حسن عين الحياة
في سرد شيق وممتع، يغوص بنا الإعلامي الزميل أحمد علوة من خلال كتابه “المكرفون يتحرر” في عالم من الأسرار المتعلقة بنشأة الإذاعات الخاصة في المغرب.. ومن مرحلة إلى أخرى يفاجئنا الكاتب بأحداث ووقائع بل وبتفاصيل تنم عن دربة خبير عايش التجربة من عمق الأثير..
في “المكرفون يتحرر” ثمة نظرة ثاقبة لكاتب يؤرخ لبداية التحول من إذاعة الدولة إلى إذاعة الخواص، وخلال هذا التحول، يقدم الكتاب سردًا شيقًا لتجربة الإذاعات الخاصة في المغرب منذ انطلاقها في عام 2006. ورغم أن الكاتب تحدث عن مرحلة النشأة وما بعدها بأكثر من عقد من الزمن.. إلا أن هذه التجربة التي يرصدها “المكرفون يتحرر” تكاد تمتد إلى هذا العام الذي نعيشه، خاصة وأنه تتحدث عنما قبل التحرر وخلاله وما بعده.. إذ في حديثه عن الماضي القريب، يبدو كما لو أنه يتحدث عن الآن، بل وعن المستقبل، لذلك تجده يحلل التحديات والنجاحات التي واجهت الإذاعات الخاصة، بل ويستشرف مستقبلها أيضا..
ولأن الكتاب تحفة فريدة، باعتبارها أول مخطوط، يتحدث عن “تحرر المكرفون” من قبضة الدولة، ولأنه نفذ من السوق في طبعتين، ولأن الكاتب يستعد لإصدار طبعة جديدة مُحيَّنة، لا ضير أن نقدم خلاصة للكتاب، بلغة صاحبه، الإعلامي الكبير أحمد علوة الذي كان ماتعا في سرده، قبل أن يكون موثقا لتجربة ابتدأت من الإذاعة الوطنية لتستقر في إذاعة أطلانتيك التي كانت واحدة من الإذاعات الخاصة في المغرب التي عبرت عن صوت الآخر، إلى جانب إذاعات “”هيت راديو” و”أصوات” و”كازا إف إم” و”إم إف إم” و”شدى إف إم” و”راديو بلوس” و”كاب راديو” بالإضافة إلى “ميدي 1 راديو” و راديو “سوا”… فلنتابع.
كتاب يؤرخ لتجربة تحرير القطاع السمعي البصري في المغرب
يعتبر كتاب “المكرفون يتحرر” الأول الذي يكتبه إذاعي مغربي، أحمد علوة، بهدف رصد تجربة تحرير القطاع السمعي البصري في المغرب، وهو عمل دسم لإذاعي مغربي خبر تجربة الإذاعة في قطبها العمومي، وانخرط في تجربة تحرير المجال السمعي وانطلاق الإذاعات الخاصة، قبل أن يشغل حاليا مهمة المنسق الوطني للإذاعات الخاصة. ونظرا لكون المؤلف نفسه إعلاميا عاصر هذه التحولات، فأنه يقدم لنا رؤية شاملة ودقيقة لما حدث خلف الكواليس. لذلك، حينما نغوص بين ثنايا الكتاب، نلامس منذ الوهلة الأولى تجربة مغايرة، ومغرية بالحكي، ذلك أن المسافة الفاصلة ما بين عالم الإذاعة الواحدة والإذاعات المتعددة تحمل الكثير من التفاصيل واللحظات بنجاحاتها وانكساراتها، التي لا يُحسن التقاطها وحكيها إلا من خبر التجربتين معا.
إنه رصد مختصر من داخل هذا القطاع لتجربة غنية يقدمها الزميل أحمد علوة، حيث وقف عند بداياته كإذاعي ومنتج برامج ثقافية بإذاعة عين الشق الجهوية التابعة للإذاعة الوطنية، قبل أن يفرد مجمل الكتاب لتجربة تحرير القطاع السمعي في المغرب، من الداخل، مع رصد لمحطات عديدة أسست لتحرير الأثير الذي كانت تهيمن عليه الدولة، قبل أن تقرر فتح الفرصة أمام القطاع الخاص ليستثمر في المجال، وهو تحرير غير كامل، يقول مؤلف الكتاب، مادام التحرير لم يطل القطاع التلفزي.
وهنا نقدم شذرات من كتاب “المكرفون يتحرر” بأسلوب الكاتب الذي يتضمن نوعا آخر من السرد المفعم بالتشويق.
الظروف لم ترد حرماني من لذة وحرقة المكروفون
أعتبر نفسي من الجيل الإذاعي المحظوظ، لأنني وببساطة جمعت ما بين الاشتغال في القطب العمومي الواحد، أي الإذاعة الوطنية (جهوية عين الشق) وما بين الانخراط في تجربة الإذاعات الخاصة التي انطلقت عام 2006، أي بعد عامين من مغادرتي الأثير الإذاعي، وكأن الظروف لم ترد حرماني من لذة وحرقة المكروفون، أو كما يسميه بعض زملائي “سلطة المكروفون”، وقد شاءت الظروف ومن بين ثمان إذاعات خاصة حصلت على الترخيص كجيل أول من الإذاعات الخاصة في المغرب وهي: “أطلنتيك راديو” و”هيت راديو” و”أصوات” و”كازا إف إم” و “إم إف إم” و”شدى إف إم” و”راديو بلوس” و”كاب راديو” بالإضافة إلى “ميدي 1 راديو” و راديو “سوا”، شاءت الظروف أن التحق بإذاعة أطلنتيك التابعة لمجموعة “إيكو ميديا”، إحدى أكبر المجموعات الإعلامية في المغرب.. لقد جعلت النظرة الاحترافية لمسئولي هذه الإذاعة التي كانت دوما بعيدة وحاضرة، من التكوين الميداني أحد مقومات الانطلاقة.
ودون مقدمات، خضع طاقم أطلنتيك لتكوينات احترافية ودقيقة عن طريق الاستعانة بخبراء من جنسيات وتجارب مختلفة، كانوا سندا قويا لإطلاق بث هذه الإذاعة بالشكل اللائق مهنيا، ومن ثم إخضاعنا لشهور عديدة، وقبل أن نكون على الأثير، لتكوينات ميدانية اكتشفت فيها شخصيا أن العمل الإذاعي مغاير بشكل كبير لما عشته لسنوات عديدة خلف مكروفون إذاعة عين الشقالجهوية.
وليتم اختياري فيما بعد -أنا القادم من عالم إنتاج البرامج الثقافية – مقدما للنشرات الرئيسية، ولأتحول فجأة من صاحب لغة حالمة إلى لغة إخبارية صارمة تضع الكثير من الاعتبارات للكثير من الضوابط المرتبطة باللغة والزمن والتوقيت والفواصل. ولأجد نفسي منخرطا في مسار إذاعي جديد وعوالم جديدة.
من الآلة التقليدية nagra إلى البرمجة التطبيقية netia
فجأة وجدت نفسي أنتقل من nagra الآلة التقليدية للتسجيل الإذاعي الخارجي التي عرفتها لسنوات طويلة بالإذاعة الجهوية عين الشق، والتي كانت ملازمة لعدد من التقنين المحنكين في هذه الدار إلى netia العجيبة logiciele أو البرمجة التطبيقية المعلوماتية الحديثة التي اختصرت المسافات والزمن، وجعلت من الصحفي تقنيا في الوقت نفسه يقوم بعملية التسجيل بنفسه،وينجز المادة والمونتاج، ويدخل الأصوات والمؤثرات والمكساج، ويلعب بالمؤثرات ويشكلها كيف ما يريد. وهذه من الحسنات الكبرى التي حظي بها الجيل الجديد من الإذاعيين تقنين وصحفيين.
وقد ساعدت كل التقنيات الحديثة التي استعانت بها الإذاعات الخاصة على أن تعطي لتحرير القطاع السمعي البصري في المغرب طعمه الخاص، ويدرك الزملاء والزميلات الذين اشتغلوا على هذه الآلية الجديدة netia قيمتها، ويعرفون مدى مساهمتها في تذويب صعاب العمل الإذاعي، وهي الصعاب التي لطالما كابدها الزملاء والزميلات في الإذاعة الوطنية قبل أن تجدد بدورها آلياتها وأدواتها.
وكانتnetia العجيبة بالنسبة لي آلية ساحرة أثارت دهشتيقبل أن تصبح آلية طيعة ومساعدة، قضيت برفقتها السنوات العشر، وجاورتها وكانت بحق المساعد الكبير على إنجاز العديد من المواد الإذاعية والبرامج والتسجيلات والربورطاجات بسلاسة ومهنية واختصار للوقت والمجهود، ويكفي أن أقف قليلا عند الطفرة التكنولوجية التي استفاد منها هذا الجيل الإذاعي الجديد، الذي اشتغل داخل استوديوهات رقمية حديثة معتمدا على آليات متطورة، يشغلها ويشرف عليها.. لقد كان جيلا شابا يتكون من تقنيين تخرجوا من معاهد متخصصة، ساهم في إنجاح التجربة الإذاعية ككل إلى جانب الثورة الكاسحة للشبكة العنكبوتية التي اختصرت العالم إلى قرية صغيرة.
المكروفون يتحرر.. الائتلاف والاختلاف
لا أبالغ حين أقول إن الإذاعات الخاصة في المغرب ساهمت في تحرير خطاب المغاربة، وأقصد بتحرير الخطاب إشاعة ثقافة النقاش العمومي عبر برامج إذاعية مباشرة ناقشت جل المواضيع، بما فيها تلك المواضيع التي كانت تعتبر إلى عهد قريب من بين الطابوهات، التي لم يكن يسمح بمناقشتها علانية عبر الأثير.
وبمنطق الاختلاف والائتلاف، سُمح بتجاذب أطراف النقاش بين كل مكونات وشرائح المجتمع، وضمت استوديوهات الإذاعات الرأي والرأي الأخر، وأعطت حق الكلام عبر الهاتف لكل من يريد أن يدلي بدلوه في نقاشات عمومية حول القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والرياضة، بأريحية كبيرة، عكست روح النقاش العالي التي طبعت المغاربة في فترة سياسية مهمة، صاحبت تحرير القطاع السمعي البصري، ومنحت لهذه الإذاعات إمكانية تسيير نقاشات وطنية بالغة الأهمية، رفعت فيها السقف عاليا وعكست دوما روح المسؤولية عند الكثير من هذه المحطات الإذاعية، رغم أن دهشة البدايات أفرزت الكثير من الأخطاء التي لا مجال لذكرها الآن.
لقد تم وضع كل الموضوعات على طاولة التداول، ووجدنا أنفسنا في فترة من الفترات أمام جرأة كبيرة لدى المستمع المغربي.. جرأة فاقت جرأتنا بكثير، ووقفنا حائرين أمام كيفية التعاطي معها ولم نحسب لها حسابا ونحن نفتح مواضيع حساسة، وبالغة الأهمية، لم تستثن قضايا الشأن العام والقضايا الشخصية التي صدمنا بقدرة المغاربة على عرضها علنا، بعدما كانت تدخل في إطار الـ”حشومة” لعقود طويلة…
وهكذا وجدنا مغاربة يخوضون في الشأن السياسي ويناقشونه بنضج سياسي كبير، ويتداولون ما هو اقتصادي بنظرة ثاقبة ويقفون على التحولات الاجتماعية بأريحية فاهمة، وفي الوقت نفسه لا يلزمون الصمت حين يتعلق الأمر بموضوعات تتحدث عن حيواتهم الخاصة النفسية والجنسية والعائلية.. نقاشات عمومية وجدنا أنفسنا كإذاعات خاصة في صلبها وأحد محركيها. وكان مطلوبا منا صون هذه العلاقة الجديدة مع مستمع مفترض، ساهم معنا في فتح باب التداول والنقاش على مصراعيه في مغرب جديد.
فهل نجحنا في ذلك أم فشلنا؟
سؤال وإن لم يكن منصفا في حق التجربة، فإنه سؤال يملك مشروعيته عندما يسائل ماهية النقاش العمومي وطبيعته ووظيفته ومقاصده وما آل إليه فيما بعد.
دهشة البداية.. التجربة لم تكن كلها مفروشة بالورود
أفضل استعمال عبارة “دهشة البداية” وليس “أخطاء البداية”، حتى لا أكون قاسيا في حق تجربة الإذاعات الخاصة في المغرب. حيث لم تكن الطريق كلها مفروشة بالورود.. ولم تكن المسافة الفاصلة بين العام 2006، تاريخ انطلاق الجيل الأول من هذه الإذاعات إلى الآن، تعج بالنجاحات فقط، بل شابت التجربة الكثير من الزلات والأخطاء.
إن اختلاط الحابل بالنابل في مهنة حديثة في المغرب، أدى إلى ارتكاب العديد من الأخطاء، أولها يرتبط بالعنصر البشري، “المذيع” الشخص الجالس خلف المكروفون، الذي يطلق عليه البعض لقب “المنشط” وهو اللقب الذي لا أحبذه، وأعتبره لقبا يمكن اعتماده في غير العمل الإذاعي الذي يتطلب مهنيين أكفاء وليس منشطي أعراس شعبية لا ينتقون عباراتهم. فقد لوحظ هيمنة مذيعين مدعين ومنتحلين ومنشطي “أعراس” على مكروفونات بعض المحطات الإذاعية، وبمباركة بعض أصحاب هذه الإذاعات بذريعة استقطاب أكبر عدد من المستمعين، مما جعلهم يتجهون عن قصد أو غير قصد إلى خلق الرداءة والانحراف باللغة والمعلومة عن جادة الصواب، ومما أدى إلى نوع من خصومة ونفورا ما بين هذه المحطات والمستمع المغربي الذي وجد نفسه فجأة قد ابتلي ببرامج ضعيفة أبطالها بعض أنصاف المواهب الإذاعية التي تنشط وتقدم برامج ضعيفة بمضامينها، قوامها التهريج والسوقية دون أي احترام لمعايير العمل الإذاعي ولا للذوق العام.
هذه الأخطاء التي اعتبرتها دائما دهشة البدايات، وإن طال عمرها مع تقدم عمر هذه الإذاعات، وأصبحت ديدن البعض، وانتصرت كثيرا للرداءة على حساب الجودة، فقد أفرزت نقاشا مجتمعيا عن ماهية هذه الإذاعات؟ وعن الدور المفترض لها؟ خاصة مع بروز العديد من الإشكالات المرتبطة بما هو حقوقي وقانوني، وبما يسائل نوعية الخدمة الإعلامية والوعي المتزايد بالحق في المعلومة الصحيحة التي تحترم ذكاء المستمع، الذي وجد نفسه أمام برامج مباشرة بالأساس يقدمها أشخاص لا دراية ولا اختصاص ولا معرفة لهم بالمجال، خاصة حين يتعلق الأمر بمجالات حساسة تتعلق بالإرشاد الصحي والنفسي.
ومن هنا تعاظم دور الهيأة العليا للسمعي البصري إلى الحد الذي سمحت فيه للمواطنين بوضع شكاياتهم ضد البرامج التلفزية والإذاعية، وحددت الهيأة طرق وضع الشكايات ضد البرامج الإذاعية والتلفزية عن طريق وضع الشكاية بمقر الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري، أو عبر البريد أو بطريقة إلكترونية، وهي شكايات تتعلق أساسا بالخروقات من قبل أجهزة ومتعهدي الاتصال السمعي البصري وللقوانين والمساطر المطبقة على قطاع الاتصال السمعي البصري.
لقد دخلنا عهدا جديدا مع هذه الهيأة التي ظلت دوما هادئة ومحتاطة و”وقورة” في حجم ونوعية تدخلاتها.
ومن حسنات دستور 2011 علينا، أنه قوى وعينا السياسي كإذاعيين، وعبد لنا الطريق نحو المساهمة في إيصال مضامينه لعموم المواطنين، خاصة وأن علاقتنا توطدت أيضا مع أهل الاختصاص من محللين وخبراء وأساتذة جامعيين، حيث رافقت هذه الطبقة المثقفة تجربتنا، وانتعشت بدورها حين طورت آليات تواصلها مع المستمع، إلى حد تحول العديد منهم إلى نجوم تتسابق إليها الإذاعات والقنوات التلفزية العربية والغربية أيضا.. وتلك من نعم الإذاعات الخاصة على هذه الطبقة الجامعية، التي ظلت ولسنوات طويلة خارج النقاش الوطني والقضايا الكبرى بسبب هيمنة الدولة على القطاع السمعي البصري، وبالتالي انتقت المحللين والخبراء على مقاسها ومقاس المرحلة.
الراديو بصيغة المؤنث
“كلُّ مكانٍ لا يؤنثُ لا يُعوّلُ عليه” مقولة شهيرة للصوفي ابن عربي أجدها دائماً عميقة وحقيقية، وقد انطبقت على الإذاعات الخاصة بالمغرب التي انتصرت في عمومها لصوت المرأة حين حمل الأثير صوتها منذ انطلاق هذه التجربة.
ولن أبالغ إذا قلت إن عماد جل الإذاعات الخاصة كان ومازال الجنس اللطيف من صحافيات وإذاعيات، رسمن عن جدارة ملمح هذه التجربة وساهمن بأناقة مهنية في تطوير الأداء والتجاوب مع المستمع إلى حد ارتباط الكثير من هذه الإذاعات بأصوات إذاعية نسائية بعينها.