18, أكتوبر 2024

ليلى خزيمة

 

بلغنا أيها القارئ السعيد ذو العمر المديد أن للمناسبات الدينية ولشهر رمضان في المغرب نكهة خاصة وطقوس وعادات تميزه عن باقي الدول الإسلامية. وأكثر ما يميز هذه المناسبات، هي التهنيئات والتبريكات المختلفة التي تعبر عن السعادة ودوام الصحة والدعاء بتقبل العبادات والصدقات. ومن أشهر هذه التعابير المتفردة، مقولة لا ينطق بها غير المغاربة، تلازمهم وترافق كلامهم لتفصح عن سمو الأخلاق وطيب الخاطر. فيبدأ كل من تلقاه كلامه بعبارة: “عواشر مبروكة”أو ” مبروك لعواشر”. فأصبح كل من يزور البلاد ويسمعها، يستعجب لها ويتأمل في مغزى هذه العبارة ويحاول اكتشاف مصدرها، ليجد نفسه قد تبناها وأصبح يرددها بكل فخر واعتزاز.

العواشر لغويا

أصل اللفظة من فعل عشر يعشر، تعشيرا، فهو معشر. يقال عشرت الناقة: صارت عشراء، أي مر على حملها عشرة أشهر. وعشر الشيء: جعله ذا عشرة أجزاء، وعشر القوم: أخذ عشر أموالهم، وقول المغاربة “اللهم عشر خطاي”: أي ارزقني في كل خطوة عشر حسنات، وعاشوراء: هو اليوم العاشر من شهر محرم.

طبع لا تطبع

العبادة، المودة، الحب، التكافل، صلة الرحم وغيرها،هي من الصفاة الحميدة التي يجب أن يتحلى بها الانسان في تعاملاته اليومية مع الآخر. لكن في شهر رمضان المبارك، يكون لهذه الخصال الحميدة بُعد أعمق ووقع أكبر في نفوس الصائمين. والمغاربة، لما يتميزون به من تآخ وود وتعامل بالمعروف، يكثرون من الصدقات في الشهر الكريم. وأول صدقة يجودون بها هي مباركة الشهر الفضيل على طريقتهم الخاصة. فلا يمكن لأيشخصألا يسمع ولو مرة في اليوم منذ بداية شهر شعبان عبارة “مبروك لعواشر”أو “عواشر مبروكة”. عبارة يستغربها من هو أجنبيعن البلد، لكن لها معان كثيرة عند المغاربة لأنها تعبرعن كل الخصال التي يتمتعون بها وكل الصدقات التي يجودون بها من إفطار الصائم وصلة للرحم والكف عن الكلام السيء وإيذاء الآخر. فلما سميت “عواشر” ولم يطلق عليها اسم آخر؟ ومن أين جاءت وما أصلها؟وما هي تجلياتها في المخيلة المغربية؟

عشرة أيام رحمة، وعشرة أيام مغفرة، وعشرة أيام عتق من النار

هي أيام معدودات تعني مبروك رمضان، ومبروك الأيام الفضيلة التي تكثر فيها العبادات وصلة الرحم والتضامن. ويقصد بها المغاربة ما يعرفبعشرة أيام من الرحمة، وعشرة أيام من المغفرة، وعشرة أيام من العتق من النار ولو أن الحديث في هذا التصنيف ضعيف. فعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: «أيُها الناس قد أظلَكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا. من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه. وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء. قالوا: ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم. فقال: يعطي اللَّه هذا الثواب من فطر صائما على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقَةِ لبن. وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النَار. من خفف عن مملوكه غفر اللَّه له، وأعتقه من النار. واستكثِروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتَينِ لا غنى بكم عنهما. فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا اللَّه، وتستغفرونه. وأما اللتانلا غنى بكم عنهما: فتسأَلون اللَّه الجنة، وتعوذون به من النار.»

ورغم ضعف سند ومتن الحديث، إلا أن المغاربةتبنوا الطرح واستخلصوا له عبارة “العواشر”، وأصبحوا يستعملونها في مناسبات دينية أخرى مثل عيد الأضحى وهو اليوم العاشر من ذي الحجة. وهذا يعني أن المغاربة عندما ينطقون بهذه العبارة يقصدون بها في الأصل الأيام المباركة التي أقسم بها الله سبحانه وتعالى في سورة الفجر من كتابه الكريم: «والفجر وليال عشر». كما يذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بها الأيام التي يضاعف الله فيها أجر الأعمال.فالحسنة بعشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء. وهي أيضا تهنئة الناس بعضهم البعض لفضل بلوغ هذه الأيام المباركة، وهي أيضا عبارة تذكر وترشد وتدعو إلى حسن استثمار الأيام المباركة في الطاعات والأعمال الصالحة عموما.

لذلك يرجع الأغلبية إلى أن أصل العبارة هي الليالي العشر المذكورة في الآية. فبركتها منصوص عليها أيضا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: «أفضل أيام الدنيا أيام العشر ومن بركات هذه الأيام أن فيها يوم عرفة وفي فضله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام».

العواشر في المخيل المغربي

العواشر في المخيل المغربي هي أيام ي كون فيها الشخص أكثر قربا من الله. ويتقبل فيها سبحانه صالح الأعمال وتضاعف فيها الحسنة بعشر من مثلها. فالمغربي أيها القارئ الكريم يردد العبارة في تمثل للعادات الروحية المرتبطة بالمناسبات الدينية وفضل شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. فيباركون رمضان، ويباركون الأيام الفضيلة التي تكثر فيها العبادات وصلة الرحم والتضامن.

وبالنسبة للأخصائية النفسية والباحثة في علم النفس الاجتماعي بشرى المرابطي، فإن مصطلح “العواشر” يلزمه تحقيب تاريخي وأنثربولوجي لمعرفة ما إذا كان هذا المصطلح يجد جذوره في الثقافة المغربية القديمة أم في الثقافة الإسلامية، أم هو خليط بين هذا وذاك. وأوضحت أن: «الذي يهمنا في علم النفس الاجتماعي هو التمثل الذي يشكله المواطن المغربي للعواشر في كونه يدل على كل ما هو جميل من صدقة وصلة رحم وإسعاد للآخر وأكل لذيذ. كما يدل على الدينامية الاقتصادية التي تخلقها العواشر، حيث تظهر العديد من أشكال التجارة المرتبطة فقط بهذه الفترة كبيع الأواني الخاصة ببعض المناسبات أو “تكزارت” غير المقننة خاصة يوم عيد الأضحى».

وأبرزت الأخصائية أهمية الآثار النفسية التي تخلفها “العواشر” على الإنسان، لكونها تكسر رتابة العيش لديه وتدفعه لمباشرة استعدادات متعددة في البيت، في الأكل واللباس وفي طقوس معينة، مؤكدة أن «هذه الدينامية مهمة جدا تمكن الفرد من تجاوز صخب الحياة». وركزت على أن «العواشر ما بعد كورونا لها طعم خاص. إذ يستشعر من خلالها المواطن المغربي بقيمة الحياة ككل، وبقيمة العواشر وبفضلها عليه، ويعيش لحظات سعادة يتزود من خلالها بالطاقة الإيجابية للاستمرار في المقبل من الحياة».

وفي تمثل للعبارة عند المغاربة، فإن كلمة “مبروك العواشر” عندما تطرق مسامعهم تشعرهم بالفرح وتعطيهم إحساسا بقدوم شيء جميل. فسلسلة العواشر تمتد في المغرب لفترة طويلة ابتداء من رجب وشعبان إلى رمضان وعيد الفطر وذي الحجة وعيد الأضحى، وتتوج بذكرى المولد النبوي الشريف. وفي كل مرة، هي فرحة متجددة.

أما عند الأطفال، فإن “العواشر” مرتبطة بالمسامحة وعدم العقاب عند القيام ببعض المشاكسات. كما أنها فرصة لكسب المال وتلقي الهدايا من الوالدين والاقارب والمعارف. فهي أجواء تَعِدبالفرح واللعب مع أبناء العائلة عند الاجتماع في بيت الجد، وبارتداء الملابس الجديدة وأطباق الحلوى والمأكولات التي تؤثث المائدة المغربية في الأعياد الدينية. لهذا فهي عبارة مرتبطة في مخلهم بالأفراح.

كما أن مجرد كلمة “العواشر”، تحرك وجدان أفراد المجتمع المغربي وتحتهم على تغيير السلوكيات. إذ تحت لوائها يتم إصلاح ذات البين كما تصطحب “العواشر” معها جملة من العبارات من قبيل:”الله يسامح، العواشر هذه”، وبفضلها يتم تجنب المشاجرات والمشاحنات أو تأجيلها في أقصى الحالات بالقول “حشومة، العواشر هذه”. فأخذت”العواشر”مهمتين: من جهة هي إصلاح العلاقة بين العبد وربه بطلب الاستزادة من الأجر والثواب وتقبل صالح الاعمال، ومن جهة أخرى هيحزام أمان يوطد العلاقات الاجتماعية ويحفظها من التصدع.

وفي هذا السياق، يشير محسن بنزاكور، أستاذ جامعي متخصص في علم النفس الاجتماعي: «أن المدلول الديني حاضر في مصطلح العواشر بلا شك، لارتباطه بمناسبات دينية، وهي محطات مرتبطة في ذهن الإنسان المغربي بالأعمال الفاضلة ومكارم الأخلاق.»

وأوضح أنه حينما يتعلق الأمر بالتمثلات:«هنا تتحول قضية تنزيل هذا المفهوم على شكل ما نسميه طقوس. ذلك أن المغرب عبر تاريخه القديم والحديث حافظ على هذه “العواشر” بأبعادها وتجلياتها الاجتماعية المتمثلة في صلة الرحم وتحسين العلاقات سواء داخل الأسرة أو بين الجيران والناس عموما. وبالتالي يكون تنزيل هذا المفهوم من باب التضامن والتسامح وهذا ما يعرف به المغاربة بشكل كبير جدا فتجد المفهوم الشعبي “العواشر هذه”، يتكرر دائما في الخطاب كمبرر للتحلي بالتسامح وتجاوز أسباب النزاع والصراع لكي تستمر العلاقات الاجتماعية».

وأضاف محسن بنزكورأن:«”للعواشر”تمظهرات اقتصادية أيضا تتجلى في الرواج التجاري الذي يكون مفتوحا على مصراعيه، دون أن يخلو من حس التضامن والدعوة إليه في الأسواق من قبل التجار بقولهم “العواشر هذي تعاونوا معنا” وغيرها من السلوكيات التي تجسد هذا المفهوم. كما تتقوى العلاقات التجارية، حين تلتقي ورغبة المواطن المغربي في إدخال السرور على أفراد أسرته تحت عنوان “العواشر”. وهكذا تتنوع سلوكيات المغاربة في تعاطيهم مع مفهوم “العواشر” لتتجاوز البعد الديني إلى تمظهرات اجتماعية واقتصادية».

«وهكذا تشكل”العواشر” في المخيل الجماعي للمغاربة، محطة هامة لفضائل الأعمال كصلة الرحم وعيادة المرضى وزيارة كبار السن، والترحم على الموتى، وهي أيضا مناسبة لجبر الخواطر والتسامح وتحييد الخلافات، كما يحدث أن يتجنب الآباء معاقبة أبنائهم في “العواشر”إذا ما صدر منهم ما يثير غضبهم، فلا يكون منهم سوى كظم غيظهم والصبر عليهم وذلك “على وجه العواشر” أي احتراما وتقديرا لهذه الأيام المباركة.فهو جنوح إلى السلم الاجتماعي.»

ولأن رحمة الله ومغفرته وعتقه الناس من النار لا تقتصر على أيام معدودات، بل تتجلى في كل حين، فإن الانسان المغربي فطن لهذا وجعل من العبارة “العواشر مبروكة” أنيسا له يدعوه في جميع المناسبات سواء منها الاجتماعية أو الدينية أو الوطنية. وهي فرصة للتطور الشخصي والتغلب على الصعاب وتحقيق النجاح على المستوى الروحي والعملي والاجتماعي.

كانت هذه أيها القارئ السعيد، قصة المغربي مع عبارة “العواشر مبروكة” التي تسعد الصغار والكبار وتكبح لجام العداوة والخصام وتدعوا الى الصلاح والمودة والرحمة. فرمضان كريم و”عواشر مبروكة”.

 

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version