ليلى خزيمة
«من الصعب، إن لم يكن من باب المستحيلات، أن يتحدث الشخص عن كتابه. فحين نصل إلى سن معين، أصدرنا كتبا كثيرة ومقالات وترجمات إلى غير ذلك، أعتقد، كما قال الآخر، تتوقف نسبيا الأحلام وتبدأ الذكريات. هاته الذكريات التي عشتها وعايشتها في زمن مضى، هي ذكريات مضت في زمن ما، داخل بقعة جغرافية اسمها الحي المحمدي، في الستينيات كطفل والسبعينيات كفتى والثمانينيات كشاب.
هذه المرحلة الزمنية كان لابد أن نعود إليها ونخط القلم للحديث عنها ونسلط بعض الأضواء عليها». بهذه الكلمات، بدأ الأستاذ والمبدع والكاتب حسن نرايس حديثه عن إصداره الجديد: الحي المحمدي، وجوه وأمكنة، محكيات وبورتريهات.
كلمات رسمت لون الحكاية، حكاية طفل، حكاية جيل، حكاية الفضاء/البطل.
القيم الروحية والثقافية والوطنية
عندما تحضر جلسة توقيع كتاب ما لكاتب ما، تعرف المحطات التي ستمر منها الجلسة تباعا، من كلمة تقديم قصيرة وموجزة لمن يديرها، وكلمة أوجز للكاتب مع قراءة بعض الأسطر من الكتاب والمرور مباشرة إلى التوقيع والإهداءات والصور. لكن في يوم السبت الماضي، لم تجر الأمور تماما على هذا النحو. فقد تحولت الكلمة التقديمية للإعلامي والمبدع الدكتور عبد الله الشيخ الذي تكرم بإدارة الجلسة، إلى خواطر باح بها في حق الكاتب حسن نرايس، ليسافر بالحضور، وجلهم من أبناء الحي المبدعين، داخل عوالم الكتاب موضوع الجلسة بقوله: «عندما نقرأ الكتاب، نستشف أن الحي لم يعد ملكا للقاطنين فقط، بل هو ملك للمغاربة.
ولا أبالغ عندما أقول أن في هذا الكتاب أَسْطَرة، أي أن الحي أصبح أسطورة تسكن، ليس فقط الوعي الفردي / الجماعي بل حتى اللاوعي.
صدقوني وأنا القادم من مدينة الصويرة، وجدت الكثير من القواسم المشتركة مع هذا الحي. وجدت ذلك الحمق الجميل، والجنون المعقلن، والشغب في الانفتاحية.
حقيقة، الحي المحمدي هو مدرسة كبيرة جدا». الشيء الذي أكده الحاج بوشعيب فقار محافظ مؤسسة مسجد الحسن الثاني حين قال: «سعيد لأن موضوع اللقاء هو هذا الحي بأمكنته وزواياه، بِبَناته وأبنائه وأجوائه النقية وأنفاسه الزكية. هذا الحي الذين كان بعضُ من وُلِد فيه، وهم لحسن الحظ قلة قليلة جدا، كان يستعر من الانتماء إليه لأنه بين قوسين “كاريان سنطرال”.
وقد أصبح الآن العديد مِن مَنْ عاش خارج هذا الحي، يحاول انتحال صفة الانتماء إليه. وقد عثرت في ثنايا هذا الكتاب على جملة مختصرة مفيدة أشار إليها حسن نرايس بكثير من الشعور الجميل من الانتماء، وهي أن هذا المكان لم يعد له مفهوم جغرافي محدد بقدر ما أصبح مفهوما لمجموعة من القيم الروحية والثقافية والوطنية.
لقد ولدت وسكنت بالحي المحمدي ولما انتقلت منه بعد حصولي على الشهادة الابتدائية في صيف 1959، ظل هذا الحي يسكنني إلى هذه الفترة التي أقف فيها مطلا غير بعيد عن 80 سنة من عمري. هذا الحي الذي يشغل بال أبنائه باستمرار، علمهم كذلك الحضور المستمر في كل محيط يعيشونه. لذلك فإن اهتمامهم يمتد انطلاقا منه إلى المحيط الأقرب وهو مدينة الدار البيضاء وصولا إلى الوطن».
السرد بصيغة المعايشة، متعة واستفادة
يقول الكاتب والشاعر والناقد الفني مبارك حسني في ورقته التي أسماها مثولوجيا مغربية: «يُعرف حسن نرايس كاتبا بارتياده مجالات كثيرة ما ينفك يشيعها بين الناس على الصفحات الثقافية طيلة عقود، شاهدا ومشاركا همه وآراءه واستنتاجاته الخاصة الشخصية المُؤَسَّسة على المعرفة.
بعد ذلك يُشيعها في كتب يصدرها ليخلد كل ذلك، كما فعل مع الكتاب اليوم. من له الحظ في مجالسة حسن نرايس، ستتوفر له متعة الاستماع والاستمتاع لكل هذا، كما متعة الاستفادة الفكرية. هذه المجالات التي يرتادها حسن نرايس ككاتب، هي بطبيعة الحال كما تعرفون، الأدب الساخر، الفكاهي أو التفكهي الذي يُعد فيه باحثا مختصا في شقه الأكاديمي الرصين لأن له رسالة جامعية هي أول رسالة في هذا المجال بجامعة السوربون بباريس، كما نلاحظه في شقه الإبداعي. المجال الثاني في الكتابة عند حسن نرايس هو السينما، وهنا هو حجة، بمعرفته الواسعة النافذة بخبايا الأمور في السينما المغربية والعربية وأيضا السينما العالمية وهو الذي قضى ما قضى في فرنسا وشاهد ما شاهد من روائع في هذا المجال. وهي معرفة مُؤَسَّسة عن الاطلاع والقراءة والمشاهدة وأيضا عن المعايشة.
فهناك أشياء لا نجدها عادة في الكتب، ولكن نجدها عند السيد حسن. فعندما تجالسه تستمتع وتستفيد. وقد خص هذه السينما بكتب دالة تغني قارئها بالكثير مما يجب التعرف عليه للفهم وتكوين الرأي الخاص.
ثم هناك المجال الثالث للكتابة، وهو تعلقه الكبير بالحي المحمدي وإشاعته بين الناس. فلا يمكن أن تجالسه ولا يذكر الحي المحمدي سواء في ندوة أو لقاء منظم أو في لقاء حميمي.
الحي حيث ولد ونشأ وترعرع. الحي الشعبي بامتياز، حيث تعلم أبجديات الحياة، وحيث اكتسب مناعة مواجهة عوائق وعراقيل الحياة. الحي الذي دخل ذاكرة المغاربة، لما منحه من شخصيات رائدة في ميادين الثقافة والفن والرياضة والاعلام ومجالات أخرى. إذا، كان لابد، بل من واجبه أن يخص هذا الحي بكتاب. وقد قسم كتابه إلى قسمين رئيسيين.
الأول عبارة عن سيرة ذاتية فضائية علائقية، مع تضمين لجانب الشعور والنفس لحسن نرايس.
سيرة ذاتية للحي كما عَبَرَتْ ذاكرته طفلا ومراهقا. والقسم الثاني، لقطات من سيرة الشخصيات المعروفة أو المؤثرة التي رسخت الحي المحمدي في ذاكرة المغاربة وفي ذاكرة حسن أو عبر ذاكرة حسن».
لذلك وكما قال الحاج بوشعيب فقار: «ليس بدعا أن يكتب حسن نرايس عن بعض أمكنة وأبناء الحي البسطاء الذين صنع كل واحد منهم شيئا ما يسعد الناس أو يستحق أن يذكر به. فقد أشرت لوفائه لفضاء ميلاده ونشأته، ولحسن الحظ أن معظم أبناء هذه المنطقة لا يعيشون في حياتهم الحالية ماضيا افتراضيا متجاهلين ما كان من واقعهم.
لذلك فإن كل إبداع أو إنتاج أو عمل أو موقف لن تجد فيه إلا الصدق. ومن تم فإن مفردات الفصول التي كتبها تشدنا شدا. ونحن نتهجى حروفها، نشعر ونحن في حالة نفسية متفاوتة ومختلفة بقدر ما تحمل من ابتسام ورضا في سرده لبعض الوقائع، بقدر ما يشوبها من أسف على تواري ذلك الماضي الجميل الذي لن نعيشه». سرد تخلله الاقتباس كما تحدث عنه مبارك حسني.
فكل جزء وكل فصل صدره باقتباس من الفلسفة، من الشعر، من المفكرين، من كلمات مجموعة الغيوان. وهناك اقتباسات من أجمل تعابير وأمثال الدارجة المغربية، وهناك تعابير خاصة به نجدها في كتاباته: «وهي في هذا الكتاب تعد مدخلا تأمليا أولا قبل الشروع في قراءة كل فصل وكل نص».
ثلة من المبدعين، والبقية تأتي
لم يترك الأستاذ حسن نرايس لنا الفرصة لطرح السؤال، فقد أجاب عنه بنفس روح الطفل الذي يجيش عقله بالتساؤلات والملاحظات والتأملات: «التذكر دائما يخلق الإشكالية. بالنسبة للمحكيات في الكتاب، هي محكيات وقعت لي شخصيا مع فضاء معين وأناس معينين وحالات معينة ووقائع معينة، داخل الحي، في فترة زمنية معينة منذ “المسيد”.
فيما يتعلق بالبورتريهات، اخترت 30 بورتريه.
ستسألونني عن المعايير والمقاييس التي اعتمدت عليها في اختيار هذا الوجه دون الآخر؟ سأقول لكم أولا، لا يمكن لي أن أكتب عن كل المبدعين في الحي المحمدي. أحتاج إلى العشرات بل مئات الكتب. ثانيا، كتبت عن هؤلاء لأنني أعرفهم وتعرفت عليهم.
استفدت منهم من قريب أو بعيد، جالست معظمهم، أعرف تمام المعرفة بأنهم يحبون الحي المحمدي ويحملونه معهم أينما حلوا وارتحلوا. بالطبع، لا يمكن أن أكتب عن كل المبدعين، الفنانين، الأدباء، الجمعويين، الرياضيين وغيرهم في هذا الكتاب. أوقفت السرد أولا عند مواليد 1970، لأنهم من جيلي.
ثانيا، لا يمكن ألا أبدأ بالعربي الزاولي بحكم السن وبحكم تموضع الاسم داخل الحي. ثالثا، عندما تحدثت عنهم، لم أضع سيرة ذاتية، لأنني ما أدرجتهم في كتابي إلا ولهم وزن وحضور. أنا كتبت بصيغة النص الأدبي حول شخصية محورية وعلاقتي بها وأعرف قيمتهم. لأنني لاحظت أنه عندما نود أن نكرم شخصا ما، نجد نفس الوجوه التي تتكرر ودائما ما تكون من مجال الفن. في حين، عندما ألتقي أدباء في مدينة طنجة أو أكادير، فكلهم يعرفون حسن برما.
وعندما ألتقي زجالين ورسامين في الرباط والقنيطرة، فهم يعرفون بطل. والإعلاميون في المغرب أجمع يعرفون حسن حبيبي. كما أنه لا يمكننا أن نبخس حق وقيمة محمد مفتاح والسعدية أزكون ومحمد مفتكر.
كلهم من جيلي. بينما من ازداد في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أتمنى أن يأخذ أحد آخر المبادرة والقلم ويكتب عن هذه الفترة».
محكيات تبعث على الغيرة في نفس كل مغربي. غيرة على الحي الذي لازال وسيظل حيا في قلب ال مبدع حسن نرايس: «أدركت في نفسي أنه رغم الفقر المدقع، كانت المحبة والحب، كان الاخاء وعار الجار على الجار. كانت العائلة الكبرى بين جدران فضاء اسمه درب مولاي الشريف وباقي الدروب الأخرى بالحي المحمدي».
ليستطرد عبد الله الشيخ قائلا: «لا أبالغ إذا ما قلت أن دباجة الدستور التي فيها الهوية المغربية بكل مرجعياتها وروافدها، نجدها بالحي المحمدي. فيه كل شيء. التنوع اللغوي والثقافي وما إلى ذلك، فهو جامع وهذا هو الغنى. وحسن نرايس يقوم بهذا الدور، فهو جامع وفي هذا الكتاب جمع أشياء كثيرة».
أربع ساعات، شدت انتباه الحضور دون ملل، فالحكاية هي حكاية عاشق نطق عن الهوى، هوى الحي المحمدي بكل حمولته ورمزيته شخصياته، فتحولت حصة التوقيع إلى درس في الوفاء والإخلاص للدرب وللحي الحي دائما وأبدا.