22, ديسمبر 2024

قراءة في الكتاب بقلم: رشيد الياقوتي

 

 

 

“سادس المحمدين، خدن الصلاح والاصلاح، خمس وعشرون سنة من العطاء”

لمؤلفه الباحث محمد رشدي الشرايبي

 

“إن تخليد الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلاء جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، عرش أسلافه الميامين، فرصة سانحة لأتأبط قلمي، وأسجل للتاريخ وللأجيال الحالية والمقبلة شهادتي حول مناقب ملك عظيم، والتبذخ بجهاده ونضاله، خلال ربع قرن من العمل الدؤوب، من أجل مغرب حر ومتضامن ومتقدم، وقيادته الحكيمة التي مكنت من تغيير وجه بلادنا، والانتقال بها إلى مصاف الدول الصاعدة، وجعلتنا، هنا حيث نحيا في بلد الأحرار والأنوار، ننعم بفضائل الأمان والاستقرار..” إنتهى

بهذه الفقرة من مقدمة كتابه” “سادس المحمدين، خدن الصلاح والاصلاح خمس وعشرون سنة من العطاء”يفتتح الباحث الأستاذ محمد رشدي الشرايبي مؤلفه الصادر شهر يوليوز من السنة الجارية 2024. فقرة تختزل باقتضاب مكثف، ليس محتوى الكتاب فحسب ولكنها توجز باسلوب بليغ أهمية الوقوف والتأمل، بعد ربع قرن من اعتلاء جلالة الملك محمد السادس نصره الله سدة الحكم، أمام المحصلة الغنيةوالمنجز الذي تحقق على أكثر من صعيد بالمملكة المغربية، وذلكوفق رؤية ملكية متبصرة باعتماد منهجية التدبير الواقعي والمعقلن في إدارةالحكم بما يخدم مصالح الوطن العليا،تثمينا ووفاء للدولة المغربية العريقة وصيانة للمكتسبات التاريخية العظيمة.

يتشكل الكتاب من ثلاثة محاور أساسية، تجمل سمات ومعالم الرؤية الملكية في قيادة المملكة المغربية،بالارتكاز على قيم جوهرية تتمحور حول شرطين أساسين : الواقعية والصرامة في تدبير شؤون البلاد على الصعيد الوطني والدولي. يعبر الكاتب عنهما من خلال إيضاح وتحليل مشترطات التدبير الملكي وفق صلاحياته الدستورية، من خلال المحاور الثلاث، الآتية الذكر.

المحور الأول:سماتأسلوبمحمدالسادسفيالحكم:لعل ورود لفظة “أسلوب” تحيلنا للوهلة الأولى إلى مقولة العالم الرياضي الفرنسي بليز پاسكال “الرجل هو الأسلوب”، ذات المقولة استحضرهاالمغفور له الحسن الثاني رحمه الله، جوابا عن سؤال أحد الصحفيين حول الأسلوب الذي سينهجه ولي العهد، الأمير محمد السادس حينئذ، عندما يصبح ملكا للبلاد. مقولة كانت بمثابة الوصية الثمينة التي انتهجها جلالة الملك محمد السادس ليديرسدة الحكم بمنظور جديد وأسلوب متفرد، يعكس شخصيته التي تتسم بالصرامة والمرونة في آن واحد مع التحلي بالواقعية في تبني سياسات شجاعة،تأخذ بعين الاعتبار انتظارات الشعب المغربي والتحولات التي يشهدها العالم.

ويرى المؤلف، ضمن المحور الأول، أن “مرتكزاتالحكم” تعتمد علىخطابالصراحةبتبنيالواقعية، بعيدا عن الخطابات الديماغوجية التي تطبع معظم خطابات الحكام ولا تخاطب عقل المتلقي. وتعكس “صراحة” الخطاب السياسي النظرة الواقعية للأشياء لتسهل معالجتها بحذر. إلى جانب ذلك، تعتمد الرؤية الملكية، برأي المؤلف، على”مسايرةالتطور،والنقدالبناءووضعاليدعلىمكامنالخللوالنواقصالمعيقةللتقدم” وذلك بالالتزامبالديناميةالمستمرةفيتقييمالسياساتوتجديدالنخب وتوخيالحذرفيمراجعةالذاتوالنقد الذاتي وقول الحقيقة ولو كانت قاسية ومؤلمة” بتعبير الكاتب.

إن تجربة المؤلف، باعتباره مستشارا ملكيا ومديرا للديوان الملكي، درس بالمدرسة المولوية وكان مقربا جدا من شخص الملك، تؤهله أكثر من غيره لفهم شخصية الملك محمد السادس، على مدى مراحل تكوينه الأكاديمي والخاص لقيادة البلاد ومواجهة التحديات الكبرىالتي تعترض أي رئيس دولة في عصرنا الحديث.

إلى جانب الصراحة والوضوح في تعاطي ملك البلاد مع مختلف السياسات، ينتبه المؤلف إلى “الفكر الاستشرافي والاستراتيجي” الذي يعتبر لب الرؤية الملكيةالذكية و البصيرة بما تحجبه الآفاق العصية على الإدراك الحس/سياسيلدى معظم الحكام.يتجلى هذا الفكر في “إنضاج” القرارات والأفكار لتنزيلها على المدى القريب والمتوسط والبعيد في استشراف دقيق للمستقبل مع الأخذ بالحسبان متغيرات الحاضر. ولا أدل على هذه البصيرة الملكية ما تحقق من مكاسب ومنجزات من خلال المعارك الدبلوماسية التي خاضها المغرب وربح رهاناتها جميعها.

إن جلالة الملك ” مهندس السياساتالخارجية” كما يصفه المؤلف، أرسى دعائم مقاربة تشاركية ضمن ما يعرف بالتعاون جنوب/جنوب في تفاعل منسجم مع محيطه الإقليمي. هذه الرؤية الحكيمة لجلالة الملك بوأت المغرب مركز الريادة وجعلته، في تقدير الكثير من الملاحظين والخبراء، النموذج الأصلح لبلدان القارة الأفريقية، على نحو خاص. هذا ما يراه الباحث محمد رشدي الشرايبي، وما ينطق به الواقع دون مبالغة أو تزلف.

ويتطرق الكاتب، استكمالا لأسلوب الملك محمد السادس في الحكم، للنَّفَس “الثوري” الذي يطبع قراراته، متجليا في عزم جلالته إلى طي صفحات الماضي السياسي المتوتر خلال ما يعرف ب”سنوات الرصاص” وفتح عهد جديد بالدعوة إلى الإنصاف والمصالحة مما يترجم إرادة الملكة في تثبيت دعائم حرية التفكير والتعبير السياسي ومشاركة سياسية تعبئ كل القوى الحية في البلاد لبناء صرح ديمقراطي متين،يقي البلاد مطبات المستقبل.

وارتباطا بالشق الاقتصادي، يتطرق الكاتب إلى اعتماد جلالة الملك شراكات متنوعة ومتوازنة تغلب مصالح الوطن وتشترط موقفا عادلا ومناصرا لقضية الوحدة الترابية الوطنية والتي تعتبر خطا أحمرا بالنسبة للمغاربة أجمعين.

وبذات الفكر المتبصر، يشير الكاتب،دعا جلالة الملك البلدان الأفريقية، خلال خطاب بأبيدجان، إلى التضامن لبناء أفريقيا جديدة والقطع مع سياسة التبعية المطلقة للمعمر القديموالتشبع بروح التضامن الأفريقي وذلك باقتراحمشاريع محورية، تكون نواة صلبةللتعاون جنوب/جنوب كمشروع “المبادرة الأطلسية”والانخراط في مشروع انبوب الغاز بين نيجيريا والمغرب ومشروع الربط القاري بين المغرب وأوربا وتنظيم نهائيات كأس العالم لكرة القدم سنة 2030.

وضمن عناصر وأخلاقيات السياسة، من منظور ملكي محض، يشيد الكاتب بأهمية “الالتزام والثبات على المبادئ” لدى جلالة الملك محمد السادس الذي يفي بالمواثيق والعهود القومية والدولية كالقضية الفلسطينية التي يسعى جلالة الملك إلى حلها باعتماد الواقعية السياسية بعيدا عن تجييش العواطف والزج بالقضية في مزيد من التوتر الإقليمي الذي لن يخدم بالاساس مصلحة الشعب الفلسطيني الشقيق. هكذا تتضح الحكمة الملكية على أكثر من صعيد.وبذات الرؤية يسعى ملك البلاد إلى بناء فضاء مغاربي قوي،برغم المواقف العدائية التي يتبناها النظام الجزائري، دون المساس بالثوابت الوطنية التي تجمع عليها الأمة المغربية.

في المحورين الثاني والثالث من كتابه، يتطرق الباحث إلى “الاصلاحاتالهيكليةوالمنجزاتمتعددةالابعاد” التي أحدثت ثورة اقتصادية حقيقية وكذا الاصلاحات الاجتماعية والتعديلات الدستورية بما يرسخ دولة الحق والقانون، تأصيلا لمبدأ الحرية والعدالة كشرط أساسي لنهضة الأمم الحديثة.وتهم الإصلاحات الدستورية تحديد المنظور الوطني للهوية المغربية التي يؤكد جلالة الملك من خلال بنود دستور المملكة على تنوع روافدها بكل أبعادها اللغوية والدينية والعرقية والمنصهرة في بوتقة موحدة، مما يعكس غنى وقوة هذه الهوية. كما يتطرق الكاتب في المحور الثالث والأخير إلى “التحدياتوالاكراهات” ويجمل الكاتب مرتكزات هذا المحور في روح اليقظة التي تطبع سياسة جلالة الملك الداعية الى”التفطن” إلى الاكراهات والتحديات التي على مكونات البلاد السياسية وكل القوى الحية مواجهتها باعتماد سياسة عقلانية، تضع حدا لسياسة الهدر التي تستنزف بعض القطاعات الحيوية أمام التقلبات المناخية وشح الموارد الطبيعية، التي من شأنها أن تؤثر على التوازنات الاقتصادية. وضمن السياسة الاستباقية لمواجهة التحديات يتطرق الكاتب الى الاوراش الملكية في مجالات التربية والتكوين والاصلاحات السياسية والمجالية ضمن الجهوية الموسعة والتخلي عن سياسة المركزية في كثير من القطاعات الحيوية. ولعل المجال الاجتماعي يشكل محور الاصلاحات التي أعطى ملك البلاد انطلاقتها، صونا لكرامة المواطن المغربي، بمحاربة كل مظاهر الهشاشة الاجتماعية وتوفير ظروف عيش آمنة عبر الولوجإلى كل الخدمات الاجتماعيةباعتبارها حقوقا دستورية للمواطن المغربي.

ويعرب الكاتب، في سياق المحاور المطروقة، عن تفاؤله العميق بالرؤية الملكية الحكيمة في قيادة البلاد إلى مستقبل آمن، أمام كل التحديات بالنظر إلى الإرادة الملكية والتي تغلب مصلحة الوطن على كل الاعتبارات.

بمرتكزات هذه المحاور الثلاث التي تعكس أسلوب جلالة الملك محمد السادس في سياسته الخارجية والداخلية وقدرته الاستشرافية، ضمن رؤية مندمجة وواسعة، يكون الباحث محمد رشدي الشرايبي قد أوضح أسرار نجاح عاهل البلاد في بناء مغرب جديد، يحقق نهضة حضارية جديدة تجعل المملكة المغربية في مصاف الدول الصاعدة، وتؤهله للعب دور قاطرة التنمية والتقدم داخل الأسرة الأفريقية وتحظى باحترام المنتظم الدولي.

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version