ليلى خزيمة
خلال فترة ليست بالقصيرة، تعرض للإهمال والنسيان وسار في درب الانقراض.
زحف عليه الاسمنت المدعم والحياة التي تدعي أنها عصرية ومواكبة للتطور.
جار عليه الزمن وجرده من مهامه، لكن من أصله شريف يحيى دائما وأبدا ويستعيد مجده عاجلا أم آجلا.
هذا هو حال الفن الطاطاوي المعمر لما يقارب 300 سنة. راق في بساطته وغني في تواضعه.
من النظرة الأولى، تعشقه العين ويستسلم له القلب. هو الأصل ابن الجنوب، سافروا به عبر العالم فكان لهم خير سفير.
فتجند له من لهم عليه غيرة، ليحيوا مجد فن لامس العالمية واستنفر أهل الذوق والمعرفة ليستعيد مكانته بين كنوز الفنون المغربية التقليدية.
فما كان منا إلا أن سعينا في مشاهدات هذا الاسبوع للقاء أهل المعرفة به لنسمع حكايته.
برنامج كنوز الفنون المغربية التقليدية
في إطار الدورة الثانية لبرنامج كنوز الفنون التقليدية المغربية، انطلقت رسميا منذ فترة قريبة الدورة التأهيلية في فن“الطاطاوي” بمدينة طاطا جهة سوس ماسة.
مبادرة مشتركة ما بين وزارة السياحة والصناعات التقليدية والعمل الاجتماعي والثقافي والاقتصاد التضامني ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو.
وحسب البلاغ الصحفي للوزارة، فإن هذا البرنامج الطموح، الذي يستمر تسعة أشهر، يهدف إلى الحفاظ على المعرفة الحرفية لفن الطاطاوي ونقلها إلى الأجيال الشابة.
فهو واحد من أيقونات الصناعة التقليدية المغربية، وجزء من حرف البناء التقليدية التي تشتهر بأصالة أنماطها وألوانها الفريدة.
وأوضحالبلاغ، أنه ستتاح لعشرة متدربين شباب فرصة استثنائية للاستفادة من هذا التكوين، بالتناوب بين مركز التكوين الحرفي وورشة الحرفيباحسين أحمد، الخبير المعترف به في مجال هذا الفن المتوارث.
وحضر حفل إطلاق هذا التكوين ممثل مكتب اليونسكو للمغرب العربي وأعضاء غرفة الحرف بجهة سوس ماسة ومدير التكوين المهني والمستمر للحرفيين بوزارة السياحة والحرف والعمل الاجتماعي والاقتصاد التضامني والسلطات المحلية لإقليم طاطا.
آخر العمالقة
لم يتوقف فضولنا عند هذا الحد، بل ساقنا إلى ملاقاة من تجند في أواسط القرن الماضي ليحارب الإهمال الذي طال فن الطاطاوي، ويحافظ على تقنياته ويوسع نطاق المعرفة به إلى باقي دول العالم.
المشرف الخبير الذي التجأت إليه الوزارة ومنظمة اليونسكو لتهيئة جيل جديد من الشباب الطاطاويين، فرحب بنا الحاج أحمد باحسين وأخبرنا أن: «الفن الطاطاوي القديم كان يتواجد حصريا في جنوب المغرب وخاصة بمدينة طاطا ونواحيها.
كانت تشكل به أسقف القصبات والرياض والمنازل و”الدويريات” والزوايا وبيوت أعيان البلد. عمره يصل إلى حوالي ثلاث مائة سنة.
كان يصنع من خشب النخيل وخشب “دفلة الوادي”، ويصبغ بمواد طبيعية بألوان ثلاث لا غير، هم الأسود والأحمر والأبيض.
في منتصف القرن الماضي، عرف الفن الطاطاوي تراجعا وأهمل من طرف السكان لقلة الموارد وحالة الجفاف التي اجتاحت المنطقة، ولاعتماد ميدان البناء على الأسقف المصنوعة من الاسمنت تماشيا مع ما يسمونه التطور والعصرنة.
فصار يتراجع وأصبح معرضا للانقراض.
سنة 1962، تركت المدرسة. ولغيرتي على هذا الفن التقليدي والتراث الأصيل الذي أدار له الجميع الظهر، ومات أغلب الحرفيين المهرة الذين يتقنونه، وشروع بعض المتطفلين في إنجاز بعض الأسقف من القصب مدعين أنها فن الطاطاوي وهي لا تمت له بصلة، قررت أن أعيد إحياءه.
بدأت بمنزل العائلة القديم، وأخذت في ترميم سقفه الطاطاوي.
كما ذهبت للبحث عمن تعلم الصنعة من أهلها في المنطقة ورممت المنزل بأكمله بما أوتيت من مواد أولية متاحة. وابتداء من سنة 1965، باشرت العمل على ترميم المنازل التي بها أسقف الطاطاوي بالمنطقة».
نقطة التحولوبداية رحلة الانبعاث
قال لنا الحاج أحمد باحسين:«استمريت على هذا الحال إلى أن شاءت القدرة الالاهية سنة 1973، وتعرفت على جراح يعمل في فندق “المامونية” بمراكش، يرغب في بناء منزل تقليدي بالتراب الأحمر بمنطقة “الداوديات”،ولا يرغب في استعمال المواد الحديثة، بل يفضل المواد التقليدية. فسافر إلى المناطق الجنوبية ليبحث عن المواد الأولية.
وصل إلى بعض الواحات يسأل عن التقنيات التقليدية في البناء وعن هذا النوع من الأسقف بالتحديد، ليخبروه أن كل من يتقن هذا النوع من العمل توفي.
بحث طويلا، وفي يوم، قدم إلى مستشفى “الدوار” الذي أقطن فيه، وخلال حديثه مع بعض العاملين بالمستشفى،أخبروه أن من يتقنون الحرفة ماتوا جميعا، وليس هنالك إلا شاب صغير أخذ على عاتقه مهمة ترميم الأسقف المبنية بهذه التقنية في المنطقة، سنعرفك عليه، ولربما يعجبك عمله.
جاء إلى منزلي هو وزوجته، وبمجرد أن دخل بيتي قال: هذا ما أبحث عنه بالتحديد. فسألنيإن كنت لا أمانع في السفر إلى مدينة مراكش.
وافقت، فاتفقنا على أن يُعْلمني حال إتمام الجدران لألتحق به وأشرع في العمل. بعد شهرين، اتصل بي. نزلت مراكش والتقيته وذهبنا إلى منزله. طلب مني أخذ القياسات وتحديد ما يلزمني من المواد الأولية.
عندما انتهيت، قال لي أن أجلب المستلزمات وأرجع لمباشرة العمل.
عادة بمدينة طاطا، الزبون هو الذي يتكفل بالمادة الأساس، لكن الجراح كلفني أنا بهذه المهمة، فلم أمانع.
عدت إلى مدينة طاطا لجمع ما يلزمني للعمل. كنت وقتها بحاجة إلى حوالي 120 عارضة من الخشب والصباغة والبحث عن اليد العاملة التي ستساعدني وبعض الآليات. لكن المشكل كان هو قلة خشب النخيلأو ما نسميه بالمنطقة بي “تستينت”.
سافرت حوالي 70 كيلومترا للبحث عنه، وأخذت أجمع من كل واحد ما لديه، 10 و20 إلى أن أتممت الكمية التي تلزمني. حملت البضاعة في شاحنة إلى “الدوار” وهناك بدأت عملية تجهيز المادة الأولية وهي ما نسميه عملية “تنجاد” خشب النخيل. المشكلة الثانية التي تعرضت لها في ذلك الوقت هي المادة الأساس الثانية المسماة بي “الدفلة”، وهي مادة لم تعد متوفرة لدينا بالمنطقة لأن الوادي جف.
فكرت في الذهاب للبحث عنها نواحي مدينة تارودانت التي نملك فيها منزلا وزاوية بها أسقفالطاطاوي القديم وبالمنطقة يوجد واد أسيف.
تعاقدت مع أناس على أن يجهزوا لي الكمية المطلوبة لأمر بشاحنتي وآخذها في طريقي إلى مدينة مراكش، لكن لم يفأحد منهم بوعده مما أوقعني في مأزق.
فقررت أن أشرح المشكل للجراح وأن أكلفه بالبحث عن “الدفلة”.
وذاك ما كان. بدأت العمل في منزله وغصة “الدفلة” عالقة في حلقي. سألني الجراح هل من مشكل، قلت له لا مشكل إلا عدم تواجد “الدفلة”. فسألني وما هي؟ فقلت له هو نوع من الخشب ينبت على جنبات الوادي مثل واد نفيس ووادي تانسيفت ومجمل الأودية. فعرض الأمر على من يعمل معهم بالفندق، فاقترحوا عليه أن يجلبه من مدينة ورزازات والنواحي.
وأنا في هذا الوقت أكمل تحضير خشب النخل الذي بين يدي من نجارة وصباغة وما إلى ذلك. عندما قدموا بالدفلة، أتممنا العمل وفرح به كثيرا هو وزواره. فأعطاني رسالة وبعض الصور لما أنجزناه لأعطيهملشخص يدعى شارل بوكارالم أكن اعرف من هو في ذلك الوقت، لأعلم بعدها أنه مهندس ديكور مشهور عالميا.
أعجب السيد بوكارا كثيرا بالعمل الذي أنجزناه
سنة 1976، سافرت إلى مدينة أكادير للعمل مع مهندس ديكور هناك. وتعرفت على الحاج يحيى الذي أعجب بالعمل وعرض علي العمل هناك ووفر لي المشغل واليد العاملة والمواد الأولية وأنجزت له فندقا بتقنية الطاطاوي.
ومن تم سافرت الى أبي الجعد وخريبكة ومدن أخرى. فبدأنا الاشتغال على إحياء الطاطاوي وقدمنا به من مدينته الأصلية طاطا، ليحل بمدينة مراكش التي تبنته وزخرفت به أسقف المنازل والرياض ومنها انتشر عبر العالم ووصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
فصار العمل بفن الطاطاوي يمازج ما بين التقليدي والحديث من خلال الاقتراحات وتبادل الأفكار إلى يومنا هذا».
استراحة محارب
راهن الحاج أحمد باحسين على فن بلده وتراثه الأصيل وربح الرهان. اليوم كما يقول:«لم أعد أقوى على العمل بنفس الوثيرة، لكنني متواجد وأرحب بتعليم كل من له القريحة.
وبالفعل كونا حرفيين مهرة في مدينة طاطا.وفي هذا الإطار، تواصلوا معي من الوزارة ومنظمة اليونسكو من أجل تعليم وتدريب مجموعة من الشباب على هذه الحرفة وهذا الموروث الثقافي للمنطقة، وأنا جد سعيد بهذه الالتفاتة لموروثنا المحلي الذي أصبح عالميا.»
الحاج باحسين سلم الرسالة إلى ابنه حسن باحسين الذي عمل مع والده وعمل على تطوير هذا الموروث الثقافي لمدينة طاطا حتى يبقى حيا لقرون أخرى قادمة.
فحدثنا هذا الأخير عن الزخارف التي ينجزونها وعن مدة التعلم التي يستغرقها الحرفي لإتقان أصول الطاطاوي: «المدة التي يستغرقها الشخص لتعلم الحرفة، تتراوح ما بين تسعة أشهر إلى سنة حسب قريحة المتعلم ودرجة ووثيرة استيعابه للمهارات الفنية.
أما بالنسبة للأشكال الهندسية التي نعمل عليها، فنعمل ضمن مقترحين. الأول هو أننا جهزناألبوما “للزواقات” التي نقوم بها، يختار منها الزبون ما يرغب.
والثاني هوأنيقدم لنا الزبون شكلا هندسيا معينا ونعمل نحن على إنجازه أو يعتمد على مهندس ديكور يشرح لنا الشكل النهائي الذي يود التوصل إليه، فنقوم بإعداده له حسب الرغبة.
وخلال العمل، نقوم بتجهيزكل متر مربع من الطاطاوي على حدى من “تنجاد” وصباغة وما إلى ذلك، وهذا يستغرق يوما كاملا».
وللتمكن من الحصول على نتيجة في مستوى سمعة الطاطاوي يجب توفر المواد التي عدها لنا حسن باحسين في: «الخشب الأحمر، المواد الحافظة للخشب (إذا لزم الأمر)، الورنيش أو الطلاء وهو اختياري».
أما عن طريقة الاشتغال، فيقول السيد باحسين الابن: «يجب أن يكون الخشب الأحمر جافا وخاليا من العيوب قبل البدء في العمل. ومن المهم أيضا معالجته بمادة حافظة لحمايته من الرطوبة والحشرات.
كما هو مهم التأكد من أن حجم إطارالسقف الطاطاوي مناسب وأن الأجزاء متصلة بشكل صحيح لاستقبال العناصر الزخرفية ذات الأشكال والأنماط المختلفة.
وعند عملية تجميع السقف، من المهم التأكد من أن التجميع قوي ودائم. لنصل إلى مرحلة التشطيب النهائي، وهنا يمكن تشطيب السقف الطاطاوي بالورنيش أو الطلاء لحمايته وإضفاء مظهر لامع أو غير لامع حسب الرغبة».
وبعدما كانت الألوان في فن الطاطاوي مقتصرة على ثلاث، وسع الابن لائحتها لتناسب كل الاذواق، وهي عملية كما قال الحاج أحمد باحسين جاءت عبر تبادل الأفكار والتفاعل مع مهندسي الديكور والزبناء.
أنامل حرفيي الطاطاوي أبدعت تراثا كلما زحف عليه قليل من الغبار، انتفض ليعود بحلة أبهى لأن له حراسا ومخلصين لم تثنهم قلة الإمكانيات في زمن ما من المثابرة للدفاع عن إرث الأجداد.