روبورطاج: حسن عين الحياة
هل هي بداية انقراض هذا الفن الأصيل..؟
من منا لم تسحره ساحة جامع لفنا في مدينة مراكش؟ ومن منا لم يتوقف مشدوها إلى صناع الفرجة بهذه الساحة الأسطورية، من مروضي الثعابين والقردة… إلى المبدعين بالفطرة في تلك الدوائر البشرية، التي تتسع وتتقلص بالمتحلقين حول “الحلايقية”؟. هنا الحكواتي الذي يسافر بالمتفرجين إلى فضاءات عجائبية تتداخل فيها الأسطورة بعوالم ما وراء الطبيعة.. وغير بعيد عنه، الفكاهي الذي ينتزع الضحك من الناس، وهو يتهكم على الواقع، بكل ما أوتي من قوة في فن الارتجال.. وهناك، مجموعات غنائية تردد أغاني التراث الذي يبدو متجددا وهو ينطلق بصوت جماعي تتداخل فيه أصوات المؤدين بأصوات عشاق ” فن الحلقة”.. وبين هذا “الكَوْرْ (الحلقة)” وذاك، قد تجد حلقة “البوكسور” وحلقة “الساحر” وحلقة البهلواني وحلقة “ولاد احماد وموسى” وحلقة قارئ الطالع، وهلم جرا من تلاوين هذا الفن الذي يقف الآن عند حافة الانقراض.
وبعيدا عن ساحة جامع الفنا التي ما تزال تصارع وتقاوم من أجل استمرار “الحلقة” كواحدة من الفنون التي تنصهر داخل التراث المغربي الأصيل، يبدو أن هذا الفن يسير نحو الاندثار في باقي الساحات المغربية والأسواق الشعبية والأخرى الأسبوعية التي كانت موطنا لـ”فن الحلقة”، سواءً بفاس أو مكناس أو الدارالبيضاء أو آسفي وغيرها من المدن التي اشتهرت باحتضانها لـ”االحلاقي”. حتى أن عددا من “الحلاقية” الكبار، أمثال ولد قرَّد وخْلِيْفة والصاروخ ونعينيعة وآخرون مثل الراحل “لكريْمي”.. تنبئوا وهم يتحدثون إلى جمهورهم بأن هذا الفن الشعبي سينقرض مع مرور السنوات، أو كما قال أحدهم، سيصبح مجرد ذكرى محنطة في “كارط بوسطال” أو في الذاكرة الجماعية لمن عاصرو رواد هذا الفن الشعبي.
في هذه الورقة، تسلط “المنعطف” الضوء على “الحلقة” في بعض أحياء الدارالبيضاء خلال سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وكيف أدت وظيفة تثقيفية لأجيال من المغاربة، مركزة في الآن ذاته على بعض روادها ممن كان لهم الفضل في إغناء التراث الشفهي في المغرب.
“الحلقة” تأكل أبناءها
يتساءل كثيرون اليوم، خاصة المنتمين إلى جيل الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي، هل سيحظى الجيل الحالي والآخر القادم والذي سيليهما بشرف الاستمتاع بفن الحلقة؟ وهل ما تزال الساحات الشعبية والأسواق الأسبوعية بمقدورها أن تبسط ذراعيها لـ “الحلايْقي” حتى يُمتِع ويبدع أمام المتحلِّقين حوله، خاصة وأن أغلب هذه الساحات الشعبية التهمها الاسمنت، وأصبحت عبارة عن متاجر ووحدات سكنية ضيقت رقعة انتشار هذا الفن. ناهيك عن الأسواق الأسبوعية، التي لم يعد مرتادوها يتفاعلون بذاك الاهتمام مع “الحلايْقية”، خاصة بعد رحيل رواد “الحلقة” الكبار؟
لقد تأكد، بعد رحيل كبار “الحلايْقية وتقاعد بعضهم، أن هذه “الحلقة” تأكل أبناءها، وأنها أصبحت مع مرور الوقت “عاقرا” لعدم تمكنها من إنتاج الخلف الذي يضمن استمراريتها.. وهنا يتساءل كثيرون، هل بإمكان ما تبقى من”الحلايْقية” اليوم، ممن يجوبون الساحات الشعبية، إنتاج فن متكامل كما الرواد، يجمع بين الحكي والسرد والزجل والشعر والموسيقى والرقص والبَسط والهزل والغناء والألعاب السحرية والأخرى البهلوانية وهلم جرا من الفنون المنصهرة في فنون الحلقة…؟ وهل يمكن للزمن أن يعيد للساحات الشعبية عنفوانها، حتى نراها من جديد تعج بـ”الحلايْقية” لما لهم من أثر على توسيع المدارك وخلق فُرجات للترويح عن النفس وإغناء المخيال عند المتلقي؟
عندما كانت “الحلقة” فضاء تثقيفيا وترفيهيا قبل الاستئناس بالتلفزة والراديو والسينما
إلى عهد قريب، كانت أغلب الساحات الشعبية في مدن المملكة، تزخر بـ “الحلاقي” كمكون أساسي للفرجة.. لم تكن آنذاك قنوات فضائية ولا أجهزة فيديو تجمع الناس حولها للتفرج على الأفلام والبرامج الوثائقية التي تسافر بالإنسان إلى عوالم المستقبل، أو تعود به إلى العهود الغابرة الضاربة في أعماق التاريخ. وحتى عندما ظهرت التلفزة (بلونوار)، كانت حكرا فقط على علية القوم وبعض المحظوظين، وإنْ كانت البرامج المعروضة فيها “بدائية”، لا تشبع نهم المجتمع التوَّاق آنذاك إلى كل وسائل التثقيف والترفيه.. لكن رغم غياب هذه الأجهزة، وتوغل الأمية في المجتمع المغربي، كان كثير من الناس يحفظون بعض القصائد الشعرية لفطاحنة شعراء الجاهلية، ويعرفون حياة عنترة بن شداد وتفاصيلها وجزئياتها الدقيقة، إضافة إلى قصص الصحابة وبطولاتهم مع النبي محمد عليه الصلاة والسلام، كعمر بن الخطاب وأبو بكر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وحروبهم مع الروم والفُرس.. أضف إلى ذلك اضطلاعهم الواسع على التراث العربي من خلال حكايات حمزة البهلوان وأساطير ألف ليلة وليلة والعنتريات ومقالب ونوادر العرب القدامي.. هذه الثقافة المتنوعة لم يدرسوها في مدارس أو جامعات، ولا قرؤوها في الكتب أو استمعوا إليها من خلال أشرطة “الكاسيط” أو شاهدوها في التلفزة… فقط، تلقوها بالتدريج من عمق “الحلاقي” في الفضاءات الشعبية وبعض الساحات والأسواق الأسبوعية التي كانت تستقطب كبار “الحلايقية” في المغرب.
الأحياء الشعبية في الدارالبيضاء التي كانت تعج بـ”الحلاقي”
في مدينة الدار البيضاء مثلا، اشتهرت بعض الأحياء بازدهار فن الحلقة، كالحي المحمدي ودرب كبير ودرب غلف وابن امسيك وسيدي عثمان.. لكن أكثر الفضاءات التي كانت تعرف استقطابا للناس للاستمتاع بـ”فن الحلقة” حسب أحد الحلايقية الذين جالسناهم، هي الفضاءات التي كانت مجاورة لقسارية الحي المحمدي وسوق اشطيبة بسيدي عثمان، وقسارية سباتة وسوق القريعة قرب حي الإدريسية. وهي فضاءات كانت قريبة جدا من التجمعات الصفيحية كـ”كريان سنطرال وكاريان خليفة وكاريان بن امسيك”، التي كانت قبل ترحيلها إلى فضاءات إسمنتية، عبارة عن تجمعات سكنية كثيفة، بسبب هجرة أغلب سكانها من البوادي إلى المدن. ذلك أن أغلبهم كانوا في غياب وسائل الترفيه أو صعوبة الولوج إليها، يحجون إلى حيث تتواجد الحلاقي التي كان روادها يتحدثون بخطاب بدوي سلسٍ، ويقدمون مواد فرجوية تجمع بين الحكي والغناء والرقص والسخرية اللاذعة والزجل والألعاب السحرية و”فن الطب الشعبي” وهلم جرا من الفنون التي كانت تلهب أذواقهم، حيث كانوا يجدونها بديلا للبرامج التي تُقَدَّم في التلفزة والإذاعة والسينما، التي يصعب الولوج إليها آنذاك.
ومن ضمن هذه الأسواق التي عرفت انتعاشا لـ”فن الحلقة”، هناك سوق “شطيبة” بسيدي عثمان في الدارالبيضاء، الذي كان يعج بأكثر من 20 حلقة، تتنوع بين الحكواتي المميز بسرد قصص الأنبياء والصحابة والعنتريات، والساحر العجيب والثنائيات المعتمدة على البندير ولوتار وغيرهم كثير…
سوق “شطيبة” ورواده من “الحلايقية” الكبار
من أبرز وراد هذا الفن الذين نسجوا ألفة مع الجمهور، “العربي البوكسور” الذي ينظم مباريات للملاكمة، والساحر العجيب الذي يستخرج من صندوقه الصغير الفراغ ما لذ وطاب، من “المشوي” إلى قارورة الصودا المميزة وقتها (مونادا جيدور) وبعض الفواكه كالموز والتفاح.. ثم الحلايقي الفكاهي “حمد الطويل” الذي كان كوميديا بارعا وقتها، و”كوميرة في دغمة” وغيرهم كثير.
كما كان “خْلْيْفَة” وهو أحد أكبر الحلايْقية في المغرب، يتردد أحيانا على سوق شطيبة، وقد كان فنانا بارعا في الحكي وساخرا من طراز رفيع. حتى إننا عندما سألنا بعض سكان بن امسيك وسيدي عثمان من أجيال الستينيات والسبعينات والثمانينيات وحتى التسعينيات عن “الحلايقية” الذين شدوا انتباههم وقتها، لم يترددوا في ذكر إسم “خْلْيْفَة”، و”ولد قربال” الذي أبدع قصائد زجلية غاية في الروعة، ناهيك عن عازفي لوثار، ممن يبيعون أشرطة (كاسيط) تضم إبداعاتهم الخاصة، هؤلاء للأسف انقرضوا دون أن يتركوا خلفا من شأنهم مواصلة مسيرة الروَّاد، لتظل إبداعاتهم محنطة في الذاكرة الشعبية فقط.. إلى جانب هؤلاء، كان “خلوق”، بآلة لوتار يطرب الجماهير، وحده مكبر الصوت (البوق)، يهيمن على باقي الحلاقي المجاورة.. نقرات لوتار مميزة عند هذا الحلايقي، إلى جانب “ضرب” مساعديه عل “البندير”، حيث كان ينشد قصائد عبارة عن قصص حول الدنيا والآخرة، والمرضي والمسخوط، من قبيل “بسم الله بها نبدا.. في هاذ لقصيدة فائدة.. نحكيها ليوم غدا، سوى للناس المرضية.. المرضي يْبدا يتعَّقل.. من بداه الشهر اللَّول.. ميمتو سارا توَلول ربي يحفظو ليا..”، وبعد إتمام القصيدة “الوثرية”، يخبر الناس أن بإمكانهم الإنصات لها حتى في منازلهم، من خلال اقتناء شريط من تسجيله، بثمن 10 دراهم، بعد ذلك ينتقل إلى إنشاد بعض القصائد ساخرة الحُبلى بالتهكم.
من جانب آخر، كان هؤلاء الحلايقية، خاصة من يتوفر على وسيلة نقل (سيارة)، يطوف على كثير من الساحات في الدار البيضاء، ومنهم من يسافر إلى الأسواق الأسبوعية، حيث تجدهم بسبت تيط مليل، وخميس مديونة، والاثنين الغريبة وأحد ولاد فرج وأربعاء العاونات وثلاثاء سيدي بنور وجمعة اسحايم وأسواق أخرى..