18, أكتوبر 2024

a24-حسن عين الحياة

إلى عهد قريب، كان الحديث عن الحب والتعبير عنه علانية في مجتمعاتنا العربية، وضمنها المغرب، مُسوَّرا بهالة من الصمت.. يُعاش الحب ولا يعبَّر عنه أمام الملأ.. يمارسه الكل، وفي الوقت نفسه، يلومون من ضُبِط متلبسا بلوعة غرام أو هزة عشق عنيفة، قبل أن يلحقه “عار الأبد”.. إنه الممنوع والمرغوب فيه.. يحرسه عسسٌ نصبوا أنفسهم باسم الدين والأعراف والتقاليد، أوصياء على الأخلاق، ويقتفي أثرهالمنتحلون لصفة حراسالقيم .. لقد كان الحب كقيمة وجدانية، في العصور القديمة، يُعبر عنه الشعراء فقط، فيردده العامة بنوع من الفخر والزهو.. أما خلال العقود الماضية، فكان الناس يشاهدون تفاصيله في الأفلام الرومانسية القادمة من أرض الكنانة، فيقلدون بعضها خِفية في مجتمع محافظ لا يرحم.. عدا ذلك، كان صعبا على المرء الإفصاح علانية عن مكنونه لمن يحب، عكس ما يجري الآن، حيث أصبح للحب عيد يحمل اسم “سان فلانتاين” يتنافس فيه العشاق على التعبير عن المشاعر بأرقى العبارات والوسائل، مستفيدين من هامش الحرية والانفتاح على الثقافات الأخرى.

“طابو الحب” من منظور القدامى

مع حلول يوم 14 فبراير من كل سنة، تتأهب عواطف العشاق في العالم للتحرر من عقالها، والتماهي مع سحر هذا اليوم الذي تواطأ العارفون ببواطن الشغف على جعله عيدا للحب.. إنه مناسبة مميزة عند زمرة العشاق والمحبين، ومحطة موسمية يتوحد فيها الحس الوجداني المشترك، وتصقل فيها القلوب، وتتجدد فيها اللواعج وتنصهر فيها العواطف والأفئدة.. لكن ليس كل الناس يحظون بهذا التفاعل الكيميائي الجميل داخل بواطن النفس. وليس كل رجل وامرأة وحدهما التلاقي أو جمعهما رباط الزوجية نالوا من معين الحب ما يكفي لإرواء مهجة الروح بشغف الروح.. بيد أن هناك قليلون، وهم مميزون طبعا، يعرفون أن الحب مثل الإيمان.. يزيد وينقص، لذلك تراهم يسارعون إلى استغلال اللحظات الجميلة للرفع من منسوب هذا الحب، باعتباره محركا أساسيا للوجود.. وهكذا، إن “عيد الحب” أو “سان فلانتاين” عندهم ليس سوى يوما من أيام الله، ما دام أن كل أيامهم مناسبات لتجديد الخوالج والسمو بها إلى أرقى مراتب الحب، حيث العشق والوله والهيام والصبابة..

فحين سُئل الإمام ابن حزم ذات مرة عن الحب، لم يكتف بالتعبير عنه بعبارة واحدة كما قد يعتقد البعض، ولم ينأ عن الخوض في هذه العاطفة التي شكلت ما يمكن وصفه بـ”الطابو” في المجتمعات الإسلامية القديمة والمعاصرة، وإنما ألف من أجله كتابا يعتبر مرجعا في الحب، بعنوان “طوق الحمامة”، قال فيه عبارة شهيرة ما يزال صداها يمتد من العصر الأندلسي إلى اليوم “الحب أوله هزل وآخره جد”.

أما الإمام ابن القيم الجوزية  فقال:”الحب غدير في صحراء ليس عليه جادة، فلهذا قل وارده”، ما يعني أن الحب مثل كنز دفن في أرض قاحلة، لا علامة ولا طريق تؤدي إليه، وحدهم الشغوفين بالتنقيب عنه من يهتدون إليه، وإن كان هذا الإمام قد وصف الحب بماء الغدير في الصحراء، حيث يصعب العثور عليه إلا بمشقة، خاصة حين تختلط صور السراب ببرك الماء على العطشى..

لكن يظل أجمل وصف للحب، وفق ما أجمع عليه كثير من علماء الاجتماع، هو ما جاء به ابن القيم أيضا، حيث قال عن هذا الشعور النادر، بأنه “امتزاج الروح بالروح لما بينهما من التناسب والتشاكل (التشابه)”.. وهو أيضا “تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة”، ليذهب بعيدا في توصيفه لعلاقة الحبيب بمحبوبته بالتجانس، حين قال “فإذا امتزج الماء بالماء امتنع تخليص بعضه من بعضه، وقد تبلغ المحبة بينهما حتى يتألم أحدهما بتألم الآخر”.

لقد ورد في التراث الذي حفلت به الحضارة العربية والإسلامية، عديد من تجارب الحب التي انفلتت من واقعيتها لترقي إلى الأسطورة، ولعل بعضها قاومت عوامل الزمن وتقلباته، قبل أن تحتل مساحة واسعة في التاريخ.. إذ يكفي القيام ببعض الحفريات البسيطة في تراثنا الشعري، لتنبعث من جديد ثنائيات “خالدة” في العشق، كـ “قيس وليلى، عنترة بن شداد وعبلة، كسير وعزة، جميل وبثينة..” وهلم جرا من “الكوبل” العربي القديم الذي أعطى للحب معنى آخر لتمازج النفوس وانصهارها في تربة واحدة..

اليوم، يرى بعض الدارسين، أن قيمة الحب تدنت إلى مستوى فضيع، ما جعل هذا الشعور النبيل يتآكل بفعل عوامل سوسيو ثقافية محضة، وأخرى غلب عليها الجانب النفعي والمصالح المشتركة، ليصبح الحب وسيلة لتحقيق المكاسب..

هنا تعزو عالمة الاجتماع الراحلة فاطمة المرنيسي تلاشي قيمة الحب عند المغاربة، وتحديدا الشباب، إلى عدم قدرته على التعبير عن خوالجه تجاه من يحب، حيث تحدثت عن الوضع الراهن للشباب المغربي وعن التحولات التي عرفتها منظومة القيم في المجتمع المغربي، وظهور ما يسمى بـ “جيل الانترنيت” الذي فقد متعة المشاطرة والحوار وجها لوجه، وفقد بناء على ذلك إمكانية قراءة ذاته في الآخر الذي يشكل المرآة..

مغاربة يحتفلون بعيد الحب

بعيدا عن هذه الحفريات، يجزم البعض، أن تحولات عميقة جرت في التربة المغربية.. وأن المغاربة استفادوا من عديد العوامل التي جعلتهم يتغنون بالحب كقيمة إنسانية، مُعددين في هذا الجانب، استفادتهم من الانفتاح على الثقافات الأخرىوالتماهي مع قيم الحداثة، وبداية تشكل وعي آخر يهتم بالإنسان، في كل ما يرتبط بجوهره وحريته. لذلك، أصبح “عيد الحب” عندهم طقسا موسميا، يستغلونه للتعبير عن مشاعرهم دون حرج أو خوف.

“نبيل.30 سنة” يرى في حديثه لـ”لمنعطف” أن الاحتفال بالحب هو احتفال بالإنسان أولا، والتفات إلى ما يميزه عن سائر المخلوقات، وهو مشاركة عواطفه مع من يحب، والإبداع في التعبير عن حبه بكل ما أوتي من فنون القول، أو من خلال الهدايا التي تترك أثرا عميقا في النفوس.. “هاذي تقريبا 6 سنين وأنا كنحتافل بعيد الحب مع زوجتي..”، يقول نبيل، ويضيف “دبا هاذي عامين، كناخدالكونجي ديالي في 12 فبراير، باش نسافر أن وزوجتي لفرنسا، كيعجبهاتحتافلبسان فلانتاين في 14 فبراير بباريس، وحنا بجوجكنفرحو مللي كنشوفو الناس تما فرحانين بهاذ اليوم”.

أما “زهرة. 28 سنة”، فعيد الحب بالنسبة لها مناسبة لتكسير الروتين والخروج عن المألوف.. حيث قالت “أنا الآن أعيش تجربة حب جديدة.. ولا أجد مشكلا في التعبير عن حبي بطريقة مختلفة للإنسان الذي أحبه”. وتضيف زهرة عن طريقة احتفالها بعيد الحب “مثلا خلال السان فلانتاين السابق، بعثت برسالة لمن أحب عبر الواتساب مباشرة بعد حلول الساعة  12 ليلا من يوم 14 فبراير 2022، وتلقيت بدوري رسالة منه في الوقت نفسه، كما باركت لكل العشاق عيدهم من خلال منشور قصير على صفحتي في الفايسبوك،  يقول )الحياة تافهة، والحب هو من يعطيها قيمة.. مبارك لكل العشاق بهذا اليوم(، كما التقيت بمن أحب وتوجهنا إلى شاطئ عين الذياب بالدارالبيضاء، وجددنا المشاعر في حضرة البحر”.

وبعيدا عن زهرة، ترى حليمة البالغة من العمر 62 سنة، في حديثها لـ”لمنعطف”، أن لا مانع من أن يعبر الناس عن مشاعرهم في عيد الحب، وإن كانت ترى أن الحب ينبغي التعبير عنه في سائر الأيام، وليس في يوم 14 فبراير فقط، قبل أن تؤكدعلى أن تخصيص يوم عالمي للحب، هو في حد ذاته انتصار لهذه العاطفة. وقالت حليمة،وهي بالمناسبة أرملة وأم لستة أبناء كلمهم متزوجون: “بكري كان صعيب على الجيل ديالنا يعيش الحب علانية، أو يلتقي بالإنسان للي كيبغيه، بحكم العادة والتقاليد للي كتخلي العائلات يشوفو الحب عار .. لكن كانت عندنا طرق خاصة باش كنعبرو على شعورنا.حنا مثلا ماكناشكنعرفوأشنو عيد الحب.. الحب كنشوفوه غير فالأفلام المصرية، وكنشوفوه خزنة.. أما الآن، ولا العكس، كلشيكيحب، ويعبر عليه بالطريقة للي تناسبو، سوا مباشرة أو فالتلفون.. وهاذ الشي زوين بزاف.. حيث كلما حب الإنسان كلما طهر قلبوا من الكراهية”.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version