم تكن فقط جسدية، بل كانت أيضًا روحانية. تملكني شعور بأنني أكتب تاريخًا جديدًا بأحرف من الدموع والأحلام. وفي لحظات من الألم، كنا نسأل أنفسنا لماذا نحن هنا؟ رغم أن بعضنا فقد حياته في خضم هذه المسيرة. لقد كُتب لنا أن نكون شهودًا على مجد أمة، لكننا أيضًا مررنا بتجارب قاسية.
بعد انتهاء المسيرة، عدت إلى مدينتي، محملاً بذكريات وأفكار. قررت أن أدوّن ما عشت، فكتبت مذكرات حول تلك اللحظات، ونشرتها في إحدى الجرائد. كنت أعتقد أن من واجبي تسليط الضوء على ما حدث، ليس فقط من أجل التوثيق، بل أيضًا من أجل الأجيال القادمة. فالتاريخ لا يُكتب فقط بالأحداث العظيمة، بل أيضًا حتى بالتجارب الإنسانية البسيطة.
اليوم، عندما أتذكر تلك اللحظات، أشعر بمزيج من الفخر والحنين. المسيرة الخضراء ليست مجرد حدث في الأرشيف، بل هي تجربة حية تربط بين الأجيال. لقد كانت تلك اللحظات من أجمل وأقسى أيام حياتي في نفس الآن، حيث تعلمت فيها معنى الانتماء والتضحية.
في النهاية، تظل المسيرة الخضراء درسًا للجميع: أن التاريخ يُكتب بأيدي الذين يسعون لتحقيق العدالة والحرية، وأن الأمل دائمًا موجود، حتى في أحلك الظروف.إنها رحلة من الجوع إلى المجد، وذكراها ستظل محفورة في قلوبنا، كزهرة تتفتح في قلب الصحراء.
