ليلى خزيمة
روح من الماء في جسم من الصفر مولد بلطيف الحسن والنظر
مستعبر لم يغب عن عينه سكن ولم يبت من ذوي ضغن على حذر
وفي اعاليه حسبان يفضله للناظرين بلا ذهن ولا فكر
إذا بكى دار في احشائه فلك خاف المسير، وان لم يبك لم يدر
مترجم عن مواقيت يخبرنا بها، فيوجد فيها صادق الخبر
تقضي بها الخمس في وقت الوجوب وإن غطى الشمس غيم الغيب والمطر
منذ سبعة قرون، شُيدت بمدينة فاس العتيقة بالتحديد بالطالعة الكبيرة قبالة الباب الرئيسي للمدرسة البوعنانية ساعة مائية. شكلت هذه الساعة حينها ثورة علمية حقيقية، وهي اليوم تشكل تراثا متميزا، ونظام عملها صار لغزا لم يتمكن الباحثون من حله.
كانت هذه الساعة تعمل وفق نظام دقيق، يجمع ما بين صبيب المياه وتحريك عقارب الساعة بواسطة حبال ينتج عنها سقوط كرة معدنية تحدد الوقت.
شكل الساعة المائية
تم تعليق الساعة المائية في واجهة المدرسة البوعنانية، وهي مكونة من 13 من العوارض الخشبية، وضع فوق كل واحدة منها إناء كبير من النحاس الأصفر.
وقد أعطى العلامة الجزاني في كتابه زهرة الآس الخطوط العريضة لوصفها، مؤكدا أنه مقابل الباب الشمالي لمدرسته الجديدة، كان لأبي عنان المريني “مجانة” بها أكواب وأكواب. أوعية من النحاس الأصفر، كان قد رفعها في سوق القصر بفاس: «وقد صنع مولانا المتوكل أبو عنان رحمه الله منجانة بطيقان وطسوس من نحاس أصفر مقابلة لباب مدرسته الجديدة التي أحدثها بسوق القصر من فاس، وجعل شعار كل ساعة أن تسقط صنجة في طاس وتنفتح طاق، وذلك في أيام آخرها الرابع عشر لجمادى الأولى عام ثمانية وخمسين وسبع مائة على يد مؤقته علي ابن أحمد التلمساني المعدل» كتاب جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس صفحة 53.
كما ذكرها الكاتب الفرنسي روجيه لوتورنو في كتابه الذي يحمل عنوان: فاس قبل الحماية، دراسة اقتصادية واجتماعية لمدينة من الغرب الاسلامي، 1949، حيث أشار إلى أن السلطان أبو عنان الذي أكمل سلسلة المدارس المرينية: «رفع المدرسة الشامخة التي تحمل اسمه في منطقة تل قريب من قصبة المرابطين والموحدين بباب جلود.
وعلى الجانب الآخر من الشارع، بنى دار الساعة (دار المجانة) بصنوجها الثلاثة عشر البرونزية على دعامات خشبية منحوتة، لكن يظل من الصعب إعادة بناء آليتها».
وقد أشار المؤرخون إلى أن تكلفة تصميم هذه الساعة المائية كانت باهظة جدا، غير أن السلطان المريني لم يكترث للمصاريف التي أنفقت، مقارنة مع جمالها، وتفرد نظام عملها.
فهي الصندوق السحري الذي كانوا يعتمدون عليه من أجل تحديد ساعات اليوم في الاتجاهين، من شروق الشمس إلى غروبها، ومن غروبها إلى شروقها.
ووفقا لهذا، قيل أن السلطان عند زيارته للمدرسة والمئذنة والساعة بمجرد الانتهاء من العمل، حصل على دفتر الحسابات الذي قدمه له مديرو المشروع، فقام أبو عنان بتمزيق الكتاب وألقاه في النهر الذي كان يعبر المسجد وهو يتلو أبياتا من الشعر العربي:
«الجميل ليس بغالٍ مهما عظم المبلغ ولا يدفع ثمنه القليل مما يرضي الإنسان».
نظام عمل الساعة
تم تشييد هذا المبنى بما فيه من معدات آلية للساعة وإشاراتها الفلكية، في آخر أيام بناء المدرسة البوعنانية في 14 من جمادى الأولى سنة 758 هجرية الموافق ل 6 من ماي 1357، برعاية موقوت الملك أبو الحسن بن علي أحمد التلمساني بالتعاون مع ابن الفهم. يوجد فوق كل إناء نحاسي نوافذ معلق بها كرات حديدية، ومع مرور ساعة واحدة، ولتحديد الوقت، يتم إسقاط وزن في أحد الكؤوس فتفتح النوافذ بشكل متتال، وتسقط الكرة الحديدية في الإناء النحاسي، لتصدر صوتا قويا، إشارة إلى مرور ساعة أخرى من الزمن.
بهذه الطريقة، يمكن للجميع معرفة الساعة عند سقوط الكرة الحديدية، من خلال عدد النوافذ المفتوحة.
وحسب مدير وكالة التنمية لمدينة فاس، السيد فؤاد السرغيني، فإن هذه الساعة كان يمكن تشغيلها من خلال عربة تعمل عن طريق سكة حديدية خلف النوافذ الصغيرة، إذ تتحرك بعد تدفق الماء من صهريج في طرف عوامة خشبية، تعمل على فتح النوافذ وسقوط الكرة الحديدية في إناء النحاس.
وعند انتهاء اليوم، يقوم الشخص المسؤول عن ضبط الساعة، بوضع الكرات في مكانها وغلق النوافذ، من أجل حدوث نفس العملية في اليوم الموالي. كما جاء شرح عمل الساعة المائية في كتاب حجة الإسلام الامام أبو حامد الغزالي المقصد الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى: «ولعلك شاهدت صندوق الساعات التي بها يتعرف أوقات الصلوات.
فجملة ذلك أنه لا بد فيه من آلة على شكل أسطوانة تحوي مقدارا من الماء معلوما. وآلة أخرى مجوفة موضوعة فيها فوق الماء، وخيط مشدودٌ أحد طرفيه في هذه الآلة المجوفة، وطرفه الآخر في أسفل ظرف صغير، موضوع فوق الأسطوانة المجوفة.
وفيه كرة وتحته طاس، بحيث لو سقطت الكرة وقعت في الطاس وسُمع طنينها. ثم يُثْقب أسفل الآلة الأسطوانية ثقب بقدر معلوم، ينزل الماء منه قليلا قليلا. فإذا انخفض الماء، انخفضت الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء، فامتد الخيط المشدود بها، فحرك الظرف الذي به الكرة تحريكا يقربه من الانتكاس، إلى أن ينتكس، فتتدحرج منه الكرة وتقع في الطاس وتطن.
وعند انقضاء كل ساعة تقع واحدة». ص. 93
السهل الممتنع
عمل العديد من الباحثين على معرفة كيفية عمل الساعة لإعادة تشغيلها، إلا أنهم فشلوا في التوصل إلى سرها رغم الشروحات المتوفرة في كتب المؤرخين. وقد كان فريق ألماني سنة 2004، تحت إشراف الدكتور فؤاد سزكين، مدير معهد الدراسات في تاريخ العلوم الإسلامية في فرانكفورت، قد حل في المغرب من أجل فهم وحل شفرة هذه الساعة المائية التاريخية.
إلا أن هذا اللغز لم يتم حله، بسبب غياب بعض الأجزاء المهمة، التي تم إتلافها، بعد انتهاء عهد المرينيين في المغرب، حسب السيد الكبير عابد الودغيري، من جمعية الحفاظ على التراث والأصالة في المغرب. وحسب مدير وكالة التنمية ورد الاعتبار لمدينة فاس، السيد فؤاد السرغيني، فإنه يتم العمل بشكل دائم على معرفة طريقة عمل هذه “المكانة البوعنانية”، من أجل إعادة تشغيلها من جديد، وذلك عن طريق القيام بدراسات جديدة، غير تلك التي تمت سابقا، من طرف عدد كبير من الخبراء حول العالم.
وتصنف الساعة البوعنانية ضمن الساعات غير المتساوية التي يرتبط توقيتها بطلوع الشمس وغروبها وهو تحد تقني كبير يتطلب مهارات وتجهيزات مميزة.
فقد كان على المقيم عليها، المعروف بالمؤقت، وهو الشخص المسؤول عن تنظيم وصيانة الساعات وإخبار المؤذن بأوقات الصلاة الصحيحة، أن يعدل تجهيزاتها، كل ليلة، حسب طول الليل والنهار.
زوار العاصمة الروحية لا يفوتون متعة النظر والسؤال لمعرفة لغز هذا الابداع العلمي والهندسي الذي خلد تراثا معماريا وفنيا دقيقا، يجسد بالفعل مغزى الوقت وعظمة التاريخ المغربي.
وبالرغم من إزالة الأوعية منذ 2004 لترميم آلية الساعة من قبل وكالة التنمية وردّ الاعتبار لمدينة فاس، وهي مؤسسة لترميم معالم مدينة فاس، فالزوار الأجانب والمحليين للمدينة يتهافتون من أجل التقاط صور تذكارية لهذا المبنى التاريخي الذي ما زال يحتفظ بشكله وجمال ابداعه ولم يتغير رغم مرور أزيد من 700 سنة على تشييده.