المنعطف- حسن عين الحياة
عندما تنصت إلى أغاني الفنان محمد رويشة، يتملكك إحساس غريب مشوب بالحسرة، وقد يعتريك شعور عميق بالأسى، لكون هذا المبدع المتفرد رحل مبكرا وهو في أوج العطاء. ففي 17 يناير 2012 خطف الموت رويشة من عشاقه ومحبيه، وخلف صدمة كبيرة في المملكة، باعتبار هذا الفنان، رمزا من رموز الأغنية المغربية الشعبية، وعلما من أعلامها الذي لن يتكرر مرتين.
اليوم، تحل الذكرى الـ12 لرحيل الفنان محمد رويشة، وهي مناسبة نستحضر من خلالها روح مبدع عملاق، تمكن طيلة مساره الفني الممتد إلى أزيد من 4 عقود أن يرسم لنفسه مسارا خاصا، مميزا بأسلوبه الحامل لوسمه وتيمته والحابل بخواصه العصية على التقليد. فهو فنان عصامي ينتمي إلى الأرض التي تغنى بها في كثير من أعماله الخالدة، و”ساحر” تمكن من خلال ألته الفريدة (لوتار) أن يستنطق جبال الأطلس المتوسط، فأضحت تردد نغماته وهي تستقبل الزائرين.. إذ يكفي أن تلوح هذه الجبال في الأفق، حتى تنطلق صوامت رويشة من قممها ومن بين نتوءاتها وفجاجها، وكأنها تفتح الذراعين ترحيبا بكل قادم.
لقد ظل محمد رويشة، منذ بروزه كمبدع شاب في منتصف ستينيات القرن الماضي، وإلى غاية وفاته في 2012، الفنان الأمازيغي الأكثر استقطابا للضوء. لم يسعَ يوما وراء النجومية، بقدر ما سعت هي إليه.. أخلص لفنه، فحمله هذا الفن إلى مراتب عليا من الشهرة والنجومية.. ذلك أنه واحد من المبدعين المغاربة القلائل ممن عشقتهم الكاميرا وافتتنت بهم عدسات التصوير.. فهو من النوع الذي تطمئن له العين، وترتخي له أسارير الوجه.. فنان تُحْب أن تشاهده وهو يتحدث بلغته البسيطة والعميقة في آن.. وتعشق لحظة مسكه بآلة “لوتار”، وكيفية ضبط “كورداته” برفق، قبل انطلاقه في النقر الخفيف، للدخول في عوالم من الموسيقى التي تشبهه، أو التي تعكس حسه المرهف وإحساسه العميق بالأشياء. لكن وأنت تشاهده، وهو يغني أو يتحدث أو يبتسم حتى، تكاد ترى في عينيه الذابلتين تاريخا دفينا من الألم، وإلتماعة بكيمياء خاصة تترجم الرغبة في الحياة بما تحمله من أمل.
ولد محمد رويشة عام 1950 بمدينة مريرت.. واسمه الحقيقي محمد الهواري، بينما لقب رويشة سيلتصق به مباشرة بعد اكتشاف من حوليه لموهبته في العزف والغناء. ورويشة هو أسم مركب، يجمع بين كلمة “روي” وتعني أمزج، وكلمة “شة” وتعني شيء، ومن خلال الجمع بين الكلمتين، يصبح لـ”رويشة” مدلولا آخرا، وهو “امزج شيئا” أو كما قال رويشة نفسه ذات حوار: “خلَّط شي حاجة”.
ومحمد رويشة هو ابن “مولاي الحسن” و”للا عائشة الحنفية”.. وشاءت الأقدار، أن ينفصل الأبوان، لتحمله “للا عائشة” إلى مدينة خنيفرة.. وهناك سيعيش رويشة الفقر والحرمان وحياة التنقل من منزل إلى آخر بحثا عن الاستقرار. ذلك أنه عندما فتح عينه، لم يجد سوى والدته التي كما قال رويشة نفسه، اشتغلت في كل شيء من أجل تربية طفلها الذي كان عالمها الوحيد.
وكباقي أقرانه، دشن الطفل محمد مشواره الدراسي بمدرسة “ديور الشيوخ”، وكان بحسب الذين اشتغلوا على مساره الفني والإبداعي تلميذا نجيبا ومحبا للاكتشاف، وموازاة مع ذلك، كان منجذبا للموسيقى.. وبحسب عبد الملك حمزاوي صاحب كتاب “محمد رويشة الإنسان والذاكرة”، حدث في أحد الأيام أن دخل “الأستاذ فوزي محمد كعادته للقسم بمدرسة ديور الشيوخ. الهواري محمد رويشة يجلس في الخلف، إذا بالأستاذ يسمع صوت الرنات الموسيقية داخل الفصل. الأستاذ يبدأ بتفتيش التلاميذ بصرامة، في الأخير يكتشف أن محمد رويشة يستعمل “السبيب” كأوتار موسيقية ثبتها بإحكام على قمطر طاولته”.
ويروي رويشة عن بداياته الأولى في عالم الموسيقى حدثا يشبه كثيرا ما يحدث في الأفلام، حين تتحقق نبوءة عرافة، تشوفت مستقبل البطل.. ذات مرة، وبينما غادر الطفل رويشة المدرسة معية زملائه، توجهوا جميعا إلى إحدى فضاءات “الحلقة”، وكان بها رجلا يعزف على آلة لوتار “منحناه (شي بركة) وطلبنا منه أن نعزف على آلته.. مسكت لوتار وعزفت شيئا.. ضحكنا جميعا ثم أعدت له الآلة، فقال لي الرجل: (سير يا ولدي، حط ذيك الشكارة راه رزقك في ذاك لوتار)، يقول رويشة في برنامج تلفزيوني، قبل أن يضيف، أن هذه القصة جرت عام 1958، “لكن بعد توالي السنوات وإلى غاية 1963، أصبحت عازفا على آلة لوتار”.
وفي حوار صحفي جرى بيننا عام 2008، كشف رويشة أنه تأثر في بداياته الأولى بعدد من الفنانين الأمازيغيين، لكن موازاة مع ذلك، كان عاشقا للسينما، وكثير التردد عليها في خنيفرة لمشاهدة الأفلام الهندية.. لقد كان متأثرا بها كثيرا، إلى درجة أنه أصبح يفهم اللغة الهندية دون الحاجة إلى ترجمة، لكن ميوله كان أكثر إلى موسيقاها وإلى سحرها وتنوع ألحانها، في حين يضيف بعض الباحثين أنه إلى جانب الهندية، تأثر رويشة في بداياته بالموسيقى التركية والفارسية أيضا، بالقدر الذي جمع من خلالها أنماطا وأدمجها برنات لوتار.
بعد مغادرته للمدرسة عام 1961، ملأ رويشة أوقات فراغه بالموسيقى، كان يغني في الحي بتلقائية الفنانين الموهوبين، وكلما غنى كسب جمهورا، إلى أن أصبح حديث مدينة خنيفرة والمناطق المجاورة، ومحظوظون من كانوا يجلبون الطفل رويشة للغناء في أعراسهم واحتفالاتهم. لكن حدث ذات مرة، ورويشة مجرد طفل صغير، أن التقى بالأستاذ محمد العلوي، لاعب شباب خنيفرة، فأعجب بأدائه، وآثار بعد تشجيعه أن يرافقه إلى العاصمة الرباط.. وهناك، قدمه إلى القسم الأمازيغي بالإذاعة الوطنية، فاكتشف القائمون عليها موهبة فطرية لها بصمتها في عالم الغناء، وقد ساعده الالتحاق بالإذاعة على تسجيل أول شريط له في مدينة الدارالبيضاء عام 1964، ثم واصل مشواره كهاو، رافضا أن يصفه البعض بالمحترف، ليقينه أنه في بداية الطريق. لكن مشواره الاحترافي الحقيقي سيبدأ عام 1979، عندما اتصلت به عدة شركات لتسجيل أغانيه، غير أن نقطة التحول في مسار رويشة الفني كانت سنة 1980، عندما غنى على خشبة مسرح محمد الخامس، وكان نجما مبهرا، نال استحسان الجمهور.
يقول المعجبون بتجربة رويشة إنه عبقري، تمكن من خلال أشعاره وعزفه وغنائه بالأمازيغية والدارجة المغربية أن يرضي جميع الأذواق دون استثناء، وأنه بقدر ما ارتقى بآلة “لوتار” ارتقت هذه الآلة به، فحملته إلى مصاف المبدعين الكبار. ذلك أن هذه الآلة كانت تعتمد على وترين فقط، قبل أن تنتقل إلى ثلاثة أوتار، لكن محمد رويشة سيتمرد على هذه الآلة التي كانت مقتصرة على بعض الفنانين المحليين، حيث أضاف إليها وترا رابعا، مكنها من عزف كافة الأنماط الموسيقية. وبالتالي أصبحت آلة “لوتار” معشوقته الأولى، ترافقه أينما حل وارتحل، كما كانت محط استقطاب كبريات القنوات العالمية، أثناء تغطيتها لسهرات المبدع رويشة في عديد المسارح في أوروبا وأمريكا.
اليوم (17 يناير 2024) تحل الذكرى الـ12 لوفاة هذا العبقري الذي خلد اسمه ضمن عمالقة الأغنية المغربية الشعبية. ويتذكر كثيرون كيف تأثر الملك محمد السادس برحيل محمد رويشة، من خلال برقية التعزية والمواساة التي بعثها إلى أرملته وابنه، واصفا إياها بالفنان المقتدر الذي رحل “بعد حياة حافلة بالعطاء الفني المتميز”. كما وصفه أيضا بفنان مرهف الإحساس، طيب الخلق، أصيل العطاء والإبداع.
واعتبر الملك محمد السادس في البرقية ذاتها أن “الراحل الكبير سيظل خالدا في السجل الذهبي للأغنية الشعبية المغربية، وعلما من أعلام الأغنية الأمازيغية، التي يعد من أكبر روادها، شعرا ولحنا وأداء، حيث لاقت أعماله المتميزة بإيقاعاته المعبرة، وأوتاره الشجية، نجاحا كبيرا، وإعجابا واسعا، جعلته ينفذ إلى قلوب عشاقه من كل الأجيال، متفردا بلونه الغنائي الجميل، ومحافظا على نغمه الأصيل; في اعتزاز بهويته المغربية، وتشبث بمقدسات الأمة وثوابتها”.
رحم الله الفنان محمد رويشة وأدخله فسيح جناته.