21, نوفمبر 2024

ليلى خزيمة

منذ الأزل، والمغرب يحافظ على مكوناته الثقافية والتراثية، الضاربة جذورها في عمق التاريخ.  ومن بين هذه المكونات التراثية، اللباس المغربي التقليدي بكل وجاهته. وإذا كان الزي التقليدي المغربي عزة ومفخرة وطنية، وواحد من المكونات الرمزية في الثقافة المغربية، فإن كل منطقة من مناطق المغرب تتباهى بخاصية من خصائصها وتراث من الموروث الثقافي لها. وهنا نستدعي إقليم فجيج التي إضافة إلى التمور، تتفنن نساؤها في حياكة البرنس أو السلهام وكذا الحايك.

الحايك هدية الرجل للمرأة

يقول الشاعر والزجّال المغربي مصطفى سلوي في قصيدة زجلية تغزَّل فيها بمجد الحايك المغربي: «الحايك زين الكسوة، تلحيفة الهمة والشان، وسعد كل عروس من وجدة لتلمسان». والحايك هو ثوب أبيض اللون غير مخيط، عبارة عن قطعة مستطيلة من النسيج تنجز دفعة واحدة، يتراوح طولها ما بين خمسة وستة أمتار، ولا يقل عرضها عن متر ونصف. وهو لباس في الأصل رجالي، لكن تنازل الرجل عن ارتدائه، ليهديه كساء لرفيقة دربهم المرأة، التي لفت به جسمها تعبيرا منها عن وفائها للرجل.

للباس الحايك قواعد

كان الرجل يلف الحايك حول جسمه ليغطيه كاملا من قمة رأسه إلى قدميه. ويختلف قياسه بحسب الذوق وبنية الجسد. وكان الرجل يلبسه، بإلقاء أحد طرفيه على الكتف الأيسر وشد حاشيته باليد اليسرى، ثم يرميه خلف الظهر ويمرره من تحت الإبط حتى يغطي به الصدر. وبعدما يكمل دورة أولى بالرجوع إلى الكتف الذي انطلق منه، يبادر إلى تغطية رأسه بطرف منه مرة أو اثنتين، ثم يستأنف عملية اللف حول الظهر والصدر. وما إن ينتهي من تغطية الجزء الأعلى من الجسم والرأس حتى ينتقل إلى القسم الأسفل، ليلفه به طبقا للطريقة نفسها، وفي اللفة الأخيرة يغطي رأسه.

أما النسوة، فيلتحفن بالحايك عبر تركيزه عند الخصر بواسطة عقدة تسمى “المشموم”، أو بربطه إلى الحزام بشريط إضافي يمرّرنه خلف عنقهن ليشددن به الحايك بطريقة محكمة. بعد ذلك تسحبن طرفا منه على قامتهن مبتدئات من الكتف الأيسر حتى تغطية كل الجسم. وبعد الانتهاء من الالتحاف، تبادر المرأة إلى وضع اللثام أو النقاب على وجهها، ثم تسحب الجزء الأعلى من الحايك على رأسها وتشد حواشيه عند صدرها، فتكون بذلك قد غطت كل جسمها. وتمسك المرأة الحايك وتحركه كما تشاء بيديها اللتين تظلان مختفيتين للحفاظ على التحكم في طرفيه من الداخل.

مواقع ارتداء الحايك

في كل بيت، لا بد وأن تجد حايك، لأن أجدادنا كانوا يولون لباسنا التقليدي أهمية كبرى. فهو رمز العزة والشموخ. في البوادي، وفي موسم جمع الصوف، كانوا يضعون نصيبا أوفر من صوف الغنم جانبا لينسجوا منها رداءهم الذي هو عبارة عن قطعة واحدة من الصوف المنسوج، منه الخفيف لفصل الصيف والقيظ، ومواسم الفروسية ومباراتها الرياضية، ومنه الثقيل السميك المخصص لأيام البرد والشتاء. كانوا يجعلون من رداء الحايك لباسا فخما يلتفون به مفخرة في المناسبات والأعياد، أو حين يمتطون صهوات الخيل. فهو رداء جميل يرمز للجاه والنبل، ويصنف صاحبه في مصاف علية القبيلة وكِرامها، خصوصا إذا ما صاحبه الخنجر الفضي المعقوف النقوش باعتماد العاج في تركيبة مقبضه. ويتنوع نسجه كما قلنا باختلاف الفصول. ففي الصيف، يصنع من الحرير، والقطن، والكتان، والصوف الرقيق. أما في الشتاء، فيصنع من قماش سميك.

عادات وتقاليد

إن المرأة الفيجيجية عندما تهم للخروج، لا بد أن تضع الحايك. هذا الأخير ينسج من خيوط القطن ذي اللون الأبيض الناصع، فلا يكاد يظهر من المرأة، في الجزء العلوي، إلا العينين، أو بالأحرى، لا تظهر المرأة الفجيجية من نفسها إلا عينا واحدة لدى سمي ب “حايك لعوينة”. وفي الجزء الأسفل غير الحذاء الذي يناسبه. وكان الحايك لا يُنزع إلا في المنزل والأماكن الخاصة. ويعرف النوع الممتاز من هذا اللباس بـ “حايك السُكَّـرْ”، الذي يميل لونه إلى صفرة حريرية. وهناك الحايك المنسوج من خيوط الصوف، المُسمى “أفرّاشْ”، وهو نوع كانت تلسبه المسنات من النساء في الغالب. وكان من عادات الزواج في المدينة أن يقوم العريس بتقسيم الصداق إلى نصفين. نصف يقدمه نقدا، والنصف الآخر على شكل ثياب وألبسة، ومنها “حايك السُكرْ” الذي تدأب العروس على لباسه بعد زفافها. ولازالت العديد من النساء الفجيجيات متشبثات بلباس الحايك إلى حد الآن، لما يشكله من حشمة ووقار وتراث عريق. ولا زالت هناك عادة وتقليد متوارث قائم، يتجلى في ارتداء بعض الفتيات المخطوبات الحايك أثناء ذهابهن إلى “الحَمَّامْ” التقليدي، وهن محفوفات بالصديقات والفتيات من الأقارب، على وقع الزغاريد استعدادا لطقوس العرس.

البرنس

أمازيغي الأصل، البرنس لباس تقليدي حافظ عليه المغاربة منذ القدم. فقد أطلق عالم الاجتماع ابن خلدون على الأمازيغ تسمية “أصحاب البرانس”. والبرنس لباس يشبه المعطف، ويتميز بغطاء للرأس ويُحاك عادة من الصوف الثقيل. وهو زي تقليدي للرجال يستخدمونه بالخصوص في فصل الشتاء. وقد ارتبط في الذاكرة الجماعية بالنخوة والمركز الاجتماعي المرموق، إذ كان قديما لباس السلاطين ورجال الدولة، ومع مرور الوقت أضحى زيا تقليديا يحرص العديد من المغاربة على التزين به في المناسبات والأعياد.

اشتهرت منطقة فيجيج بحياكة البرنس، كزي رجالي يلبس فوق الجلباب، وخاصة في وقت البرد والشتا، ليشكل حاجزا يقي صاحبه برودة الطقس بخرقه المختلفة سواء أكان من الصوف أو “السوسدي” أو “المليفة” أو الوبر.

فبالرغم من التطورات التي يشهدها المجتمع المغربي والتغييرات التي دخلت على نمط عيشه، إلا أن اللباس التقليدي المحلي يظل ملازما لتفاصيل الحياة لأهل منطقة فجيج خاصة، والإقليم بصفة عامة. بل أصبح عنوانا لابتكار وإبداع الصناع المحليين. فحسب نعيمة زايد، رئيسة جمعية فجيج للمرأة والطفل إن: «صناعة البرانس بفجيج عرفت ازدهارا في بعض الحقب بفضل وجود عدد كبير من الزوايا بالواحة. وكانت طلبات شيوخها كثيرة ومتنوعة، إلى جانب كون واحة فجيج كانت معبرا لعدد كبير من حجاج بيت الله الحرام آنذاك، وكان هؤلاء يتزودون بتلك البرانس، إما لاستعمالها أو الاتجار بها أو منحها كهدية.»

للتاريخ

لقد تعرف الإنسان في منطقة فجيج على النسيج منذ 1500 سنة قبل الميلاد معتمدا على النقوش الصخرية في الجبال، إذ استلهم منها الصانع التقليدي رسوماته في نسج الجلباب والسلهام والزرابي. يقول الطيب الجابري، عن جمعية فجيج للتراث وثقافات الواحات: «أن إنسان ما قبل الميلاد كان يصنع لباسه من جلود الحيوانات التي كانت تعيش في المنطقة، وبعد ذلك انتقل إلى استخدام صوفها، وبالأخص صوف الجمال والأغنام والمعز.».

والبرنس عبارة عن “خرقة” للباس به قلنسوة أو كما يسمى باللهجة الدارجة “قُبْ”. يوضع البرنس على الأكتاف فيغطي الجسم، وقد يصل حد القدمين أو يقصر، حسب الذوق. وهو يخاط في عدة أشكال منها الرجالي والنسائي. ومن مميزات البرنس أيضا أنه مفتوح تماما من الأمام ومن دون أكمام.

قصر زناكة بإقليم فجيج، معقل حياكة البرنس

تعتبر صناعة غزل الصوف المخصص لنسج البرنس صناعة واحية بامتياز، تقوم بها النساء بصبر وتفان. ويعد قصر زناكة بمدينة فجيج المكان الوحيد بالمنطقة الذي لازالت تُمارَس فيه هذه الصناعة.

بعد تجميع الصوف وغسله وتركه للشمس على أشجار السدر الشوكي حتى يجف بلله ويزول ما علق به من شوائب: «تجلس السيدة الفجيجية، كلما أنهت عملها اليومي المعتاد، إلى ركن وسط الدار لتعمل على الصوف. تهويه وتباعد بين شعيراته الرقيقة، وتنهي تلبدها المشدود بآلة “القرشال” اليدوية، ذات الأسنان الحديدية المسطرة. ثم بعدها تستعمل “المشط”، وهو آلة يدوية خشبية من طرفين اثنين، تباعد بها بين أجزاء الصوف الدقيقة جدا حتى يلين ملمسها. وبالمغزل الخشبي التقليدي، تقوم السيدة بغزل خيوط الصوف وتجميع كراتها المختلفة الأحجام، تهييئا لها لليوم الموعود. الصوف جاهزة، تضرب المرأة الفجيجية أعمدة المنسج في الغرفة الكبيرة للدار، وتبدأ عملية تصفيف الخيوط على “المرمة”» نعيمة زايد.

متطلبات النسيج

يتطلب نسج برنس الصوف ستة كيلوغرامات من هذه المادة. وتتكون الخرقة عادة من السدى واللحمة (الطعمة) بطول يتراوح بين ثلاثة أمتار وثلاثة أمتار وعشرين سنتمترا، ويستغرق إنجازها شهرا كاملا. أما بخصوص خرقة برنس الوبر، التي تتطلب ثلاثة كيلوغرامات من شعر الإبل، فيستغرق إنجازها شهرين إلى شهرين ونصف. مهمة نسج البرنس تحتاج الى الحنكة والدقة وطول النفس، لذلك تجتمع النسوة على العمل حتى يقمن به في أقصر الآجال، فنسج وصناعة هذا الزي التقليدي تتطلب من النساء وقتا طويلا. تبدأ العملية بغزل الصوف ثم نسجه فخياطته. ويتم صنعه من صوف الخرفان وصوف الإبل وباستعمال الخيط في نسجهما. ويتراوح ثمن البرنس ما بين 700 و800 درهم بالنسبة للمنتوج المصبوغ بالصباغة التقليدية. وبالنسبة للمنسوج المعد من الصوف الأسود، فالأثمنة تتراوح ما بين 1500 و3000 درهم. أما المنسوج من شعر الإبل الأسود، فيبلغ ثمنه اثني عشر ألف درهم، وينسج تحت الطلب لغلائه.

تقول فاطمة كاكو، الباحثة في مجال الموروث الثقافي لواحة فجيج: «إلى جانب إنتاج التمور، تمثل صناعة الصوف من أجل نسج “البرانس” صناعة واحية بامتياز تقوم بها النساء بإخلاص وتفان، ففي شهر رمضان المبارك، تستيقظ النسوة القاطنات بالمدينة القديمة، حيث الطقس أقل حرارة بفضل البناء بمواد تقليدية، لغزل الصوف ونسجه إلى حدود صلاة الظهر، قبل أن تخلدن إلى بعض الراحة، حتى أوان صلاة العصر، حيث تنصرفن إلى تهييء وجبتي الفطور والسحور… بخصوص صناعة البرانس، تضاعف النساء من مجهوداتهن خلال شهر رمضان، فتنتجن برانس ذات جودة عالية، خاصة نوعي “برنوس الوبر” المصنوع من صوف الإبل، و“أخدوس” وهو أسود اللون، ويليهما في الجودة السلهام” الأبيض و”الحر”.»

أنواع البرنس

تتبع أنواع البرنس في منطقة فجيج، تسلسلا اجتماعيا معينا، يعتمد على نوع المناسبات. فهناك الأبيض الذي يطلق عليه اسم “أملال” باللغة الأمازيغية المحلية، وهو برنس خاص بالمناسبات الدينية، وهناك الأسود الذي يقال له بالامازيغية “أخيدوس”، الخاص بعَلية القوم، وهناك البني أو كما يسميه أهل المنطقة “أقرفي” الخاص بالفلاحين. أما الأحمر الذي يعرفه الإقليم باسم “أبيدي”، فهو أجود ما في المنتوج، وهو مخصص للأعيان وكبار القبائل.

يجزم العديد من الحرفيين بأن حماية الصناعة التقليدية بشكل عام كموروث ثقافي وتراث إنساني، لا يعني الصانع التقليدي بمفرده، بقدر ما يعني كل المغاربة، لما لها من رمزية في حياتهم، إذ تجسد جذورا حضارية راكمها المغرب لقرون عدة. وفي هذا الإطار، عمل بعض النشطاء بمواقع التواصل الاجتماعي على إطلاق حملة تحدي اللباس التقليدي المغربي تحت شعار «الرجوع إلى الأصل فضيلة». فخرجت نساء وفتيات مغربيات من مختلف المدن إلى الشوارع، وهن يرتدين الملابس المغربية التقليدية بهدف إحياء الزي التقليدي المغربي والمحافظة على الموروث الثقافي، ثم التقاط صور في أحياء المدن وأزقتها لنشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التوثيق. وكان الحايك والبرنس أحد أهم هذا الموروث الثقافي.

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version