a24-ليلى خزيمة
عندما تسمع حوافر الخيل وتشم رائحة البارود وتطربك زغاريد النساء وتخشع روحك لصوت حفظة القران، فاعلم أنك في حضرة موسم الاحتفاء بكبير القبيلة مولاي عبد الله أمغار.
بين مدينتي الجديدة وسيدي بوزيد تنتصب منذ مئات السنين خيام تستقبل الزوار والمهتمين والعشاق والمولعين وطالبي المعرفة والمشاركين في موسم الولي الصالح مولاي عبد الله أمغار. من أشهر المواسم في المغرب وأغناها، يُنظم هذا الحدث المتعدد الأبعاد احتفاء بالولي الصالح مولاي عبد الله أمغار ويعرف عدة أنشطة دينية وفكرية وثقافية وترفيهية يمكن إجمالها في نواة الموسم “التبوريدة ” وفنه مسابقات الصيد بالصقور وروحه الحلقات الدينية وطقوس زيارة الضريح وتقديم الكسوة أما خفة الظل فيه فسهرات فنية شعبية وتراث الحلقة والشهب الاصطناعية بالإضافة إلى الاصطياف على شاطئ بحر “تيطنفطر”.
من تيطنفطر إلى مولاي عبد الله
تشير الحفريات إلى أن تاريخ إنشاء القرية يعود على الأقل إلى العصر الفينيقي. بينما ترجع أصول تسمية المدينة بـ “تيط” إلى الأمازيغية ومعناها في اللغة العربية “العين”. وحسب المصادر الإسلامية فإن المنطقة كانت تسمى بالأمازيغية “تيطنفطر” وتعني “عين الفطر”، بينما تقول بعض الروايات الشفوية أن هذه التسمية جاءت بناء على كون سكان المنطقة كانوا يُفطرون بالماء بعد الصيام قبل تناول الفطور. وأخرى تقول إن “تيطنفطر” هي لفظ أمازيغي يعني العين الجارية ومعناها أيضا الطعام. والبعض الاخر يفيد أن عينا كانت توجد هناك وكان الشيخ إسماعيل بن سعيد أول ما نزل بها هو وأخواه عند قدومهم من الحجاز يتوضأ ويشرب منها. وليس من الغريب أن تتعدد الصفات لتصب في معنى واحد، فالمنطقة مشهورة منذ الأزل بالخصب والرخاء. ومن مآثرها الصومعة القديمة أو كما يسميها أهل المنطقة، الصومعة “المكرجة” أي الصومعة التي فقدت الإفريز الذي كان يزين عاليتها. وقد بنيت من الحجر الصغير المنحوت وهي من الصوامع القليلة بالمغرب، التي اعتُمد في بنائها، على هذه الطريقة والتي تنتسب إلى التقاليد المعمارية القرطبية. كان يوجد بداخلها سلم دائري، يساعد على الوصول إلى أعلاها، وهو مصنوع من الأحجار العريضة المثبتة على جدوع أشجار الصنوبر، مثبتة بدورها على الجدران.
أصل الحكاية، رؤيا
تبدأ القصة من رؤية صالحة رآها إخوة ثلاثة إسماعيل الذي لقب بأمغار وتعني بالأمازيغية الكبير أو الشيخ أو الأب وأخواه أبو زكريا يحي وأبو يعقوب يوسف. حثتهم الرؤيا على الرحيل إلى المغرب ليُنتفع بعلمهم وفقههم. فانتقلوا واستقر إسماعيل بقرية تيط، فزوجه شيخهم عبد العزيز بن بطانة ابنته فأنجبت له أبا جعفر إسحاق فنشأ على سيرة أبيه في الدين والعلم والصلاح. ولما توفي، قام مقامه، فاعتنى بتوسيع مقامهم وعمارته فاقتلع الأشجار واستخرج عينا صغيرة وبنى دارا وبنى بقربها مسجدا وحفر بقربه بئرا. وبعد وفاته، ورث ولده أبو عبد الله عنه العلم والصلاح وشرع في نشر العلم والدين وتلقين مبادئ السلوك والتربية فكان عنده طلبة ومريدون. فدونت أقلامهم مراحل حياته التي أمضاها في العلم والتربية والجهاد والخلوة، حتى أطلق عليه اسم أبي البدلاء لكثرة عطائه هو وأولاده وحفدته.
كانت تتوافد عليه الوفود برباط تيط من كل حدب وصوب لاستشارته والتزود بنصائحه. قال عنه ابن الزيات في كتاب التشوف: «كان من كبار الصالحين في عصره. فعلى يده تتلمذ عدد من الفقهاء والصوفيون والعلماء.». ومن الكرامات التي تحكى عنه، أنه كان يوتر الصلاة في جزيرة صغيرة وسط البحر. وكان يخلع نعليه ويخطو باتجاه البحر سائرا حافي القدمين على سطح الماء دون أن تبتل قدماه أو يغرق حتى يبلغ أطراف الجزيرة صحبة أتباعه ومريديه فسميت المنطقة بعدها باسمه.
موسم مولاي عبد الله أمغار، دين ودنيا
بالإضافة الى معرض الفرس، تشتهر جماعة مولاي عبد الله، بموسمها الذي لا يضاهيه أي موسم في المغرب ولا خارجه. يشتهر بالتظاهرات الدينية والثقافية والتجارية، حيث تغطي خيامه حوالي أربعة كيلومترات مربعة ويناهز عددها 25 ألف خيمة في حين يعد زواره حاليا بالملايين يأتون من كل أنحاء المغرب ومن الدول الأوروبية. ويشتهر موسم مولاي عبد الله أمغار “بالتبوريدة”، ومسابقات الصقور التي تجلب اهتمام الزوار والسياح.
يكتسي الموسم أهمية متميزة في وجدان ساكنة المنطقة وفي حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والروحية، بحيث يقوم المنادي أو كما يسمى باللهجة الدارجة ” البراح” بالإخبار في الأسواق الأسبوعية معلنا عن موعد انعقاد الموسم، وعبر وسائل الإعلام كذلك، فيتهيأ الجميع، وتقام الخيام لاستقبال الزوار. ويكون الافتتاح بالطقوس والعادات المتوارثة بتقديم كسوة الضريح والذبيحة في موكب رسمي على أنغام فرق “عيساوة” كما تقوم مجموعات الفرسان أو ما يسمى “بالسربات” بزيارة الضريح للتبرك وطلب “التسليم” حماية من حدوث أي مكروه. وتقتضي العادات أن ينصرف الناس إلى قضاء أعمالهم في الصباح، بينما يخصصون فترة بعد الظهر للاستمتاع بالفرجة على ألعاب “التبوريدة”. يرتدي فرسان كل سربة ملابسهم التقليدية ويركبون جيادهم وينطلقون إلى ميدان الفروسية أو “المحرك” في انتظار إشارة من قائدهم ” العلام”. وحين يصيح: «أهاو أهاو» ترفع البنادق عاليا ثم يردد: «الحافيظ الله» كإشارة لبدء العدو والركض. وبانطلاق البارود موحدا عند خط الوصول تعلو زغاريد النساء وهتاف الحناجر بالصلاة على النبي ﷺ، إيذانا بنجاح السربة. وحين يخطئ أحدهم بالضغط على الزناد خارج السرب يعاقب بالترجل عن فرسه وسط سخط أبناء قبيلته. وفي الليل تكثر الفرجة، وتعرف الأزقة ازدحاما كبيرا، حيث توجد فرق عديدة تؤدي ألوانا فلكلورية وفنونا شعبية، والسيرك والألعاب البهلوانية وغيرها.
البعد الاقتصادي للموسم
ظلت ساكنة مدينة تيط، منذ أزمنة بعيدة، تعتمد في عيشها على الفلاحة والزراعة والصيد والتجارة. كانوا يتاجرون في مادة الملح والصوف وكانوا يعتمدون أيضا على الحبوب والعنب والصيد البري لكون البراري المجاورة لتيط، كانت عبارة عن غابة تصل إلى نواحي الجرف الأصفر. وإلى الآن، هناك أنشطة مختلفة ترافق هذا الموسم السنوي، فالزوار بمختلف أعمارهم يتابعون ألعاب الفروسية والصيد بالصقور والتبضع في معارض الصناعة التقليدية، التي تعرض مختلف المنسوجات الصوفية التقليدية من جلاليب رجالية ونسائية وقفاطين وأقمشة مطرزة، وزراب، ومنتوجات زراعية محلية من عسل وزيوت طبيعية.
أن هذا الحدث الثقافي المتجذر بعمق في التاريخ، بتراثه اللامادي المتنوع الراسخ في الذاكرة الجماعية، يشكل محركا لدينامية اقتصادية وسياحية في المنطقة. يستقطب موسم مولاي عبد لله أمغار الملايين من الزوار وتكون المناسبة فرصة للاصطياف وهي فسحة ينطلق فيها الأطفال والشباب للاستمتاع بما يقدمه الموسم من أصناف الترفيه ومعارض الصناعة التقليدية والملابس وأكلات تقليدية والألعاب المختلفة التي يقبل عليها الصغار والكبار على حد سواء. رواج ينعش اقتصاد المنطقة بشكل مباشر.
البعد الثقافي
أنشطة مختلفة ترافق هذا الموسم السنوي. فالزوار بمختلف أعمارهم يتابعون ألعاب الفروسية والأنشطة الثقافية والعروض الفنية. وعلى غرار العديد من الأنشطة والاحتفاليات، يعرض المولعين بتربية الصقور انجازات طيورهم الجارحة وسط خيام موسم مولاي عبد الله أمغار، احتفاء بتربية صقور الصيد المعروفة “بالبيازة”.
تعد هذه الهواية من التقاليد المتوارثة بين قبائل دكالة. ويختص في هذا النوع من الرياضة أهل منطقة “القواسم” اسهاما منهم في الحفاظ علها. فالشرفاء القواسم يقدمون عروضا للصقور على إيقاعات الموسيقى التقليدية المغربية، والتي تحتل مكانة متميزة في هذه التظاهرة الثقافية من خلال برنامج غني ومتنوع في إطار مشاركتهم في موسم مولاي عبد الله أمغار. غالبية الصقور المتواجدة في موسم مولاي عبد الله امغار يتم صيدها في نواحي مدينة الصويرة وهي لم تتجاوز الستة أشهر من عمرها، حيث تتم تربيتها وتدريبها على صيد الطرائد، قبل أن تحرر عند تجاوزها أربع سنوات. هواية وثقافة تساهم بشكل كبير في المحافظة على الصقور التي كانت في وقت قريب مهددة بالانقراض.
أما عمرانيا، فقد كان لمدينة تيط أربعة أبواب متوسطة الحجم منها بابان تحيط بهما الأبراج وهما في حالة جيدة ومصنوعان صنعا متقنا، كانا يشكلان البابين الرئيسيين. وباب البحر وباب آسفي أو ما يسمى بباب الجديدة والباب القبلي، وإلى جانب الأبواب كان هناك سور عظيم يحيط بالمدينة ويحفظها من الهجمات البرية والبحرية وهو سور لا زال بعضه قائما لحد الآن، أما الأبراج فإنها تعرضت للتلاشي. كما يتابع الزوار المهتمين بالحكي الشعبي فرقا مسرحية تلقي عروضا بساحة المحرك الكبير في استرجاع لليالي الحكي والحلقة مع مجموعة من الرواد البارزين للحلقة والحكايات الشعبية.
خيول عربية وأمازيغية تنتظر وقت خروجها إلى ساحة التبوريدة بتسميات مختلفة تحيل إلى ألوانها فمنها “لشهب”، “لزرك”، “البركي” وهو الحصان ذو اللون البني، و”الكمري” ذو اللون الأبيض لكن لونه يتغير مع تقدمه في العمر ليتحول إلى اللون الأزرق مع بقع بيضاء تسمى عند الخيالة “حط ريال” و”الصنابي” الذي يعني الأصفر، ثم الحصان الأدهم أي الأسود.
البعد الديني
مشهود لرباط تيط بغزارة العلم والمعرفة نظرا للعلماء والرجال المتصوفين الزاهدين الذين تتلمذوا على يد الشيخ مولاي عبد الله أمغار. وللموسم طقوس وعادات دينية تؤطر للبعد الديني للمناسبة.
ينطلق الطقس الديني المتبع منذ سنوات طويلة بالموسم بتلقي الهبة الملكية ويمر عبر تقديم الذبيحة وصولا إلى توزيع الجوائز. وخلال هذه الفترة، تتوالى الأنشطة الدينية المنظمة على هامش الموسم من خلال دروس دينية مختلفة للرجال والنساء، مع تنظيم مسابقات قرآنية ومن خلال ليلة المديح والسماع التي يحييها مادحوا وأئمة بلدية مولاي عبد الله أمغار بالمنصة الرسمية للموسم.
عادات وتقاليد: دواك في مولاي عبد الله
على طول الطريق المؤدي إلى الضريح، توجد دكاكين يباع فيها من البخور والشموع والمجامير الطينية ما يلبي حاجات الزوار ويزيد، طلبا للتبرك وفك الضيق. كما يوجد بداخل ضريح مولاي عبد الله أمغار “محلفة” يؤدى فيها طقس أداء اليمين بحيث يفرض على المحكوم عليه بأداء اليمين، أن يجعل في يده اليمنى عكازا وفي يده اليسرى قدحا وعلى رأسه قبعة تسمى “كرازة” ثم يؤدي اليمين ثلاث مرات أمام عدد كبير من الناس. كما يوجد “المشور”، وهو مكان يقف فيه كل من أعجزته الحيلة في نيل حق مسلوب أو الاقتصاص من غريم أو عدو قاهر. أما على الشاطئ هناك في الهواء الطلق، يوجد “المحكن” وهو مكان للاستحمام خاص بالنساء. وظيفته في المعتقد، التخلص من النحس وجلب العرسان لمن لم تتزوج بعد وفيه حسب المعتقدات شفاء الأمراض المستعصية.
ملحمة الأجيال
سبعة أيام من الاحتفاليات والتبريكات تجمع ما بين الديني والثقافي والاجتماعي والاقتصادي. ملحمة عاشت الأجيال على ذكرها وإحيائها لتبقى صلة الرحم والتآخي والقيم النبيلة أهم روافدها. فتصبح إرثا لا ماديا وجب العمل على تخليده ليبقى شاهدا على حضارة غرست جذورها عميقا في التاريخ.