حسن عين الحياة
فقد المغرب مساء السبت 20 يناير 2024 العلامة البارز عباس الجراري، الذي ترجل عن صهوة الحياة عن عمر يناهز 86 سنة. وخلف رحيل الجراري الذي شغل سابقا مهمة مستشار الملك محمد السادس، ألما في نفوس كثيرين، خاصة الذين تتلمذوا على يده، فكان له معهم أفضال كبيرة على تأطير أجيال بأكمالها في عديد الجامعات المغربية.
لقد كان الجراري بحسب الذين يعرفونه جيدا، رجلا وطنيا من عيار ثقيل، اجتمع فيه ما تفرق في غيره. فهو الأديب الألمعي الذي واكب وساهم في أبرز التحولات التي عرفها المشهد الثقافي في المملكة طيلة العقود الستة الأخيرة.. وهو المفكر الموسوعي والأكاديمي المرجعي والعلامة الذي قطف احترام العلماء في المغرب والجغرافية العربية والإسلامية، فضلا عن كونه رجل دولة وازن ودبلوماسي رفيع، أنيطت به عديد المهام في عهد الملك الراحل الحسن الثاني والملك محمد السادس. وفوق كل هذا، هو رجل عاشق للتراث المغربي، ومدافع صلب من أجل صونه والحفاظ عليه وتمكينه من كل الوسائل التي تضمن له الإشعاع الذي يليق به، تماما كما حصل في دجنبر الماضي، عند حصد الأدب المغربي ثمار إدراج “الملحون” ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية، وهو تتويج في الآن نفسه للجهود التي بذلها الجراري في سبيل هذا الفن المغربي الأًصيل.
ولد عباس الجراري في 15 فبراير 1937 بمدينة الرباط.. تربى في بيئة علمية وثقافية ودينية خالصة، ذلك أن والده عبد الله بن العباس، كان من أبرز رجال المغرب الحديث علما، بالنظر إلى حصوله على عالمية القرويين وإجازته من قبل كبار علماء عصره. ويكفي أن تاريخ المغرب يذكر أن والد عباس الجراري، كان من أبرز المعارضين للظهير البربري عام 1930، بل كان متزعما لهذه الحركة المعارضة وخطيبها في المساجد وفي قراءة “اللطيف”، الأمر الذي أدى بالآلة الاستعمارية إلى اعتقاله وسجنه، قبل أن يتم إطلاق سراحه فيما بعد.
في عام 1933، تزوج عبد الله الجراري بالزهراء بنت المكي اجديرة، فأنجبت له 5 بنات و4 ذكور، وعباس الجراري هو ثاني إخوته وأخواته ترتيبا.. تلقى تعليمه الأولي في “مسيد” الفقيه المهدي المصباحي بالزاوية الرحمانية، ثم انتقل في عام 1944 إلى “مسيد” الفقيه المقرئ المكي بربيش، وكان يدرس شتاءً بزنقة جامع عطية وصيفا بالزاوية المباركية، قبل أن يلتحق بالتعليم الرسمي في مدارس إدارة الحماية من خلال مدرسة أبناء الأعيان (لعلو) التي نال منها الشهادة الابتدائية، ليجتاز بعدها امتحان القبول في الثانوي. كما درس عباس بثانوية الليمون الفرنسية (الشعبة العصرية باختيار الإنجليزية لغة ثانية)، ليلج بعدها ثانوية مولاي يوسف عام 1952، فنال منها الشهادة الثانوية سنة 1956. وبين عامي (1952 و1956) كان عباس يتردد على معهد الدروس العليا المغربية، حيث حصل على شهادتين في اللغة العربية والترجمة.
ولأن المنهاج التعليمي كان فرنسيا وقتها بسبب ظروف الحماية، تلقى عباس الجراري خلال هذه الفترة تعليما آخرا في البيت على يد والده، خاصة في العلوم العربية والإسلامية، مما أهله، من قسم الباكالوريا الأولى بثانوية مولاي يوسف، للسفر إلى مصر والالتحاق بكلية آداب جامعة القاهرة التي نال منها عام 1961 الإجازة في اللغة العربية وآدابها (مع اختيار اللغة العبرية كلغة شرقية). بعد ذلك مباشرة، حلق إلى فرنسا، حاطا رحاله بجامعة السوربون في باريس، حيث سجل أطروحة دكتوراه الدولة في موضوع “مسلمو إسبانيا ورحلاتهم إلى المشرق”. وخلال هذا العام (1962) التحق عباس الجراري بالسلك الدبلوماسي في القاهرة، حيث شغل منصب أمين الشؤون الخارجية بسفارة المغرب بالعاصمة المصرية، لكن هذا المنصب لم يمنعه من إتمام مشواره الدراسي، حيث حصل عام 1965 على درجـة الماجستير بتقديم رسالة عن الأمير الشاعر أبي الربيع سليمان الموحدي وتحقيق ديوانه، ونيله عام 1969 دكتوراه الدولة بتقديم أطروحة عن “الزجل في المغرب: القصيدة”.
لقد كان من شأن هذا المسار الدراسي الحافل أن فتح الباب للجراري لشغل عديد الوظائف، حيث انضم إلى هيئة التدريس بجامعة محمد الخامس في فاس، ثم في الرباط. كما انتخب رئيسا لشعبة اللغة العربية وآدابها عند تأسيسها في كلية الرباط، قبل أن تُضاف إليه مهام أخرى، أبرزها تعيينه عام 1979 من قبل الملك الراحل الحسن الثاني، أستاذا بالمدرسة المولوية، حيث درس لأصحاب السمو الأمراء والأميرات مواد (الفكر الإسلامي والتربية الوطنية والتربية الإسلامية والنصوص الأدبية). وفي عام 1980 عُيّْن عميدا لكلية الآداب في جامعة القاضي عياض في مراكش، لكن سرعان ما قدم استقالته بعد أقل من شهرين على تسييرها.
وفي عام 1983 تم تعيين الجراري عضوا بأكاديمية المملكة المغربية والمجلس العلمي الإقليمي لولاية الرباط، ورئيسا لهذا المجلس من سنة 1994 إلى دجنبر 2000، وقبل ذلك، من سنة 1989 إلى دجنبر 2000 كان خطيبا بـ”مسجد للا سكينة” في العاصمة الرباط. لكن قبل هذا التاريخ، كان عباس الجراري وجها مألوفا عند المغاربة، حيث كان يظهر خلال شهر رمضان وهو يلقي بين يدي الملك الراحل الحسن الثاني الدروس الحسنية، بحيث له حوالي تسعة دروس غاية في الأهمية، ألقاها بين عامي 1975 و1998.
ولأن الجراري راكم من خلال مساره العلمي والأكاديمي تجربة مهمة تؤهله للمناصب العليا والمهام الكبرى، فقد عينه الراحل الحسن الثاني في فاتح يناير 1999 مكلفا بمهمة في الديوان الملكي، وهو المنصب الذي ظل يشغله بعد تربع الملك محمد السادس على عرش أجداده الميامين، إلى أن عينه الملك مستشارا له في 29 مارس 2000.
حمل عباس الجراري لقب “عميد الأدب بالمغرب” باعتباره أحد رواد الثقافة والفكر، سواء في المملكة أو في العالم العربي. فقد ظل عباس الجراري يرأس أقدم نادي ثقافي في المغرب، وهو “النادي الجراري” الذي تأسس مطلع ثلاثينيات القرن الماضي على يد والده عبد الله الجراري، وكان مجمعا تثار فيه النقاشات السياسية والفقهية وتُلقى فيه العروض الثقافية، لكن بعد وفاته 1983، استمر نشاط النادي برغبة من ابنه عباس، فكان من ثمار هذا النادي إصدار حوالي 80 مؤلفا تزخر بها الآن الخزانة الوطنية.
الآن، رحل عباس الجراري إلى الأبد، لكن روحه ستظل حاضرة في التفاصيل، كما سيظل فكره منارا يهتدي به كثيرون.. اليوم، فقد المغرب برحيله رجلا لن يتكرر مرتين، اجتمع فيه الأكاديمي والدبلوماسي والأديب والمفكر والمثقف العضوي والشاعر والعلامة.. كان مفردا بصيغة الجمع، يشتغل دون انقطاع كآلة مجبولة على العطاء.
لقد تأثر كثيرون بوفاة الجراري، وعلى رأسهم الملك محمد السادس الذي وصفه في برقية التعزية والمواساة التي بعثها إلى أفراد أسرته بـ”العلامة والأديب المقتدر الأستاذ عباس الجراري”.
واعتبر الملك محمد السادس أن “رحيل الفقيد العزيز” تعد خسارة للمغرب الذي “فقد برحيله شخصية أكاديمية فذة مشهود لها بغزارة العطاء في المجالات العلمية والأدبية والدينية، مستحضرين بكل إجلال، ما كان يتحلى به الفقيد من دماثة الخلق، ومن خصال رجال الدولة الأوفياء والعلماء الأجلاء، ومن غيرة وطنية صادقة، حيث كان، رحمه الله، مثالا يحتذى في التشبث بثوابت الأمة ومقدساتها، والتعلق المتين بالعرش العلوي المجيد”.
واستحضر الملك محمد السادس في البرقية ذاتها “ما كان يحظى به الراحل من احترام وتقدير كبيرين من لدن المثقفين والأكاديميين في المغرب وفي العالم العربي والإسلامي، فضلا عما كان يتمتع به من نزاهة فكرية وكفاءة عالية، واقتدار مكين في سائر المهام الجامعية والسامية التي أنيطت به، سواء في عهد والدنا المنعم، جلالة المغفور له الحسن الثاني، قدس الله روحه، أو تحت إمرة جلالتنا”.
رحم الله عباس الجراري وأدخله فسيح جناته.