الدكتورة نوال بنبراهيم أستاذة في المعهد العالي للمسرح وباحثة
حشرة القلاس للمبدع المسرحي كريم الفحل الشرقاوي من أعمق النصوص الدرامية التي تناولت تيمة الحرب بطريقة كروتيسكية ساخرة وقاسية حيث تتأرجح الموازنة بين القبح والجمال، ويجرف المعنى ويشوهه فيصير مفخخا بالأزمات التي تنتجها الحضارة المزيفة التي تسعى إلى الخسارة الكبرى: خسارة الماضي والحاضر والمستقبل، وبمعنى آخر خسارة لصميمية الوجود البشري. معتمدا في ذلك على لغة كاريكاتورية ساخرة وهزلية كتقنية جمالية للمبالغة في تصوير الواقع وتشويهه لا ليثير الضحك، بل ليعبر عن رؤيته الفنتازية المؤلمة التي تنحت واقعا متورما ومشوها، وليرسم المتاهة المرعبة التي ترهن عالما بلا بوصلة. إن تقنية التشويه الموظفة في النص تتضمن نقدا ساخرا للفكر الإنساني ولسياساته المتوحشة حيث يقلب المؤلف الموازين فيثير التناقض بين المعنى وضده، الموضوع المدرك والمتخيل، وجهة النظر والوجهة المضادة كتحول الحشرة الصغيرة إلى وحش ضخم ومرعب، في إشارة إلى الكائن البشري الذي تحول بدوره إلى كائن متوحش يسعى إلى دمار نفسه وإنتاج عالم بدون ملامح رمز إليه في النص بالشخصية الممسوحة الملامح الحاضرة والغائبة والتي تكتب باستمرار في الفراغ وتمحو كتابتها. إضافة إلى المشاهد السينمائية التي لا تخلو هي أيضا من بلاغة الصور والمشاهد السريالية. والواقع أن النص تركيبة رمزية تعبر عن حقائق مؤلمة اعتمدت الإيحاء الساخر الذي أغنى الصورة المعروضة وأكسبها أبعادا فنية وجمالية جديدة تثير تأويلات مختلفة لدى المتلقي.
إن “حشرة القلاس” نص تراجيكوميدي، إذ نجد المضحك والمبكي في الآن ذاته. هذا المزج بين المأسوي والكوميدي يجعل المتلقي حائرا بين البكاء والضحك لأن المؤلف يتطرق إلى أحداث مؤلمة بهزلية شديدة، لذلك يمكن تصنيف المسرحية أيضا ضمن الكوميديا السوداء. لكون الكاتب تناول الأحداث بأسلوب فنتازي ينحت واقع الحرب بشكل غير مألوف، فبدت الأحداث التي تدور في فضاء يجمع بين الواقعي والغروتيسكي، عبارة عن ساحة الوغى الغائبة في الواقع والحاضرة في أذهان الجد والحفيد والحفيدة، وفضاء حاضر موجود يتمثل في المكتب المختص في الرد على الحالات المقبلة على الانتحار. كما هو مؤشر عليه في النص : “تنفتح الإضاءة على الفضاء الركحي كاشفة عن خيمة عسكرية صغيرة تتسع لفرد واحد تنتصب في الوسط. يجلس أمامها على كرسي مربع قصير بدون مسند رجل مسن، أشعث، يرتدي بذلة عسكرية قديمة وخوذة الحرب ويحتضن بندقية خشبية كطفل أبله. بينما في الجهة اليمنى يجثم مكتب تزدحم فوقه الهواتف الثابتة يجمع ما بين الشكل المكتبي وشكل مجنزرة حربية كاريكاتورية. يجلس خلفه المساعد الاجتماعي الذي لا يرتدي سوى جوارب سوداء وقفازات سوداء وقبعة سوداء وسروال قصير إلى الركبة. يثرثر بدون انقطاع في سماعات الهواتف الثابتة دون أن يسمع صوته. بالتزامن مع ذلك تظهر على الشاشة الكبير المثبتة في خلفية الركح أعداد لا تحصى من الأفواه البشعة تثرثر بشراهة. وفجأة يقتحم الشخص الممسوح الوجه الفضاء الركحي ويفتح مظلة صغيرة ملونة وينخرط في رقصة تعبيرية صاخبة، فتظهر على الشاشة آلاف الآذان وهي تتساقط حول الأفواه الثرثارة كأوراق الخريف الجافة”. هكذا يدمج هذا الفضاء الفنتازي المنحى الخيالي الغائب في الإطار الواقعي الحاضر بشكل انسيابي عبر استحضار الخيمة العسكرية والبندقية والقنابل اليدوية الوهمية والتحية العسكرية وخلفية طبول الحرب المقعرة…، وعبر استحضار الشخصيات المكلومة في الإطارين: الجد المجنون والحفيد ذو الرجل الخشبية والحفيدة (نجمة الإغراء) المشوهة الوجه والشخصية الممسوحة الملامح وعالمة الحشرات البدينة، جوهر هذين الفضاءين الموت والحرب والدمار. وهو ما يؤشر عليه الباحث العراقي محمد سيف في تقديمه للنص حيث يؤكد بأن “عوالم هذه الشخصيات ستفجر مناخات غروتسكية، وستطبع حالاته برمتها بنوع من الفنتازيا الممتزجة برهبة مخيفة، من خلال ما تعكسه من مواقف تكمن ذروتها في تقريبها للهزل من المأساة، ومزجها المتباين للوعي بالخيال والمغالاة بالانحراف، وأسلوب تصوير الأحداث وكيفية كتابتها المقترحة، في مستوى اللعب ولغته الهازلة المُستفزة، التي تعري بشاعة الحرب وسخفها في آن واحد”.
وتكتسب الأحداث معناها بارتباطها بخلفية تيمة الحرب، وسينزاح الصراع الدرامي عن الشكل التقليدي المألوف، وسيرتبط بخطابات درامية ساخرة جدا صادرة عن شخصيات تعاني من كل أنواع الألم الجسدي والقلق النفسي والذهني، حيث تتفاعل مع الأحداث بشكل غرائبي مفجرة هلوسة هزلية وبؤس ساخر وكوميديا سوداء دامعة. ويتناول نص حشرة القلاس المتكون من ست لوحات أو غارات – كما يسميها المؤلف – حياة أسرة تتكون من ثلاث أجيال عانت من ويلات الحرب والتي شملت الجد والأب والحفيدة والحفيد. فالجد رجل مسن متقاعد مصاب بالهلوسة المرضية من آثار الماضي لأنه كان جنديا في حرب قديمة وسقط أسيرا لدى الأعداء وذاق كل ألوان التعذيب الوحشي، وبعد انتهاء الحرب وتبادل الأسرى عاد فاقدا للذاكرة حيث لا يتذكر إلا بعض الأحداث والمواقف المرتبطة بزمن تجنيده مستعينا ببندقيته الخشبية وبذلته العسكرية القديمة والقنابل الوهمية والأشلاء والأسلحة المتخيلة والأوامر العسكرية والانضباط العسكري… يهذي طيلة الوقت كأنه في ساحة الحرب وينخرط في حروب وهمية تشكل عالمه الخاص الذي يفرضه على أفراد العائلة. والأب الذي يعمل كمساعد اجتماعي حيث لا يكف عن الرد هاتفيا على الحالات المقبلة على الانتحار، ويتلقى عشرات المكالمات من المنتحرين يوميا وخصوصا المجندون العائدون من الحرب. أما الحفيدة نجمة الإغراء والممثلة السينمائية الفاتنة فقد تعرضت لحادثة فظيعة أثناء تصوير فيلمها الأخير، حيث كانت تجسد دور راقصة عانت من ويلات حرب أهلية، فتعرضت أثناء تصويرها لبعض المشاهد في المواقع الحقيقية التي شهدت الحرب الأهلية القديمة لانفجار لغم منسي شوه وجهها، ولم تتمكن عمليات التجميل من إنقاذه. أما الحفيد فقد كان مجندا في حرب جديدة يمارس رغما عنه مهنة جلاد الأسرى وقيادتهم يوميا حفاة عراة إلى مسالخ التعذيب والاستنطاق حيث تصطف المشانق الحديدية الحادة والسلاسل والحبال والجرذان والأجساد المتعفنة والكماشات والمثاقب الآلية والصواعق الكهربائية…، إلا أنه بدوره سيفقد ساقه أثناء الحرب ليعود لبيت العائلة ويقبع مكلوما برجل خشبية يفكر في الانتحار إلى جانب هواتف والده التي تلفظ الكلمات الأخيرة للمقبلين على الانتحار، وجده المصاب بهلوسات الحرب ومعاركه التي لا تنتهي، وأخته الممثلة المشوهة المصابة بانفصام حاد في الشخصية والتي ما زالت تعيش في جلد النجمة الفاتنة وتحلم بأداء أدوار الإغراء رغم أنها تحولت إلى مسخ بشري. كما يستدعي النص شخصية عالمة الحشرات الضخمة التي تجري أبحاثها حول حشرة القلاس، وهي امرأة سمينة وثخينة جدا تحلم بالزواج من المساعد الاجتماعي الذي سيقرر ان يقيم حفل زواجه من عالمة الحشرات في اليوم العالمي للانتحار الذي يسجل كالعادة مئات الآلاف من المنتحرين والمنتحرات بشكل سريالي؛ هكذا يتحول الانتحار إلى حدث احتفالي ومهرجان عالمي حيث تظهر على الشاشة السينمائية بتقنية الرسوم المتحركة غابة كثيفة من ناطحات السحاب بينما آلاف الأشخاص يتساقطون من نوافذها كأوراق الخريف. وذلك إمعانا من الكاتب في إبراز وبشكل فنتازي سافر انهيارات قيم هذا العالم المتآكل باستمرار. هكذا سيلجأ المؤلف منذ بداية النص إلى قوة اللغة السينمائية حيث ستصبح تقنية الذهاب والإياب ما بين فضاء المسرح وفضاء الشاشة مكونا مركزيا في بناء عوالمه الفنتازية كما هو الحال بالنسبة لمشهد تضخم وتعملق حشرة القلاس حيث نقرأ في نهاية النص : “في تلك الأثناء تجتاح بيت العائلة حشرة ضخمة لها ملامح دبابة … تظهر على الشاشة الكبيرة ملايير الحشرات الزاحفة تجتاح المدينة وتحول كل شيء إلى أطلال منخورة … الشخص الممسوح الوجه والملامح ينخرط في رقصته الشاعرية”.
هكذا يمتزج الكروتيسكي بالمشهدي بالشاعري … وتمتزج اللغة الساخرة بالحركة الممشهدة في تجاوز للحكايا الواقعية حيث الحدث يتجزأ ويرتد إلى نفسه ويتبعثر فلا يقف المتلقي على نقطة مركزية لأن النص عبارة عن كتابة متعددة المصادر ومتعددة الآليات والمرجعيات التقنية والفنية مكنتنا من النفاذ إلى عالمها الفنتازي الساخر المليء بالمواقف العبثية واختراق الأمكنة والأزمنة الحاضرة والغائبة، الواقعية والخيالية. هذه العوالم الفنتازية الساخرة التي ما فتئ ينحتها كريم الفحل الشرقاوي في جل أعماله المسرحية ستصبح جزء لا يتجزأ من شخصيته الإبداعية وهو ما سيؤشر عليه في الغلاف الأخير لنص “حشرة القلاس” الباحث الجزائري علاوة وهبي قائلا : ” لقد اختار هذا المبدع الاستثنائي الاشتغال على الغروتيسك في الكتابة وعلى الفنتازي .. فنصوصه تحفل بالعوالم المألوفة المنضفرة مع اللامألوف والغرائبي .. كما تستخرج المعقول من بطن اللامعقول والعجائبي .. هي أشبه بالأحلام والكوابيس التي تقترب من السريالية(…) شخصيا قرأت نصوصا مسرحية ساخرة لكتاب عرب ويبقي كريم الفحل أهم الذين كتبوا نصوصا كروتيسكية فنتازية في المسرح العربي”.