حسن عين الحياة
من حين لآخر، يظهر الفنان الكبير الراحل عبد الله العمراني في عديد الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، التي تعيد التلفزة المغربية بثها لعموم المشاهدين.. وعند كل ظهور لهذا الفنان العملاق الذي ترجل عن صهوة الحياة في 14 ماي 2019، تشعر كما لو أنه مايزال حيا بيننا.. يتنفس وينفعل ويبتسم ويغضب.. وفوق كل ذلك، يحرك في المتلقي ذلك الإحساس العميق بأنه أمام فنان مخضرم بحمولة عاطفية قوية تهز الوجدان.. فهو واحد من الفنانين المغاربة القلائل ممن عشقتهم الكاميرا والأضواء، وإن ظل طيلة مساره الفني الممتد لأزيد من 6 عقود، متواضعا ومنزويا،بعيدا عن الضوء.. فنان يكفي أن يظهر لتمتلئ به الشاشة، فيشد الانتباه إليه، حتى وإن كان دوره ثانويا.. باذخ الحضور، في الحركة والسكون. وقوي في لحظات الصمت، ذلك أن عينيه أحيانا تقولان كل شيء، حتى وإن لم ينطق بكلمة.. وهذه الميزة التي لا تتوفر في كثيرين، هي ما لفتت كبار المخرجين إليه، وأهلته للمشاركة في عديد الأفلام السينمائية العالمية، ومن أبرزها “لورانس العرب” و”الرسالة”.
اليوم، عندما تقلب صفحات الأرشيف الفني للمملكة، بحثا عن الممثلين المغاربة الذين تركوا بصمة بارزة في تاريخ المسرح والسينما والتلفزيون، تستوقفك عديد الأسماء اللامعة التي طبعت الدراما المغربيةمنذ عقود خلت، بحضور لافت، وأداء مميز، وعطاء منقطع النظير.. بعضهم من جيل الرواد الذين كان لهم شرف السبق في ممارسة فن المسرح، باعتباره الشريان الرئيسي الذي غذى ومايزال السينما والدراما التلفزيونية، وآخرون تلمسوا طريق هذا الجيل في درب الفن، ليسجلوا أسماءهم في خانة المبدعين الكبار، ولعل الفنان المقتدر الراحل عبد الله العمراني، أحد هؤلاء الفنانين الذين هندسوا الطريق الأولى لانطلاق الدراما المغربية من الهواية إلى الاحتراف، سواء في المسرح أو التلفزيون أو السينما.. وتكفي العودة إلى الأفلام المغربية والعربية والغربية التي شارك فيها العمراني، سواء في الأدوار البطولية أو الثانوية، لتجد نفسك أمام فنان عالمي، تدرج عطاءه الإبداعي عملا بعد آخر، ليصل إلى مرحلة الذروة، خاصة في الأعمال التاريخية والأخرى ذات النَّفَس السياسي.
خلال الأسبوع الماضي حلت الذكرى الخامسة لوفاة الفنان القدير عبد الله العمراني، وهي مناسبة للوقوف عند هذه القامة الفنية التي أغنت الريبرطوار المسرحي والتلفزيوني والسينمائي بأعمال ستظل موشومة في الخزانة الفنية للمملكة، خاصة وأن مساره الإبداعي، يكاد يختزل جزءً كبيرا من هذه الذاكرة، بالنظر إلى بداياته الأولى كممثل خلال خمسينيات القرن الماضي.فهو من مواليد مدينة مراكش عام 1941، وفي هذه المدينة التاريخية التي تتنفس الفن في أعلى درجاته، خاصة المتعلق بالفنون الشعبية، ترعرع عبد الله العمراني في كنفرة أسرة محافظة، كان الأب فيها الأستاذ عمر بن حلمية العمراني مدرسا للعلوم الدينية بجامعة ابن يوسف، ولعل تريبة الوالد الدينية، وما شملته من تعليم في الفقه واللغة، انعكست إيجابيا على شخصية ابنه عبد الله، خاصة في الجانب المتعلق بالفن، حيث ظهر في كثير من الأعمال العربية التاريخية ملما بموضوعاتها، وضابطا لحواراتها بلسان عربي فصيح.
خلال فترة المراهقة، بدأ الميول للتمثيل يظهر عند العمراني، حيث كان يشارك في الأنشطة المدرسية ومسابقاتها، قبل أن يجرفه الحب للمسرح إلى الانضمام لـ”فرقة الأمل” المراكشية للهواة، التي كانت تضم عددا من الفنانات والفنانين الذين تلألأت أسماءهم فيما بعد على مستوى المسرح والتلفزيون، أمثال محمد حسن الجندي وعزيز موهوب ومليكة العمري وفاطمة بنمزيان وأحمد العماري وعبد السلام الشرايبي والملحن العربي الكوكبي، صاحب لحن الأغنية الخالدة “خفة الرجل”، الشهيرة بـ”آش أداني” التي سجلت ما بين سنتي 1962 و1963.
العارفون بمساره الفني، يقولون إن العمراني اهتم في بدايته الأولى بالديكور، ليلتحق في ما بعد بفرقة “الأحرار المراكشية” التي قضى فيها فترة قصيرة، قبل أن يجتاز بتفوق اختبارا أوليا في المسرح بمراكش.. وهذا الاختبار بحسب هؤلاء مكنه من الانتقال إلى مدينة الرباط عام 1959 وعمره لا يتجاوز 18 سنة، حيث التحق بمدرسة التمثيل للأبحاث المسرحية. وهناك، صقل موهبته بالدراسة على امتداد 3 سنوات، ليجد نفسه بعد التخرج عام 1962 عضوا في الفرقة الوطنية للمسرح، التي كانت تحمل قبل ذلك اسم فرقة المسرح الشعبي، قبل أن يطلق عليها الملك الراحل الحسن الثاني عام 1966 اسم “فرقة المعمورة”. وكان أول ظهور له في عمل مسرحي محترف عام 1962 بعنوان “الفصل الأخير” وهو من تأليف عزيز السغروشني (مدير سابق لمسرح محمد الخامس بالرباط) وإخراج الطيب الصديقي، وكانت المسرحية تحكي إحدى الفصول الأندلسية في عهد ملوك الطوائف، ليواصل بعدها التشخيص في عديد المسرحيات من الريبرطوار العالمي.
في هذا العام تحديدا (1962) اقتحم عبد الله العمراني عالم السينما من خلال فيلم “ليالي أندلسية” للمخرج العربي بناني، والذي حصل من خلاله العمراني معية فريق العمل على وسام الرضى من الدرجة الأولى من يد الملك الراحل الحسن الثاني، خاصة بعد تمثيل الفيلم للمغرب في مهرجان بيلباو بإسبانيا.كما شارك في العام نفسه في التحفة السينمائية العالمية “لورانس العرب”، حيث ظهر إلى جانب ممثلين كبار من حجم بيتيرأوتول وأليك غينيسوأونطوني كوين وعمر شريف… لكن بالموازاة مع أعماله السينمائية، ظل العمراني وفيا للمسرح مع فرقة المعمورة إلى حين توقفها عام 1975. بعدها التحق بفرقة التمثيل التابعة للإذاعة والتلفزة، وكانت تضم وقتها فنانين كبار أمثال محمد حسن الجندي وعبد الرزاق حكم والعربي الدغمي وفنانين آخرين، وشارك معها في عديد المسرحيات والمسلسلات والأفلام. كما مكنته هذه التجربة من المشاركة في فيلم “الرسالة” عام 1976 للمخرج العالمي الراحل مصطفى العقاد، وشخص فيه دور عكرمة إلى جانب ممثلين مغاربة آخرين أبرزهم محمد حسن الجندي والطيب الصديقي وحسن الصقلي… كما تمكن من خلال فرقة الإذاعة والتلفزة من ممارسة الإخراج المسرحي، حيث أخرج لها أزيد من 20 مسرحية. ورغم انشغالاته الكثيرة التي أبعدته فيما بعد عن الخشبة لسنوات، عاد عبد الله العمراني عام 1998 للظهور فوق الخشبة من خلال فرقة مسرح اليوم، حيث لعب إلى جانب الفنانة الراحلة ثريا جبران مسرحية “البتول” للكاتب والناقد محمد بهجاجي وإخراج عبد الواحد عوزري. وكان العمراني بلسانه العربي الفصيح مستقطبا للضوء في هذا العمل الذي فجرت فيه كل من ثريا جبران ومنى فتو طاقتهما الإبداعية.
في رصيد الفنان الراحل عدد هائل من المسلسلات والأفلام السينمائية، ولعل أبرز هذه الأفلام “مكتوب” لنبيل عيوش عام 1997، و”أصدقاء الأمس” و”درب مولاي الشريف” لحسن بنجلون، والتحفة الكوميدية “عبدو في عهد الموحدين” لسعيد الناصري، و”ماجد” لنسيم عباسي، و”نساء ونساء” لسعد شرايبي، و”طيف نزار” و”السيمفونية المغربية” لكمال كمال، و”جنة الفقراء” لإيمان المصباحي، وأفلام أخرى. كما برز بقوة في الإنتاجات العربية التاريخية، ومن أبرزها السلسلة الشهيرة “صقر قريش” الصادرة عام 2002 للمخرج السوري الراحل حاتم علي.
الآن، وفي مثل هذا الشهر (ماي) من عام 2019، غادرنا الفنان القدير عبد الله العمراني، مخلفا وراءه خزانة غنية من المسرحيات والمسلسلات والأفلام السينمائية، وكان آخرها (عاما قبل وفاته) الفيلم القصير “عودة الملك لير” للمخرج هشام الوالي،حيث جسد فيه دور البطولة وفاز من خلاله بجائزة أفضل دور رجالي في الدورة الـ13 للمهرجان المغاربي للفيلم بوجدة، ليكون هذا الفيلم خاتمة مشواره الفني الممتد لأزيد من 60 عاما.
ويتذكر كثيرون، كيف أبدى الملك محمد السادس تأثره بوفاة الفنان عبد الله العمراني، حيث وصفه في برقية تعزية ومواساة بعثها إلى أسرة المرحومبـ”الفنان القدير” و”أحد أعمدة فن التمثيل بالمغرب، المشهود له بالكفاءة والاقتدار والتواضع، وبحرصه، رحمه الله، على البقاء وفيا لأدائه الفني الهادف، سواء على خشبة المسرح أو على شاشة التلفزيون”.
رحم الله الفنان عبد الله العمراني وأدخله فسيح جناته.