حسن عين الحياة
حلت قبل أسبوع، الذكرى الـ25 لوفاة الملك الراحل الحسن الثاني، وهي مناسبة نتوقف عندها قليلا، لاستحضار روح ملك عظيم، وحاكم عربي وإفريقيشهد له كبار زعماء العالم ومشاهيره، ممن عاصروه، بالفطنة والحكمة والكاريزما والعبقريةوبُعد النظر. وهي أوصاف تُضَاف إلى أخرى، يبرز معها الحسن الثاني كملك سبق عصره، بالنظر إلى ما خلفه من أثر على امتداد 38 من حكمه للمملكة.
لقد اجتمعت في الملك الراحل عديد الصفات التي ميزته عن كثير من زعماء عصره، فهو الملك الذي جسد من خلال أسلوبه الفريد في الحكم، المعتمد على صرامة البروتوكول وهيلمان الاحتفالات الوطنية، عظمة أجداده من سلاطين الدولة العلوية.. وفي الوقت نفسه هو أمير المؤمنين، والفقيه الذي حيَّر كبار العلماء والفقهاء، بالنظر إلى إلمامه الواسع بأمور الدين.. كما أنه الملك الشاعر، والمثقف المتشبث بالأصالة والمنفتح على مظاهر الحداثة، والرياضي الذي راهن على كرة القدم وألعاب القوى لترويج علامة المغرب في المحافل الرياضية الكبرى، والأكثر من ذلك، تميز بصفة ترددت على ألسنة كثير ممن عايشوه، خاصة مشاهير الموسيقى والطرب في المشرق، وهي الملك الفنان.
وهنا تحديدا، سنقترب أكثر من شخصية الحسن الثاني، لكن من خلال فنان كبير شغل الدنيا بأعماله الخالدة، وهو المطرب المصري عبد الحليم حافظ، الذي كان صديقا مقربا من الملك الراحل، وأكثر المطربين المصريين، غناء للمغرب وملكه.
الحسن الثاني بعيون عبد الحليم حافظ
في مذكراته الصادرة عام 1977، (مذكرات عبد الحليم حافظ كما يرويها بصوته)، والتي كتبها إيريس نظمي، خصص العندليب الأسمر ركنا منها لعلاقته بالملك الراحل الحسن الثاني، وجاءت بعنوان”الملك صديقي”.ويقول فيها عبد الحليم عن الحسن الثاني الفنان: “إن الملك الحسن عنده فرقة موسيقية يقودها أحيانا .. لكنه ملك حازم.. محنك وسياسي من الدرجة الأولى .. يعتمد على ذكائه وعلى الله أولا .. وهو مؤمن بوطنه إیمانا قويا ليس له حدود.. ملك بأخلاقه.. ملك بحكمته.. ملك بسياسته.. ملك بذوقه.. ملك بهواياته الفنية.. أشعر دائما أن في أعماقه فنانا.. وهذا هو سر ذوقه الرفيع الواضح في سلوكه وكلماته وتصرفاته وحتى في اختياره لملابسه”.
أناقة “العندليب” الأسمر مستلهمة من أناقة ملك
وفي المذكرات ذاتها، اعترف عبد الحليم أن الفضل وراء أناقته التي ميزته عن كثير من نجوم الشاشة المصرية يرجع للملك الراحل، مشيرا إلى أنه كان مدينا في بداية حياته الفنية لصديقه الحميم الشيخ كمال أدهم، خاصة في مسألة الذوق في اختيار الملابس المناسبة له، لكن فيما بعد سيلهمه الحسن الثاني بأناقته، وهنا يقول عبد الحليم: ” وإذا كان الشيخ كمال أدهم قد نما في نفسي هذا الإحساس بالذوق في اختيار الملابس ذات الألوان والموضات المناسبة لي .. فإن الملك الحسن قد عمق هذا الإحساس بالذوق في اختيار الملابس..”، مؤكدا أن الملك الحسن الثاني هو الذي عرفه ووجهنه إلى أشهر الأماكن ودور الأزياء العالمية التي تعوَّد عبد الحليم أن يشترى منها ملابسه.. في باريس وروما وأمريكا… وقال العندليب الأسمر عن هذه الدور إن الحسن الثاني”هو الذي لفت نظري إليها وعرفني بها. والمعروف أن الملك الحسن يعتبر واحدا من أشيك عشرة رجال في العالم.. بل وتربع على عرش الأناقة لمدة 15 عاما”.
الملك ينفق على عبد الحليم من ماله الخاص
تعود أول زيارة لعبد الحليم حافظ إلى المغرب إلى عام 1961، وكان وقتها قد رافق عددا من الفنانين المصريين إلى المملكة، وعن ذلك قال العندليب الأسمر “أذكر أن هذه الزيارة الأولى تمت في بداية حكم الملك الحسن، وكنا قد أعددنا أغنية (حكاية شعب) في ذلك الوقت.. ووجدت الجمهور المغربي يطلب هذه الأغنية إلى جانب الأغاني العاطفية الأخرى ..وأذكر أني سرت في شوارع المغرب مؤديا هذه الأغنية.. ثم دعانا الملك إلى القصر حيث سمعنا الأغاني والموسيقى المغربية، واشتركنا بالغناء في هذا الحفل داخل القصر الملكي.. وبدأت أشعر بأن الملك يقدرني تقديرا خاصا .. لقد نشأ بيننا نوع من الحب الإلهي بسرعة غير متوقعة”، يقول عبد الحليم.
بعد هذه الزيارة، أخذ مبدع”قارئة الفنجان” يتردد على المغرب كثيرا، كما غنى عنه وعن ملكه الراحل الحسن الثاني حوالي 10 أغاني، ترددت وقتها على ألسنة الملايين في المغرب وباقي الدول العربية، كـ”الماء والخضرة والوجه الحسن” و”ليالي العيد” و”أقبل الحسن” و”ناداني الحب” و”ليلة قمر”… كما غنى بالدارجة المغربية أيضا، إلى درجة أنه كاد لكثرة زيارته للملكة أن يصبح فنانا مغربيا.وبالمقابل شمله الملك الحسن الثاني بكرمه، وكان ينفق عليه من ماله الخاص. كما سبق للملك في أواخر الستينيات من القرن الماضي أن أهدى عبد الحليم سيارة فاخرة آنذاك، وهي إيطالية الصنع من نوع “فيات 130” موديل 1969، ذات لون فضي. وبحسب صحيفة “البلد” المصرية، إن هذا النوع كان يوجد منه 4 نسخ فقط في مصر، واحدة عند الرئيس أنور السادات، والثانية عند السفير البريطاني المعتمد في القاهرة آنذاك، والثالثة كان يملكها صاحب شركة “فيات” في العاصمة المصرية، والرابعة كانت بحوزة عبد الحليم حافظ.
وعن هذا الكرم، تقول عديد المصادر، إن الفنان الراحل أحمد الغرباوي، مبدع “إنها ملهمتي”استغل ذات مرة صداقته مع عبد الحليم حافظ ممازحا إياه، حيث قال له “إنك أتيت على كل أموال الدولة المغربية من خلال ما يغدقه عليك جلالة الملك”. هذا الحديث لم يستقر في أذن العندليب الأسمر فحسب، بل التقطته أذن أمينه لتوصله إلى الملك الراحل، فكان أن شعر الحسن الثاني بالحرج لينادي فوراً على الغرباوي، حتى لا يتكرر مثل هذا الأمر، باعتباره يشكل ليس حرجا له فحسب، بل حتى للفنانين المغاربة الذين ينشطون احتفالاتالقصر. وعندما مثل الغرباوي بين يدي الملك، وتبين منه صحة حديثه لعبد الحليم حافظ، قال له: “لا السي الغرباوي، إن ما أغدق به على عبد الحليم، هو من مالي الخاص، ومال أجدادي والله يحاسبني على ذلك، فأنا أفعل هذا من أجلكم أنتم لتتعلموا”.. وكان يقصد بذلك أنه لا ينفق من أموال الدولة على جلب الفنانين المشارقة إلى رحاب القصر حتى يستفيد منهم الفنانين المغاربة، وإنما يغدق عليهم من ماله الخاص.
عندما خصص الحسن الثاني طائرة خاصة لنقل العندليب الأسمر للعلاج في باريس
كان الفنان المغربي الراحل أحمد الغرباوي صديقا مميزا لعبد الحليم حافظ، وفي إحدى حواراتي مع الدكتور سعيد هبال، صاحب كتاب “أصدقاء ملك”، كشف عن قصة للغرباوي مع عبد الحليم، كادت أن تنتهي بفاجعة.
وبحسب هبال كان عبد الحليم حافظ يتردد كثيرا على المغرب، معتبرا إياه بلده الثاني بعد مصر، وكانت علاقته مع الملك الراحل الحسن الثاني مميزة جدا. وحدث ذات مرة، يقول هبال، أن حضر عبد الحليم إلى المغرب للمشاركة في إحدى المناسبات الوطنية، وكان الملك الراحل الحسن الثاني قد اختار الفنان أحمد الغرباوي من ضمن الفنانين للقيام بجولة رفقة العندليب الأسمر.
ويضيف هبال، أن الغرباوي أقل عبد الحليم في سيارته، وكانت وجهتهما نحو “شالة” بالرباط، لكن في الطريق رأى الغرباوي أن يتوجه صوب بيته أولا لجلب شيء يخصه، لذلك عرَّج باتجاه مسكنه، وكان بجوار مسكن الغرباوي صاحب محل لبيع الأسماك المقلية يلقب بـ”باحسون”.
وبحسب هبال، ما إن وصل الرجلان إلى المنزل حتى تسللت رائحة السمك إلى أنف عبد الحليم حافظ، فشعر الغرباوي بأن للفنان المصري رغبة في تناول السمك. بعدها قرر أن يتوجها معا إلى”باحسون”. وعند وصولهما إلى المحل، ترك الغرباوي عبد الحليم في سيارته، واتجه إلى بائع السمك.. ثم طلب منه أن يعد له طبقا خاصا لعبد الحليم حافظ . لم يصدق بائع الأسماك أن يتناول المطرب الكبير وجبة من محله، فتوجه مسرعا نحو السيارة وهو يحمل معه “المخطاف”، ولما رأى الفنان المصري، عانقه وأخذ في الصراخ كما لو دخل في نوبة هستيريا.. آنذاك عاد إلى المحل وأعد طبقا مميزا ومنحه لعبد الحليم، ومن ثمة توجه الغرباوي رفقة ضيفه نحو شالة حيث المنظر الجميل لغروب الشمس، وازدرد عبد الحليم الأسماك المقلية بشراهة.. ولما انتهى من وجبته أعاده الغرباوي إلى مقر إقامته. مع حلول الساعة الثانية صباحا، يقول هبال، أصيب العندليب الأسمر بنزيف داخلي، لأنه كان ممنوع عليه أكل الوجبات المقلية في الزيت، خاصة وأنه يخضع وقتها لنظام غذائي خالي من الدهنيات، لإصابته بداء البلهارسيا الذي نهش مساحة مهمة من كبده.
وبحسب هبال، لما توصل الملك الراحل الحسن الثاني بالخبر ليلا،حضر مسرعا، فرَقَّ لحال عبد الحليم الذي تدهورت حالته.. آنذاك نادى الحسن الثاني على طبيبه الخاص قصد ملازمته والتكفل به، كما أمر بإعداد طائرة خاصة مجهزة بالمعدات الطبية بهدف نقل عبد الحليم حافظ إلى أوربا للعلاج.
وفي مذكراته، يقول عبد الحليم “لن أنسى أبدا المرة الأخيرة التي زرت فيها المغرب.. يوم أن حدث لي النزيف اللعين بصورة مفاجئة ومزعجة.. كان الملك قلقا جدا من أجلى.. أمر بنقلي فورا إلى المستشفى الفرنسي في المغرب، حيث أشرف على علاجي مجموعة أكبر الأطباء الفرنسيين. وظل الملك يتابع أخبار المحاولات المتكررة لوقف النزيف الذي لم يهاجمني أبدا من قبل بمثل هذه الحدة والشراسة”.
ويتابع عبد الحليم في وصفه لانشغال الملك بحالته الحرجة “عندما عرف أن حالتي لم تتحسن بسرعة.. أمر بنقلي فورا على طائرة خاصة مزودة بكل وسائل العلاج الطبي الحديث، لكي أواصلفي باريس علاجی (…) هذه قصتي مع الملك .. الفنان .. الإنسان.. الحسن الثاني ملك المغرب الذي احتفظ له دائما في قلبي بكل الحب والاعتزاز”.
عبد الحليم: الحسن الثاني إنسان فيه رقة الفنان وحزم وصلابة الحاكم
في صيف 1971، كان الفنان عبد الحليم حافظ قد زار المغرب للمشاركة في احتفالات الملك الحسن الثاني بعيد ميلاده، وقد رافقه في هذه الزيارة عدد الفنانين المصرين الكبار، كمحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وشادية ومحمد الموجي… وبحسب ما صرح به مجموعة ممن عايشوا حدث الانقلاب الفاشل الذي قاده الكولونيل اعبابو في قصر الصخيرات، إن عبد الحليم حافظ كان يومها متواجدا في مقر الإذاعة الوطنية في الرباط لإتمام عملية المونتاج لأغنية أعدها بمناسبة عيد ميلاد الملك، لكن صادف ذلك اقتحام مجموعة من العسكريين مقر الإذاعة، يقودهم الكولونيل اعبابو. وبحسب المصادر نفسها، حاول الانقلابيون أن يجبروا عبد الحليم على ارتجال كلمة في ما يشبه بيان الانقلاب لكنه امتنع،بمبرر أنه ليس مغربيا، قبل أن تقع عين اعبابو على الملحن المغربي عبد السلام عامر الذي ردد البيان.
وفي مشهد مرعب، وثقه الراحل محمد الرايس في كتابه المعنون بـ”من الصخيرات إلى تازمامارت.. تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم”. كان عبد الحليم حافظ ضمن الرهائن، وقد تدهورت حالته الصحية فجأة، بسبب عدم أخذه الحُقن في وقتها.. وهنا يقول الرايس “كان الرهائن داخل الإذاعة يخضعون للحراسة المشددة، لاحظت بينهم المطرب المصري الكبير عبد الحليم حافظ واقفا ورافعا ذراعيه وقد نال منه العياء وأنهكه الرعب.. اقتربت من اثنين من الطلبة الضباط المكلفين بالحراسة وسألتهما: (واش عرفتو شكون هذا؟) .. أجاباني” لا. طرحت عليهما سؤالا آخر (واشانتوما من المدينة؟)، فكان جوابهما بالنفي وأنهما من البادية، فقلت (ماعليش، خليوْ هاذ السيد راه مريض بزافوماتخليوْ حتى شي حد يمسوا).. ألقيت التحية على هذا المطرب الكبيرورجوته بالجلوس وسألته عن سبب مجيئه، فرد بأنه جاء من أجل تسجيل أغنية…”.
لقد ظل الفنان عبد الحليم حافظ شامخا في عين الملك الراحل الحسن الثاني، فهذا الموقف الشجاع يحسب له، وعن ذلك قال عبد الحليم في مذكراته “طلبني ثوار الانقلاب الفاشل لكي أتحدث في الإذاعة فرفضت.. فعلاقتي بالملك علاقة إنسانية وفنية.. ارتباط مع إنسان احترمه.. وفنان يجري في عروقه حب الفن والفنانين.. فرغم مشاغله وأعبائه يحرص دائما على سماع كل جديد في عالم الموسيقى والغناء.. وقصره يشهد باستمرارهذه المهرجانات الفنية التي تكون فرصة للتعرف على كل جديد في الفن الغنائي.. إنني معجب بحكمته.. ورجاحة عقله.. وبُعد نظره.. إنسان فيه رقة الفنان وحزم وصلابة الحاكم.. إنه سياسي من الدرجة الأولى.. وأحترم فيه دائما حبه الشديد لشعبه ووطنه”.