صباح الأنباري
فنون الإيماءة هو العنوان المركزي لكتاب د. احمد محمد عبد الأمير المتبوع بعنوان توضيحي هو (المايم والبانتومايم) ولو دققنا النظر في العنوان سنجد أن د. أحمد استخدم صيغة الجمع للإشارة الى كم من الفنون وليس الى واحد أو اثنين.
فالعنوان الثانوي التوضيحي استند على مفردتين فقط (المايم والبانتومايم) والكتاب كما اطلعنا عليه لم يتناول أي فن مسرحي إيمائي أخر باستثناء الفننين المذكورين في العنونة.
ومع أن الاثنين في الحقيقة ليسا منفصلين تماما عن بعضهما فأحدهما مرتبط بالآخر برباط القرابة والانتماء للمجموعة نفسها وعليه نرى أن من الأفضل في هذه الحالة هو استخدام صيغة المفرد (فن الإيماءة) أذا توخينا الدقة، ومع هذا يظل السؤال قائما: هل مفردة الإيماءة شاملة لمغزى الكتاب وممثلة لكل فصوله؟ ولكي نجيب بدقة نضعها تحت مجهر المعاجم العربية فقد جاء في قاموس الغني أنها إشارة باليد أو الحاجب أو غيرها، وجاء في لسان العرب: (أومأ له أشار إليه بيده أم بعينه أو بحاجبه أو برأسه، كدلالة على الموافقة) وأيضا: (الإِيماءُ أَن تُومئَ برَأْسِكَ أَوْ بيَدِك كما يُومِئُ المَرِيضُ برأْسه للرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وقد تَقُولُ العرب: أَوْمَأَ برأْسِه أَي قال لا) فالإيماءة هي جزء محدد من الإشارة ولها معان كثيرة غير ما عرجنا على ذكره فمساحة الإيماءة لغويا محدودة جدا على خلاف الإشارة التي تأتي جامعة وشاملة.
وربما يكون للدكتور قناعة أخرى تختلف معنا أو تتناقض مع ما ذهبنا إليه ونحن نحترم القناعات وان اختلفنا معها. لقد وردت في السياق نفسه تسميات وعنوانات كثيرة مختلفة نذكر منها ما تعلق بمفردة إيماءة مثل: المسرح الحركي، التعبير الجسدي، المشهد الإيمائي، التمثيل الإيمائي، المسرح الإيمائي، المسرح الإشاري.
ومنها ما تعلق بمفردة الصمت مثل: النص الدرامي الصامت، التمثيل الصامت، المسرح الصامت، السيناريو الصامت، السينما الصامتة.
ومنها ما تعلق بالمفردين المركزيتين المايم والبانتومايم مثل المايم الموضوعي والمايم الجسدي والمايم الصوتي.. إلخ، والعناوين كلّها تصب في مصب هاتين المفردتين، ويبدو أن الأستاذ احمد أراد أن يأتي بها كلّها العربية منها والأجنبية داخل كتابه وله الحق في الاختيار كمؤلف للكتاب، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا هذه الكثرة في العناوين ألا يمكن اختصارها واقتصارها على عنوان رئيسي واحد كي يجنب القارئ الدوران في هذه الحلقات التي تكرر نفسها وتعطي أكلها في معنى دلالي واحد حسب؟ أليس الاقتصاد فيها يحقق الدلالة مثلما يحققها عندما تكون الحالة مرتبطة بالأداء؟كما جاء على لسان المؤلف في كتابه (فنون الإيماءة):(إلا أن كثرة العلامات (الإيماءة) الكثيرة والثرثرة الحركية على خشبة المسرح تؤديان أحيانا الى إعاقة توصيل الدلالة الرئيسة للمشهد الصامت الى المشاهد الذي لا يكون أمام كم كبير من العلامات، ومن أكثر من مصدر وفي زمن واحد، فتمنعه من التواصل والاكتشاف)اجزم أن هذا القانون ينطبق على الحالتين (العنونة والأداء).
ممثل البانتومايم يعتمد على مهاراته الإشارية باستخدام اليدين بالدرجة الأساس وبمساندة من بقية أعضاء الجسم كما جاء في الكتاب، وهو هنا كائن مهاراتي بالدرجة الأولى وموضوعاته غير معقدة في الأعم الأغلب وأفكاره بسيطة يسهل تشخيصها، ولهذا لم يكن بحاجة الى نص أدبي أو فني يحفظ له ما يقوم به من الحركات والإيماءات الإشارية، وحتى بعد تطور هذا النمط المسرحي بقي في غنى عن التدوين وكل ما نقل عن المايم والبانتومايم يشكل إخبارا عن العروض وليس النصوص على الرغم من بعض الإشارات الواردة على لسان مؤرخي المسرح من وجود نصوص أثرية هي في اعتقادي الشخصي نقلت لنا احتفاليات راقصة أو أشعار حاولت أن ترقى الى المستوى الإيحائي الإشاري حسب أو هي في أحسن أحوالها فنون (ما قبل المسرحية)أو (شبه المسرحية) وهذا هو عين ما أشار إليه الكاتب الكبير جميل نصيف التكريتي في كتابه الموسوم (المسرح العربي: ريادة وتأسيس).
بشكل عام يمكننا القول إن تاريخ المسرح اعتمد بالدرجة الأساس على النصوص التي دونت واحتفظت بها الأجيال جيلاً بعد جيل من أيام العمالقة الثلاث ثسبسويوربيدسوسوفكليس.
أما تاريخ العروض فهو نقل لما قاله أو دونه مؤرخو المسرح عن العروض وان وجد فهو نادر بحيث لا يمكن عده حلقة مهمة في تاريخ العرض المسرحي، وقد أورد لنا دكتور احمد بعض ما قاله الأدباء والفلاسفة بما يمكن اعتباره نقدا لتك العروض التي بدأت تتطور بتقدم الوقت والحضارة ويضرب لنا د. احمد مثالا على ذلك ما قاله لوسيان ساموساتا بعد مشاهدته لاحد العروض الصامتة متسائلا عن الأقنعة الخمس الموضوعة على خشبة المسرح من سيمثل الأجواء الأخرى وبعد أن علم أن القطعة كلها يمثلها ممثل واحد صاح (أنا ألاحظ أن لديك جسداواحدا فقط وفاتني أنك تملك عدة أرواح). وهذا ينطبق يشكل أكبر على التمثيل الصامت وقد تحدث كثيرون عنه كتاريخ منقول تم تدوينه لحظيا أو بعد زمن من وقوعه. وفي كتابه (فنون الإيماءة).
يذكر لنا المؤلف د. احمد محمد عبد الأمير عشرات الأمثلة عبر التاريخ من أول بذرة للمسرح على الأرض وحتى الوقت الراهن وكانت إشاراته للنصوص الصامتة مقتضبة أو ملتبسة لكونها وردت مصحوبة مع الغناء وإنشاد الكورس الذي يفسر للجمهور فكرة العمل المسرحي الصامت. وعلى الرغم من التطورات التاريخية الكثيرة والتي يسهب في تفصيلها د. احمد محمد تفصيلاً دقيقاً في كتابه لم يرد ذكر نص صامت خالص قبل شكسبير الذي نظم عن طريق شخصية هاملت مشهدا دراماتيكيا صامتا عدًه د. احمد- على الرغم من انه لم يكن نصا صامتا خالصا –{أقدم نص درامي صامت (سيناريو) في ذلك العصر}.
أما كنص صامت خالص متكامل فلا وجود له قبل أن يبدأ بكيت بكتابة أول نص صامت عام 1956 تحت عنوان (فصل بلا كلماتAct Without Words) وهي تجربة فريدة ومتفردة على الرغم من عدم تكرار بيكت لهذه التجربة.
فاذا اعتبرنا عمله هذا تجريبيا في مجاله فانً توقف التجربة عند نص واحد لا يجعل من بكت كاتبا تجريبيا صامتاً بحسب رأي الأستاذ الراحل سامي عبد الحميد.
فالتجريب عنده يعني أن تأتي بجديد قادر على تكراره بجديد أيضاوهكذا يستمر فعل التجريبيةبفاعلية لا تتوقف حتى تثبت وجودها بين الكم الهائل من المنجز المتحققسابقاً.
لقد تناول الأستاذ أحمد المدارس الخاصة بالتمثيل الصامت وأعطانا تفاصيل كانت غائبة الى حد ما عن القارئ العربي وقد تدّرج في إلقاء الضوء عليها عبر المراحل الزمنية المتلاحقة ومما يشار إليه في هذا الباب هو ما ذكره عن (المايم الصوتي) وكيف دخل الى عملية التمثيل الإيمائي عن طريق الممثل والمدرب (ايتيانديكرو) الذي فسره على انه (لغة الصوت النابعة من الجسد) والتي أضاف إليها الصرخات والتنهدان والتأوهات وغيرها الى هذه اللغة الجديدة، هذا فضلا عن تقديمه نظاماً حركياً سمي (نظام ديكرو الحركي) المكون من عشرين حركة ذراع مقسمة على سلسلتين.
لقد منحنا المؤلف د. أحمد محمدأفضل فرصة للتعرف على المنظرين ومدارسهم التي ساهمت جميعها في تطوير عملية التمثيل الإيمائي، ومنهم جان لوي بارو، ومارسيل مورسو، جاك لوكوك، وتوماستسفسكي الذي تحول البانتومايم على يديه من الفردانية(مونومايم) التي اشتهر بها المسرح الإيمائي الفرنسي الى الجماعية المصحوبة مع بعض التغييرات التي طرأت على طبيعة الأداء الفني بشكل مقصود مثل الملابس الضيقة على عكس الملابس الفرنسية الواسعة واستخدام تعابير الوجه بدلا من الماكياج الأبيض، واستخدام الموسيقى وإدخال المرأة كمشارك في العمل الإيمائي.. إلخ.
وتعتبر مدرسة لوكوك أخر مدرسة فرنسية أرست قواعد المسرح الإيمائي على صعيدي الابتكار والتجديد. أما ما يخص الممثل الإيمائي فهو من يقوم بالعمل بشكل كلي فهو من يصوغ فكرة النص وهو من يخرجها ويمثلها هو إذن طاقة ابتكارية خلاقة وهذا ما أكده د. احمد في فقرة (طاقة الممثل)قائلا الآتي:
{طاقة الممثل: جهد الممثل ينصب على طاقتين: الأولى تسمى (طاقة التأليف) والثانية (طاقة الأداء الإيمائي) الأولى معنية بالتأليف والابتكارفي صياغة فكرة عرض إيمائي ضمنبيئة المتلقي واحتياجاته الفكرية، والمعرفية، والجمالية، من النادر وجود نص مكتوبليقدم للعرض الإيمائييسمى السيناريوالإيمائي الصامت، هو أشبه بالسكربت المسرحي. لذا يكون جهد التأليف على عاتق الممثل الإيمائي}
وفي هذا التضمين تأكيد على عدم وجود نص صامت مكتوب للعرض المسرحي بشكل عام. ففي العموم يقوم الممثل الإيمائي بصياغة الفكرة فقط وهي فكرة بسيطة تبنى على فعل مركزي يسهل على الممثل خزنها في ذاكرته ليقوم بعد ذلك بتشخيصها وهذا هو ما أكدناه مرارا في كتاباتنا ويمكن تبين بساطة النص من خلال النص الذي أورده لنا د. احمد محمد:
{يقترب وثني ثري، يودع كنزه ويدعو القديس أن يحرسه له في أثناء ذهابه بعيدا في رحلة. بمجرد أن يذهب الوثني، يدخل لصوص يزحفون متسللين الى الضريح، ويحملون الكنز في صمت. يعود الوثني بسرعة، وعندما يكتشف أن أملاكه قد سرقت، تنتابه ثورة غضب ويوبخ بقسوة ويضرب تمثال القديس الذي فشل في حماية كنزه.
هنا يتحرك التمثال، وينزل من كوته في الحائط ويذهب الى اللصوص ويقف أمامهم. وفي رعبهم من المعجزة يعود اللصوص مرتعشين الى الكنيسة، ويعيدون كل ما أخذوه. يعود تمثال القديس الى الكوة. الوثني يستخفه الطرب والنشوة ويغني ويصلي للتمثال}
الفكرة المركزية هنا بنيت على فعل سرقة الكنز وإعادته الى الكنيسة لتتحقق المعجزة، وأما الأفعال الداعمة للفعل الرئيس فهي عودة الثري وضربه لتمثال القديس ونزول التمثال ليخيف اللصوص.
الفعل الرئيس مع الأفعال الداعمة تشكل بكليتها فكرة العرض وهي فكرة لا يصعب الى الممثل الإيمائي خزنها في ذاكرته الفعالة.
ولهذا لم يكن تدوين النصوص ضروريا لكتابها ولهذا أيضا أكد د. احمد على الاستثناء في هذه الحالة ووصفها بالنادرة.
ومما يشار إليه في هذا الكتاب هو الركون الى التفاصيل الكثيرة جداً والتدقيق العميق في كل جزئية من موضوعاته الكثيرة والمكرر معناها أحيانا. وهذا لم يفسد قيمة الكتاب ولم يسمه بميسم عدم القدرة على التشويق لأنه كتاب علمي موضوعي منهجي شامل تضمنت فصوله على كل ما له صلة بالمايم والبانتومايم بالتفصيل الدقيق.
وما يلاحظ على هذا الكتاب المتفرد بمادته هو تخليه عن ترقيم صفحات المواد المفهرسة التي بدا أثرها السلبي واضحا حين أردنا مراجعة بعض الفقرات فاضطررنا الى تقليب الصفحات سعياً وراء الوصول إليها.