22, ديسمبر 2024

صباح الأنباري

في هذه العنونة حدد تحسين كرمياني زمان وقوع الفعل، وأضاف للفعل (يختبر) سيناً تفيد المستقبل، فوضعنا على عتبة زمنين أحدهما بدأ مذ شرع في عملية كتابة القصة، وتبعه الآخر محدداً زمن وقوع فعل القصة، ودعم العنونة بمدخل قال عنه (لا بد منه) وفيه وضع جملة القصة الداعمة لعنونتها (أن أكون لك، أو أموت معك) وبهذا يكون قد أنبأنا بفكرة استباقية عما سيحدث لاحقاً.

 

إذن، ثمة خياران أمام المتحدثة في هذا المدخل: بني الأول على أساس التملّك الطوعي، (أن ـكون لك) وبني الآخر على دوام التملك الأبدي (أو أموت معك) والكلام هنا موجه الى حبيبها الغائب، وبالنتيجة وضع المدخل أمامنا حقيقة وجود شخصيتين رئيستين داخل القصة: هي المتحدثة، وهو المتلقي للحديث،والذي نطق الكاتب نيابة عنه واصفاً حالته من خلال الاتكاء على ضمير الراوي العارف بكل شيء:

(صمت طويلاً، كان غارقاً في أشياء قادمة من أعماق الخسارات، مثل أـسماك صغيرة تجتهد ضد تيار جارف هاربة من حيتانعملاقة)

إن نظرة تأملية لهذا المطلع تخبرنا بالكثير الذي نحتاجه للتعرف على عالم القصة، وفضائها، وما حدث فيها فهو البوابة المثالية للولوج إليها والغوص في أعماقها.

ولنا أن نقف متأملين حالة الرجل الصامت الغارق في الخسارات، والتشبيه الدقيق الذي برع فيه الكاتب، مصوراً حالة الحبيب وحبيبته في عالم شبيه بعالم الأسماك الصغيرة الهاربة من الحيتان العملاقة.

إذن وضّح لنا المقطع الأول الذي قفي على المدخل حالة الرجل ومن معه أكمل توضيح فهو ومن معه يشكلان القوة الأضعف في بيئة تحتشد فيها الحيتان (القوة الأقوى) التي لا يشبعها ابتلاع آلافمؤلفة من الأسماك الصغيرة.

والقصة بنيت على هروب القوة الأضعف في محاولة منها للعيش في أمن وأمان بعيداً عن تلك القوة الحيتانية المدججة بالأسلحة الفتاكة الحديثة.

ولأن القصة فيها تعقيد غير مقصود لذا لجأ كرمياني الى الاشتغال علىأدوات فنية وتقنية للتركيز على الموضوع وتبسيطه، ومنها الاشتغال على اللقطة السينمائية التي يحددها السيناريو قبل الشروع بتمثيل الفلم، وكذلك الاشتغال على الحوار الذي يعد المشترك الانسيابي بين السينما وبقية الفنون الأدائية الأخرى، واللقطة عند كرمياني تختلف بحسب الهدف منها ففي اللقطة الأولى كان الهدف بيان الحالة والبيئة المحيطة وهي لقطة افتتاحية لفلم يبدأ بالظهور التدريجي لشبحين يمشيان، يتقدمان نحو الكادر(Traveling shot) حتى يدخلا في منطقة الوضوح، وكل هذا جرى في الظلام الكثيف مع وجود مؤثر خارجي صوت نقيق الضفادع، وطنين الحشرات.

ولكي يحافظ الكاتب على درامية الموقف كان لا بد له أن يستبعد شخصية الراوي السارد العارف بكل شيء لتحل محله الشخصية الرئيسة التي تنقل لنا المجريات من داخل الحدث وليس من خارجه كما يفعل الراوي عادة وفي هذا فرق كبير بين أن تروي وتري.

بعد هذه اللقطة يستخدم الكاتب الحوار (Dialogue)بين الحبيبين لنتبين من خلاله وجود معبر يوصلهما الى الضفة التي ينشدانها،وفي اللقطة الثانية حدد الكاتب حالة الطرف الآخر (الضفة الثانية) بوصف مختصر للمركبات الحربية وهي تقف متراصة بنسق على طول الشارع الرئيس المحاذي للمستنقع.

يتبعها الكاتب بلقطة أخرى يصف بها حالة البيئة ومؤثثاتها من القصب والأحراش والبردي فضلاً عن المؤثر الصوتي (هذيان، حشرجات، أنين) وقبل اللقطة اللاحقة يستخدم الكاتب تقنية الصوت ليخبرنا من خلاله بحالة استغاثة الحبيبة بحبيبها تزامناً مع اختفائه من المشهد.

في اللقطة الأخرى ثمة نقل للحركة التي تقوم بها الحبيبة للظفر بحبيبها الذي كان جسده مسجى بين الأحراش بعد إصابته بطلقة قاتلة من العدو المحتل الذي لا يتورع عن فتح نيرانه نحو أي كائن متحرك على الأرض.

ثم يتحول كرمياني الى المسرح ليقترض منه مصطلحه الأكثر شيوعاً (المشهد) هو مشهد قصير بني على أساس الجمل الفعلية التي تشتغل عليها المسرحيات الصوامت كأس من أسسها الدرامية.

وقد جاءتالأفعال في هذا المشهد ممثلة للزمن المضارع مثل: تطل، يخلد، تعود، تصعد، تلقي، تستقر، تظهر، يأتي، يعود.. إلخ.

وهذه كلّها تشير الى قدرة الكاتب على جعل النص منفتحاً على بقية الفنون الأدائية الأخرى ما دامت هذه الفنون تشتغل على تعزيزه وتسهيل تلقيه من قبل القارئ.

وهذا يعني أن الكاتب لا يكتب قصته على وفق مقتضيات السينمادراما كما أوحى عنوان المقال، بل على أساس الانفتاح السليم على السينما والدراما في آن واحد.

ومن الآن وحتى النهاية ستكون تقنية الصوت مخصصة لبوح الحبيبة فقط اقترابا من المونودراما المسرحية لأنها الحاضرة الوحيدة في القصة كحضور الممثل أو الممثل الوحيد في المسرحية المونودراما وسيبتكر كرمياني وسائل أخرى لإدامة حضور الحبيب الغائب كلما اقتضى النص ذلك.

تأمل هذا الحوار على سبيل المثال لا الحصر:

  • لم تأخرت!!!
  • الأزقةملغومة بالعسكر!!
  • وكيف أتيت!!
  • أحيانا كنت أزحف، كلما تتاح لي فرصة مناسبة!!

السؤال الأول يشي بتأخره عن الحضور المثيرللتعجب، والجواب عليه يبررهتواجد العسكر على كل الطرقات وهذا يشير الى حالة حربية لم تكن موجودة من قبل. أما السؤال الثاني والذي يطرح بتعجب أيضاً عن وسيلة حضوره فيأتي الجواب التوضيحي مبررا من خلال صعوبة الوصول بعد الانتشار العسكري لقوات الاحتلال على طرق المدينة.

إذن هذا الحوار البرقي السريع والمركّز جعلنا نستغني عن التفاصيل المملة والاستطرادات الكثيرة التي قد تؤدي الى ترهل النص فكان من كرمياني أن تعامل مع نصه تعاملاً ذكياً حقق لهأكثر من هدف من أهداف النص القصصي المميز. ومن الحوار ينتقل بنا كرمياني الى مشهد قصير أيضا ومبني على الأفعال المضارعة لسببين: الأول لأن الحدث أو الأحداث اللاحقة تقع في الزمن الحاضر، والثاني لأن الأفعال كفيلة بجعل النص درامياً معشقاً مع المسرح، وكرمياني ليس غريباً عن المسرح وشؤونه وهو المؤلف لعدد من النصوص المسرحية الناطقة ومنها على سبيل المثال لا الحصر(من أجل صورة زفاف)وبما أن البلدة محتلة الآن فلا طريق سالكة للوصول الحبيبين الىهدفهما فكل الطرق الآن واقعة تحت نير الاحتلال وعلى الرغم من كل هذاأصر الحبيب على المغادرة حتى وان كانت غير آمنة.قال بحسم:

يجب أن نغادر، إنهم يريدون تفريقنا…!!

ومن الحوار المباشر ينتقل كرمياني الى الصوت المباشر صوت الحبيبة الذي تحول الى مناجاة استذكار،واسترجاع مواقف،وتحدٍ للموت:

(لن أخشى الموت، الموت معك غاية الحب)

وهذا التحدي لم يأتِ من فراغ، بل من موقف اضطراري أججه رفض الأهل زواج ابنهم من امرأة كردية ورفض أهلها زواجها من رجل عربي وأتت الحالة الثانية من تواجد المحتل الذي شكل تواجده عائقا كبيراً وتهديداً مضافاً على طريق الحبيبين ذلك الوجود الذي قال عنه الحبيب إن غايته (تفريقنا).

وفي مشهد استرجاعي أيضا نرى الحبيبين وهما يجلسان معاً تحت لوحة كتبت عليها كلمات من كتابات ماثيو أرنولد:

(أعرف أن هذا القلب لن يخلق أبدا لحب طويل، غير أن شيئا يتوقد فيه غريباً جداً، قلقاً جداً، لا يعرف التدجين.)

وهذا الكلام الإيحائي أعطي المتلقي حافزاً لفهم ما ستؤول إليه حالة الحبيبين فمع وجود المحتل تقل فرص الفوزبالخلاص وسنجد أن إصابتهما بالنيران المعادية قد وضعت حداً زمانيا لذلك الحب الذي انطلق نحو هدفه بقوة الرفض والإرادة.والتخلص من فكرة تدجين القلب في قفص وإن كان من ذهب. وفي هذا دلالة واضحة على ذكاء الكاتب الذي دسّ إيحاءاته في طيات السطور كلما اقتضت الضرورة ذلك.

في الحوار اللاحق كشف لنا الكاتب جانباً مبهماً من جوانب الشخصيتين موضحاً لنا العقدة أو العقبة الكأداء التي تتربع على طريق تحررهما من الانتماء القسري المقيت الذي تهاوى أمام أرادة الحبيبين وتصميمها على الانسلاخ منه فحبهما طارد لأي شكل من أشكال التعصب، والتعنت، والقسر الهادف الى تفريقهما كهدف يلتقي بالنتيجة مع هدف المحتل الذي يتمحور حول تفريق الحبيبين.

تشتد مناجاة الحبيبة لحبيبها الميتوهي في نزعها الأخير مسترجعة بعض المواقف الساخنة والمنغصات الاجتماعية الخانقة مثل محاولة تزويجها من رجل كبير أراد أن يجدد عمره بها أو من خلال إصرارها على البقاء مع الحبيب لأنها تمتلك إرادتها وفقط أرادت منه في تلك اللحظة الحرجة أن يأتي إليها ليكملا مغامرتهما معاً حتى وان كانت نحو الموت وهي تناديه بحزن قاتل اعتصر روحها:

آآآه تعاااال، ألم أعاهدك على الموت معك.

ثم في لقطة سريعة بليغة اشتغل كرمياني على جعلها تبوح للمتلقي بالحقائق الآتية:

  • المركبات الحربية تواصل شرخ الظلام بمصابيحها
  • المستنقع مغتصب من قبل ضجيج الضفادع
  • طائر (الطيطوى) يشرخ الفضاء بصياحه
  • أنين خافت يتواصل
  • أصوات كلاب بدأت تنبح

وتكمن بلاغة هذه اللقطة الإيحائية بخلق جو له دلالة الغياب، غياب الحبيبين من المشهد نهائيا، وبقدر ما سمح به الوقت جعل كرمياني الحبيبة تسترجع أجمل ذكرياتها وأحلامها التي وأدتها قوة الاحتلال، وحرمتها حتى من لذة الموت مع حبيبها هي التي جل ما تمنته في سابق الوقت أن تموت معه مستذكرة قوله (أمنيتي العظيمة أن أموت بين يديكِ)فتصل الحالة الى ذروتها عندما تشتد مناجاتها وبوحها المؤلم المكتوم:

{ياه أنت حققت حلمك، ها أنت تموت وأنا أرى موتك، تعال، لأحقق حلمي معك، هذه الدنيا لا تستحق، دنيا بلا حب، دنيا بلا رحمة، آآآآه. خذني، لا.. لا. انتظرأرجوكأنت تمشي،أنت تطير، آآآه من أعطاك هذه الأجنحة الجميلة؟ أرجوووكأعطني واحدة،آآآه دعني أمسك قدميك، لا.. لا.. لا تخف، سأمسكك بقوة، طر بي، أين تريد طر بي آآآه لا ترحل أرجوووك لا تتركني أرجووووك، خذني أرجوووك}

عند هذه النقطة تكون الدراما قد بلغت ذروتها القصوى كما لو أنها من التراجيديات العظيمة ورأى الكاتب أن يضع في الختام مشهداً خارجياًيصف فيه حالة الحبيبين وهما مسجيان على عشب أخضر غارقان في بركة دم مشتركة بينما تنسحب المركبات العسكرية وكأنها أتمت عمليتها ولم يبق لها إلا أن تغادر.

………………………………………………………………………………………

(*) (الليلة سيختبر حبنا) قصة الكاتب القصصي والروائي تحسين كرمياني المنشورة ضمن مجموعته القصصية الموسومة (ليسوا رجالا)الصادرة عن دار تموز/ رند.

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version