ليلى خزيمة
بوكس
أدْرارْ نّـاغ إيحْرْمـامْ أ طاموبيلْ
أشْكو تْلّا كِيسْ لالة عيزة بيهي
أبيات شعرية وكوريغرافيا بديعة تستعرض قوة وتلاحم سكان الجبال وتحديهم وصمودهم في وجه المستعمر والمعتدي. بطولات تروى من خلال الموروث الثقافي لقبيلة سكساوة. فما الذي أفرز العرض؟ وماهي تركيبته؟ وما هي رمزيته؟
شيخوخة خالية من العلل
من بين جبال الأطلس الكبير شمال شرق مدينة تارودانت، وتحت ظلال أشجار الزيتون واللوز، تتجلى للمسافر مجموعة من البنايات التقليدية لقبيلةسكساوة الأطلسية الأمازيغية التي حافظت على عراقتها منذ الأزل. اسمها الأصلي الأمازيغي هو “اسكساون”، ويقال لها كذلك “سكسيوة”. وقد ذكرها الحسن الوزان في كتابهوصف إفريقيا قائلا: «سكسيوة جبل موحش جدا، شديد الارتفاع والبرد، تغطيه غابات كثيرة، ولا يزول منه الثلج أبدا. تعوّد سكانه أن يضعوا على رؤوسهم قلنسوات بيضاء. وفيه عدد كثير من العيون، ومنه ينبع أسيف نوال، كما أن فيه كثيرا من الكهوف العريضة والعميقة التي جرت العادة أن تخبأ فيها الماشية 3 أشهر من كل سنة، فتعلف بالحشيش الجاف وأوراق بعض الأشجار العظيمة… ويكثر الجبن الطري والزبد في فصلي الربيع والصيف. يُعَمِّر الرجال طويلا فيعيشون عادة 80 أو 90 أو 100 سنة، وشيخوختهم قوية خالية بطبيعتها من العلل التي تحملها معها السنون، فهم يسيرون وراء بهائمهم إلى أن يدركهم الموت. لا يرون الأجانب مطلقا، ولا ينتعلون وإنما يضعون تحت أقدامهم شبه نعال تقيهم الحجارة، ويلفون سيقانهم بخرق مشدودة بخيوط تحميها من الثلج.».
أدوال
اشتهرت هذه القبائل،التي تنحدر من اتحاديتين وقبليتين كبيرتين معروفتين خلال العصر الوسيط، وكان لهما شأن كبير ودور عظيم في تأسيس الدولة الموحدية، وهما اتحادية كنفيسة واتحادية كدميوة، اشتهرت بمقاومتها للاستعمار. فحققت أمجادا وبطولات في الحفاظ عن قُراها والدفاع عن حقها في البقاء. وكباقي القبائل المغربية، خص التكوين الاجتماعي والثقافي والسياسي والقبلي سكساوةبمجموعة من العادات والتقاليد والموروثات.فعند قرب نهاية فصل الصيف، يقوم الأهاليبهذا الحلف القبلي بتنظيم احتفالات للضيافة تسمى بـ“تينّوبْكا”.خلال هذه التظاهرة، يستضيف شباب كل وحدة قبلية نظرائهم من شباب الوحدات القبلية الأخرى المنخرطة في نفس الحلف. فيختار“أمزوار” كل “مدشر” وهو مُقدّمَ الدوار، أبرز وأقوى الشبان وأمهرهم في فنون الحرب، لينضموا لأقرانهم من شبان الدّواوير المجاورة، ويشكلوا مجموعة يتراوح عدد أفرادها بين الأربعين والخمسين شخصا. بعدها، يُحدَّد موعد انطلاق هذه المجموعات في طواف قبلي يسمى ب “أدوال” يستغرق حوالي شهر. يشمل هذا الطّواف كل دواوير منطقة معينة، حيث يُستقبَل هؤلاء الشباب بالاحتفالات ويستضيفهم كل دوار يوما أو يومينفي سلسلة من الاحتفالات المتوالية والمتنقّلة. ومن بين أبرز أنشطة هذه الاحتفالات الفنية والفرجويةرقصة أحواش ورقصة “تيسْكْتْ” أو “أيتْتسكيوين”.
تشرع مجموعة من حوالي خمسة عشر فردا من هؤلاء الشبان في أداء رقصة خاصة يستعرضون ويكشفون فيها عن قدراتهم القتالية وكفاءاتهم العسكرية، ويعبّرون فيها عن بطولاتهم الحربية من خلال تقليدهم فنّيا للعمليات العسكرية وللمهارات القتالية، ويصوّرون بتعبيرهم الجسدي أطوار المعارك الحربية. وفي بعض القبائل تنضم إليهم كذلك الفتيات في صف مقابل للشبان، تعبيرا عن دور المرأة في القرارات والحروب والحياة اليومية.
“تيسْكْتْ” أو القرن، المرصّعة بالزخارف الفضية أو النحاسية، والمذيَّلَة بكتلة مصفوفة من خيوط الصوف القصيرة الحمراء، والتي يثبتها كل راقص على كتفه الأيسر، هي العلامة المميزة لهذا الموروث الثقافي، والتي باسمها عُرِفَتْ الرّقصة. ومنذ مدة طويلة أصبحت عبارة عن قرن مصنوع من خشب شجر البلوط أو العرعار، بعدما كانت قرن كبش، يتم إعدادها بشكل يسمح بجعلها وعاء قابلا لاحتواء وخزن مسحوق البارود، الذي تُشحَنُ به البنادق، باعتبار البارود والبنادق أهمّ سلاح كانت تُحقَّقُ به الانتصارات وتُحْسَمُ به الحروب عموما والمعارك بين القبائل على وجه الخصوص.
البناء: هندام وحركات وموسيقى وأهازيج
يرتدي الشبان الخمسة عشر الذين يؤدون رقصة تسكوين قمصان بيضاء قصيرة تسمى “التشامير”. يتم شد هذا الأخير بحزام على مستوى البطن، ويتقلّدون سيوفا في أغماد فضية تسمى “الكمّوية”، أو مَحَاِفظ جلدية تقليدية تسمى “أقراب”،ويحمل كل واحد منهم على كتفه الأيسر “تيسكتْ” أي القرن. يفتتحون رقصتهم بترديد موّال أو أهزوجة غنائية، غالبا ما تكون عبارة عن أبيات شعرية تتغنى بأمجاد “المدشر” أو القبيلة أو الحلف، وبأواصر الأخوة والتضامن والتعاون والنصرة، التي تجمع بين مكونات القبيلة والحلف القبلي الذي يسمونه ب“أمقّون”. كما يتم التّوسل في تلك الأهازيج بالأولياء والصالحين. ففي منطقة سكساوة، غالبا ما تفتتح رقصة تسكيوينبالتوسل بالولية الصالحة لالة عزيزة بنت ابراهيم السكسيوية المسمى بعيزّةبيهي، كما هو الشأن في البيتين أول المقال. وبعد ذلك تنطلق الرقصة ببطء في سلسلة من الحركات والتعبيرات الجسدية، التي تسير في وثيرة تصاعدية، وتقوم في مجملها على إيقاع موسيقي يُؤَدّى أساسا بالضرب أو النقر الجماعي الموحّد على “البندير”التي يطلقون عليه اسم “تالّونت”، من طرف ثلاثة إلى خمسة أشخاص يسمّون ب“الرّوايْسْ”. إلى جانبهم، شخص أو شخصين على الأقل يسمون ب“العواويد”، يعزفان لحنا من الألحان على “تالعوّات” أي النّاي. يتحلّق حول هؤلاء على شكل دائرة، باقي الراقصين، الذين يرتدونالزيالموحد. يضرب كل واحد من هؤلاء الراقصين على “أكوال” أي “الطعريجة”، وفق إيقاع موسيقي يحدّده رئيس المجموعة “الرّايْسْ أو أعلّام”، الذي يتوسط الرقصة ويديرها ويُنسق بين مكوناتها بإشارات خاصة.
مكونات رقصة تسكوين
تتشكّل رقصة تسكوين من أربعة مكونات أساسية:
الراقصون: الذين يمكن أن ينضم إليهم كل من له استعداد للرقص، ويتوفر على آلة “أكوال”، ويحملها بقبضة يده اليسرى ويضرب عليها باليد اليمنى. ولذا فالراقصون يجمعون بين المهارة في الرقص والإتقان لكل حركاته والضبط لكلّ إيقاعاته. ومنهم من قد يكون في بداية مشوار التدريب على الرقص وفي طور تعلّم مهاراته، فيحتل الراقصون الماهرون والحاذقون وسط دائرة الرقصة، ويحاذيهم المتعلمون من الجانبين، في انسجام وتناسق. يرمز الراقصون في مجملهم إلى القاعدة البشرية للقبيلة (تاقبيلت). واجتماعيا يمثل هؤلاء في الرقصة قاعدة المجتمع التي يتشكّل معظمها من الفلاحين المرتبطين بالأرض التييستقرون بها ويزرعونها ويقومون باستغلالها. وسياسيا يحيل الراقصون على جمهور القبيلة، وفي نفس الوقت يجسّدون دور قواتها العسكرية الاحتياطية المستعدة للحرب في حال اندلاعها مع غيرها من القبائل، حول الماء أو الأرض أو العرض. أما “الأكوالات” التي يحملها الراقصون في أيديهم فبمثابة بنادق، وكل ضرب على “الأكوال” هو عبارة عن طلقة من بندقية، وذخيرتها من البارود مُخزَّنة ومحفوظة في “تيسْكْتْ” (القرن)، المحمولة على الكتف الأيسر لكل واحد منهم.
الرّوايْسْ: جمع “الرّايْسْ”، لا يقل عددهم عن الثلاثة. غالبا ما يكون هؤلاء ممّن يُتقنون الضرب والعزف على “تالّونت” (الدّف أو البندير)، وحافظا للإيقاعات الموسيقية السائدة بالقبيلة. ودورهم هو ضبط الإيقاع الموسيقي للرقصة. يجسّد الرّوايس بموقعهم المحوري في رقصة تسكيوين، الموقع والدّور الإجتماعيين اللذين يلعبهما الحرفيون، بما راكموه من خبرة يدوية في أنشطتهم الحرفية، في الحفاظ على إيقاع الحياة الاجتماعية للقبيلة،فبدونهم سيضطرب إيقاع الحياة. كما يمثلون الدّور السياسي الذي يقوم به المقدِّمون (إمزوارن) في الوحدات القبلية الصغيرة.
العْواويدْ: جمع “العوّاد”، هم العازفون على النّايات (تالعْوّاتْ). لا يتجاوز عددهم الثلاثة، وإليهم يعود ضبط الألحان التي تُؤَدّى الرقصة على إيقاعاتها. فعندما يرتفع إيقاع الرقصة بشكل يستحيل معه إرفاق ذلك بالغناء، يتخلى الراقصون عن الغناء الجماعي وترديد الأهازيج التي يبدؤون بها رقصتهم مع الإيقاع الموسيقي البطيء، فيصير دور “العْواويدْ” محوريا في الضبط والحفاظ على الألحان. ويحيل وجود “العواويد” في الرقصة، على الحضور الكبير للرعي في الحياة الاقتصادية في المناطق الجبلية، بحكم الارتباط الوثيق بين رعي الأغنام والمعز من جهة، والعزف على النّاي من جهة ثانية.
أعْلّام: لا يمكن أن يكون في الرّقصة إلا واحدا، وهو قائد الرقصة ومُوجِّهَها. ويكون من ذوي المعرفة والتجربة والخبرة في التقاليد الغنائية والموسيقية بالقبيلة، وهو يرمز إلى “أمغار” أو شيخ القبيلة.
رمزية رقصة تسكوين
“تِسْكِوينْ” إذن هي رقصة استعراضية حربية، ومناورة عسكرية رمزية، تتميز بمجموعة من الحركات الفنية المتناسقة في الإيقاع، والمتنوعة في الأداء والمرتبطة بعضها ببعض. فهي تقومبتصوير فني للمعركة الحربية، حيث الاستعداد للمعركة والتأهب لها ومهاجمة العدو، وركوب الخيل وقفز الحواجز، ومراوغة العدو وترهيبه ومصارعته، وهزم العدو، وتعقب العدو، والانتشاء بالنصر.
فالرقصة في مجملها وبكل مكوناتها، وما ترمز إليه من احتفالية بالانتصارات الحربية، وفرجة وابتهاج بالتآزر والتلاحم في مواجهة الخصوم، واستعراض للإمكانيات البشرية للقبيلة، عبارة عن لوحة فنية، تحيل على القبيلة بكل مكوناتها والعناصر الفاعلة فيها. فالمشاركون المشكلون لدائرة الرقصة، هم الجماعة القبلية وقاعدتها البشرية، وفي نفس الوقت جنود القبيلة وحماتها، في حالة نشوب حرب مع غيرها من القبائل أو الحلف المعادي. أما “العواويد” الضابطين للألحان و“الرّوايْسْ” الضابطين للإيقاع الموسيقي للرقصة وفق تعليمات وإشارات “أعلّام”فيحيلون في دلالاتهم الرمزية والاجتماعية، على المقدّمين أو “إمزوارْنْ”، الذين يديرون شؤون الوحدات الصغيرة في القبيلة. في حين أن “أعلّام” باعتباره رئيس الرقصة ومديرها، فيرمز لشيخ القبيلة وقائدها. والراقصون يمثلونويرمزونالى“الجماعت”أي جمهور القبيلة. أما مشاركة العنصر النسوي فيها في بعض القبائل،فيعبر عن حضور المرأة في كل مناحي حياة القبيلة، بما في ذلك المعارك والحروب القبلية.
وأشعار رقصة تسكوينالتي يرددها الراقصون في مواويلهم، والتي يفتتحون بها رقصاتهم، تتطرق الى مواضيع وتيمات ذات علاقة بالهموم المحلية والقضايا الاجتماعية والوطنية. فالمقطع الغنائي أعلاه، والذي تم ترديده في مستهل رقصة تسكوين بمنطقة سكساوة، خلال فترة الاستعمار، يظهر كيف كان يتم التعبير عن القضايا المحلية والوطنية في هذه الرقصة، بإيحاءات رمزية، وكيف تم توظيف الرصيد الثقافي والرموز الدينية بالمنطقة من أجل خدمة الوطن.يتكون المقطع الغنائي من بيتين شعريين، يعبِّران بضمير الجمع عن استحالة صعود السيارة (طاموبيل) إلى جبل سكساوة، فهو جبل مُحَرّمٌ على السيارة الصعود إليه والمرور به، ليس لوعورة تضاريسه وصعوبة مسالكه أو عدم وجود الطريق به، وإنّما لوجود الولية الصالحة لالة عزيزة بنت ابراهيم السَّكسيوية فيه والمشار اليها ب “لالة عيزة بيهي“.
من خلال كل هذه المكونات، أصبحت رقصة تسكيوينواحدة من الآليات الثقافية والفنية التي ابتكرتها قبائل أعالي جبال الأطلس الكبير الغربي، للتعبئة العسكرية والسياسية للقوات القبلية لكل حلف قبلي على حدا، بالتحفيز وبعث الحماس في شبابها استعدادا للدفاع عن حمى قبائلها وحماية مواردها وصيانة شرفها، وتقوية شعور الانتماء للحلف كدائرة أوسع لربط علاقات الأخوة بالمصاهرة والنصرة والتآزر والتضامن.
وقد صنفت مؤخرا منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونسكو، بالتعاون مع وزارة الثقافة والاتصال، وبمساهمة بعض الأساتذة الباحثين في العلوم الاجتماعية، رقصةتسكوين في إطار التراث اللامادي المهدد بالاندثار، والذي يحتاج إلى الحماية والصيانة.