حسن عين الحياة
بسوق “شطيبة” الذي يحتل مساحة واسعة بحي مبروكة بسيدي عثمان في الدارالبيضاء، كان هناك فضاء مُترب شاسع، أصبح الآن عبارة عن حديقة خضراء.. هذا الفضاء الذي انتعشت فيه “الحلقة” كفن شعبي، ظل إلى أواخر التسعينيات من القرن الماضي احتفاليا بامتياز، وباذخا من حيث تناسل الثقافات الشعبية والروافد المغذية للتراث الشفهي، لكنه الآن، أصبح “يتيما” يعيش على ذكرى “الحلايقية” الكبار، ممن ألهبوا ألباب الناس بالقصص والأساطير والتفكه بسخرية لاذعة من الواقع المعيشي آنذاك.
بعد صلاة العصر، كان الحلايقية يتسابقون على احتلال الأمكنة المناسبة لتقديم الفرجة، كل يجتهد بطريقته الخاصة في جمع الناس من حوله، قبل أن يصبح كل واحد منهم يتجه لمكانه دون مزاحمته للآخر، وإن كانوا لم يتفقوا على ذلك، وحدها التلقائية عنصرا مكملا للاحتفالية، ما دام أن لكل واحد من هؤلاء الحلايقية جمهوره الخاص، ومن أبرزهم: كوميرة فدغمة.
من أكثر “الحلايقية” الذين ترددوا على سوق شطيبة، رجل يلقبه الناس بـ”كوميرة فدغمة”.. وكان بارعا في تقليد الأصوات وتقديم “النشرة الجوية” بطريقة كوميدية، ومعرفة أجناس الحشرات ومواطنها.. إذ كان يقول وهو يعدد أصناف الحشراتإن أصل “الرتيلة” منإثيوبيا، و”شنيولة” من الصين الشعبية، وموطن “الكَملة” استوائي فيما يعود أصل البق إلى موزمبيق.. لكن المادة الفنية الفكاهية التي ينتظرها المتحلقون حوله بشغف هي النشرة الجوية، حيث يختار واحدا من جمهوره، ويأخذ عصا ثم يشرع في تقديم النشرة بطريقة فيها كثير من الإبداع، مشيرا إلى أعضاء الرجل، حيث يبدأ بالرأس.. قائلا بلكنة خاصة: “راس لما(25 درجة)، الحاجبين (الحاجب 23 درجة)، العين (لعيون 46درجة)، الأنف (خنيفرة 18 درجة)، الفم (فم لحصن 13 درجة)، الذقن (سيدي ليحياوي 21 درجة)”، ثم يصل إلى الرقبة (لعنق 13 درجة)، وينزل إلى الصدر (حي السدري 15 درجة)، وهكذا إلى أن يمر على جميع الأعضاء، وكان أثناء توقفه عند كل عضو يخلف وراءه موجة من الضحك ..
وسُمي هذا الحلايقي (كوميرة في دغمة) لكونه كان يتحدى الناس قائلا “هاذي كوميرة (يحملها)، غادي نديرها فدغمة وحدة، وقبل من نطلقوا لفراجة، بغيت شي ولد الناس يفرحني بدرهم، قليل ولا كثير، على لي عطاتك هاذي تخوات (يشير على الصدر)، وزادتك هاذي تاخوات، الظهر وما ركَّب لقْدَمْ وما تْحَفَّى.. على ميمتك مع باك على رضات الوالدين..”.. ثم يطوف حول الناس.. كل يجود عليه قدر المستطاع، ثم يشرع في العرض، حيث يأخذ “كوميرة” ويفتحها، ثم يزيل لبها، ويطويها جيدا، ويضعها في فمه دفعة واحدة أمام استغراب الناس، قبل أن يخرجها ويطلب قارورة مونادا.. “بغيت المونادا باش ندوَّز هاذ الكوميرة”.. وما إن يجود عليه أحد المتحلقين بقارورة صودا، حتى يلتهم الكوميرا بسرعة وهو يحتسي،”المونادا” دون توقف..