مصطفى السباعي
قبل أسابيع قدم رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها السيد محمد بشير الراشدي التقرير السنوي للهيئة برسم سنة 2023. وخلاصة التقرير تتجلى في رقمين أساسيين، أولهما الرقم 38 العلامة التي حصل عليها المغرب على سلم مؤشر إدراك الفساد، متقدما بنقطة وحيدة جزاء أزيد من 20 سنة من الاشتغال على محاربة الفساد (حصل على النقطة 37 سنة 2002). وثانيهما الرقم 50 مليار درهم التكلفة السنوية للفساد بالمغرب. لماذا؟
فيما يلي بعض الملاحظات حول جوهر التقرير المرتبط بجوهر مهام الهيئة والتي تتولى، على الخصوص، طبقا لمقتضيات الدستور والقانون 46.19، مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات الوقاية من الفساد ومكافحته، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والإسهام في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة وثقافة المرفق العام وقيم المواطنة المسؤولة.
في باب التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة في مجال الوقاية من الفساد ومحاربته ذكر التقرير أن الهيئة اقترحت تصورا شموليا مندمجا ومتكاملا برؤية طموحة واضحة وأهداف محددة، تروم إحداث تغيير عميق يجعل الفساد يأخذ منحنى تنازليا مستداما ويرفع الحواجز الناتجة عن الممارسات الفاسدة وتداعياتها على التنمية المنشودة، تم بناؤها على ست ركائز للتغيير هي:
- التربية والتكوين لتعزيز قيم النزاهة والحوكمة المسؤولة،
- مقاربة هادفة للشفافية وجودة الخدمات العمومية،
- الحكامة والنزاهة ركيزة أساسية لتحسين مناخ الأعمال،
- شفافية وتخليق الحياة السياسية والعامة،
- تشريعات من أجل تجفيف بؤر الفساد،
- خلق بيئة ضامنة للردع ومكافحة الإفلات من العقاب.
وبعارضة أساسية هي إعادة الثقة لانخراط واسع وتعبئة مجتمعية ضد الفساد.
ونرى أن تحقيق التغيير العميق المنشود يستوجب العمل على ركيزتين فقط أولاهما التربية والتكوين وثانيهما إعمال القانون، وأما الركائز الأربع الأخرى فهي تحصيل حاصل الاشتغال على الركيزتين المذكورتين. كيف؟
يعتبر الفساد بمثابة مرض مزمن وراثي، مرض مزمن بالنسبة للبالغين يورثونه للقاصرين من خلال السلوك والممارسة اليومية، الأمر الذي يستوجب نوعين من التدخل للقضاء عليه، التدخل الأول يستهدف البالغين الذين تشربوا ثقافة الفساد وأصبح جزء من تكوين شخصياتهم (ثلاثة أرباع من المقاولات التي واجهت طلب رشوة صرحت أن الطلب قد تم بطريقة غير مباشرة، و18% من خلال طلبات صريحة ومباشرة من لدن الموظفين المعنيين.
ونسبة 3 % صرحت أنها قدمت رشاوى بمبادرتها الخاصة)، وذلك عبر إعمال القانون وتنفيذه دون هوادة، على أن يكون الجميع سواسية أمامه. والتدخل الثاني يستهدف الأجيال الصاعدة؛ القاصرين، عبر التربية والتكوين لأجل تحصينهم من هذه اللوثة.
على أن الآليتين معا تواجهان العديد من الإكراهات في التفعيل، على الهيئة وشركائها العمل على تذليلها.
فبخصوص التدخل الأولالمتعلق بإعمال القانون هناك التمييز وعدم المساواة أمام القانون والافلات من العقاب، تمييز واضح بين المواطنين يعيشونه ويعايشونه يوميا، كمثال على ذلك الإفلات من أداء غرامات خرق قانون السير، إضافة إلى المشكلة العويصة جدا المتمثلة في رفض تنفيذ الأحكام القضائية خصوصا من لدن الدولة في شخص أشخاص القانون العام. (انظر منشور رقم 4-99-د بتاريخ 30 شوال 1419 (17 يبراير 1999) حول إشكالية تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الدولة وإحداث شعبة قانونية بالوزارات والمؤسسات العمومية.) (منشور رئيس الحكومة عدد 2017/15 بتاريخ 07 دجنبر 2017)، وبتاريخ 03 يناير 2023، أكد وزير العدل الحالي في رده على سؤال آني بمجلس المستشارين حول عدم تنفيذ الأحكام القضائية، بأن الوزارة قد أولت أهمية كبيرة لموضوع تنفيذ الأحكام القضائية، من خلال تضمين قانون التنظيم القضائي 38.15 ومشروع قانون المسطرة المدنية عدة مستجدات تحمل إجابات للانشغالات والانتظارات القائمة في هذا المجال.
أجملها في “إحداث مؤسسة قاضي التنفيذ وتحديد اختصاصاته والمسطرة المتبعة أمامه”. ويبقى الحال على ما هو عليه.
وفيما يخص التدخل الثاني فقد ورد في التقرير المذكور للهيئة أن وزارة التربية الوطنية قامت بمراجعة البرامج وتحيين الكتب المدرسية للسك الابتدائي ابتداء من سنة 2018، بهندسة وحدات دراسية موحدة للغات تتضمن قيم النزاهة والتخليق ومكافحة الفساد، همت تحيين ما مجموعه 69 كتابا مدرسيا للتعليم الابتدائي إلى حدود سنة 2021، وإن كان هذا المجهود محمودا إلا أنه لا أثر له في الواقع، أولا بالنظر لطريقة تبليغه للمتعلمين الذين يعتبرون القيم المدرسة بهذا الخصوص مجرد دروس لأجل الامتحان، وليس سلوكا ينبغي تمثله في الحياة الاجتماعية، وثانيا لكون عملية توريث السلوك الفاسد بالممارسة العملية أقوى من تعليم السلوك القويم عبر الكراسة، ذلك أن مظاهر “الفساد السلوكي” يعيشه القاصر ويتشربه عمليا داخل الأسرة وفي الشارع العام وداخل فضاءات المدرسة.
وكمثال على ذلك تدرس المدرسة القواعد الأساسية للسير على الطريق والسلامة الطرقية وتنظم ورشات تطبيقية في ذلك، لكن ما أن يتخطى المتعلم بوابة المدرسة حتى يجد واقعا ملموسا آخر، أبطاله الأهل والأقارب والعابرون من الراجلين والسائقين على الطرقات، مظهره الصارخ هو الخرق السافر لهذه القواعد من قبل البالغين. ليصبح هذا الخرق قاعدة واحترام قواعد استعمال الطريق استثناء.
في زمن “التربية على المواطنة” كانت طفلتي تذاكر درس التسامح ونبذ الكراهية، وقد حازت علامة جيدة عند اختبارها فيه، وحدث أن رفضت التسامح في موقف اجتماعي عابر، فذكرتها بقيم التسامح مع الآخر كما استعرضتها أمامي حينها، فجاء جوابها صادما: “هذاك الدرس دزناه أبابا”.
مسألة أخرى مهملة في المجتمع، وهي التربية على تحمل المسؤولية، وبهذا الخصوص أسرد المعضلة وجذورها وانعكاساتها كالتالي:
أذكر منذ كنت صغيرا، أن والدتي وإخواني الأكبر مني وكل البالغين حينها قاموا بضرب الطاولة التي اصطدمت بها وأنا أحاول المشي على اثنتين.. طبعا هذا التذكر ليس حرفيا، بل بالتداعي وأنا أقوم به لفائدة طفلي في السن نفسها…
دأبت الأسرة المغربية في سياق تربيتها لأطفالها على تحميل مسؤولية أخطائهم للغير.. الطاولة، براد الشاي الساخن، الباب، الحصير، الأخ الأكبر أو الأخت الكبرى وحتى البالغين أحيانا… ما أن يصطدم الطفل بالباب أو الطاولة أو أي شيء مشابه ويشرع في البكاء نتيجة الألم نسارع لضرب الشيء/الآخر باعتباره مرتكب الخطأ في حق الطفل، ولا نكلف أنفسنا أن ننبه الطفل إلى أنه عليه أن ينتبه حيث يجب الانتباه، وأنه هو من يتحمل مسؤولية ما وقع له، وبذلك نحمل المسؤولية للآخر/الشيء ونبرؤه… إنها ثقافة الارضاء عوض ثقافة المسؤولية..
يوما بعد يوم وسنة بعد أخرى يترسخ في أذهان أطفالنا أنهم غير مسؤولين بتاتا عما يقع لهم من مطبات وسقطات، وتكبر فينا الطفولة ويكبر معنا التهرب من المسؤولية…
نلج المدرسة ولا تحاول هذه المؤسسة التربوية أن تصحح الخطأ الذي رسخته فينا الأسرة، وما أن نقع في مشكلة بالفصل حتى نسارع لتحميل مسؤولية الوقوع فيها للآخر/ الشيء… الزميل/ة/ الطبشور/ السبورة… ومنها عدم الالتزام بالقيام بالواجبات المدرسية أو رسم الحروف بالشكل الصحيح ونتدرع بأن القلم غير موات، أو أن حبره قد نفذ، أو أن الورقة ملساء وما شابه… وأذكر زميلا لي لما كنا في السنة أولى ابتدائي كان كسولا ولا ينجز تمارينه ودائما ما يتحجج بأن الشمعة انطفأت أو أن غاز اللمبة قد نفذ، أو أن أخاه ضيع كتابه، ومن غرائب هذه الحجج أنه يوما حلف بأغلظ أيمانه للمعلم أن الشاة قد التهمت دفتره.
ونكبر وتكبر معنا الحلول السهلة ويكبر فينا ذلك الآخر الذي يتحمل المسؤولية عنا دائما، ونلج الجامعة ونحمل المسؤولية لفشلنا للاحتجاجات تارة والأساتذة تارة أخرى وللمنظومة تارة ثالثة، ونعجز عن تأمين وظيفة أو شغل أو مرتبة اجتماعية محترمة، فنحمل المسؤولية لفقر الأسرة، والزبونية والمحسوبية والمنظومة الاجتماعية فالحكومة فالنظام ككل…
واليوم لا أحد منا يستطيع أن يتحمل مسؤولية تضييع مفاتيح بيته أو حانوته… فيسارع للتبرير “ضاعت مني المفاتيح” وليس “ضيعت المفاتيح”، فاتني القطار أو الحافلة وليس فوتت موعد القطار أو الحافلة، انهرق الكوب وليس هرقت الكوب، أحرقني براد الشاي وليس أحرقت نفسي… وهلمجرا من العبارات الدارجة على ألسنتنا يوميا والتي ننطقها جوابا كما اتفق دون تفكير…
ونكبر وتكبر فينا هذه اللوثة، و”نتحمل المسؤولية” يوما، أي نحصل على شغل رسمي أو ننتخب في مهمة لتدبير الشأن العام المحلي أو الوطني ونواصل السيرة نفسها، رغم أن القوانين المنظمة تلزمنا بتحمل مسؤولية أفعالنا وقراراتنا.. لكننا دائما ما نتحايل، ومن صيغ التحايل الجديدة في مجال الشغل “السيستيم واقف”، “الأنترنيت مقطوع”… المجلس السابق.. الحكومة السابقة… الرئيس السابق… القانون كذا… الإدارة كذا…
وكما نقرأ اليوم في مختلف التقارير التشخيصية الصادرة عن جهات رسمية دائما ما نجد اللومة تقع على الآخر… ومن ذلك مثلا فترة الاستعمار الذي مر على زواله تاريخيا أزيد من ستة عقود أو ارتفاع أسعار البترول في الأسواق الدولية، الظرفية الاقتصادية الدولية، المناخ .. وما إلى ذلك… والحال أن هذه المؤسسة أو تلك مهمتها هي إيجاد الحلول في ظل هذه المتغيرات، وأن هذا المنتخب أو ذاك الرئيس أو المدير تم تعيينه في منصبه لإيجاد الحلول وليس لتعداد المشاكل ونسبتها للآخرين… حتى إن الحكومة المغادرة يغادر رئيسها ووزراؤها ولا أحد منهم يقدم الحصيلة ويؤكد مسؤوليته عما فشل أو تعثر من مخطط أو استراتيجية…ولا أحد يسألهم عن ذلك.
وما لم يتم توجيه الجهود لترسيخ الصرامة في تنفيذ القانون وجعل الجميع سواسية أمامه، وتربية النشئ على قيم النزاهة وتحمل المسؤولية فإننا سنبقى في دوامة طاحونة هواء، ويبقى دور الهيئة أشبه بدور الطبيب يشخص المرض في كل مرة ويجرب وصفات مختلفة للحد من انتشاره وحِدته، ومادام المرض مزمنا فلا شفاء منه، إلا بتدخل صارم، عملية جراحية قد تصل إلى بتر العضو المريض، وأن يتجه طولا نحو اجتثاث جينات الفساد التي تنتقل من جيل لآخر(محاربة التوريث) .
ولذلك على الدولة أن تراجع سياستها في تكوين الانسان منذ سنواته الأولى، ومدخلها لذلك هو العمل على تصحيح سلوكات الأسرة تجاه أطفالها، ولعل لدينا وزارة تحمل الاسم (التعليم الأولي) ولا نعتقد أن لها مشاريع في هذا الاتجاه.
ولا بد للمدرسة من الاشتغال على تصحيح الاختلالات النفسية والسلوكية في شخصية الطفل بدل الانهماك في شحنه بمعارف ومعلومات للاختبار فيها… وليس سلوكات يجب الالتزام بها وممارستها مدى الحياة… المدرسة المغربية باتت فضاء للتساهل والحِنِّية السلبية، وليس فضاء للصرامة والحزم والتربية على قيمة تحمل المسؤولية أولا.
وكل “حرب” على الفساد وأنتم على بينة..