استضاف المركز الثقافي الفرنسي بالقنيطرة، يوم أمس الثلاثاء (17 يناير2017) احتفالية تشكيلية جد متميزة، بمناسبة مرور خمس وأربعين سنة على ميلاد التجربة الإبداعية للفنان الحروفي محمد البوكيلي، بحضور وازن لنخبة من الفنانين والكتاب والنقاد المغاربة والأجانب، الذين جاؤوا للاطلاع على نماذج من الأعمال الفنية التي تلخص حوالي نصف قرن من الاجتهاد الإبداعي، لرائد كبير من رواد الحركة التشكيلية المغربية الحديثة.
وإن القراءة التحليلية لأعمال الفنان محمد البوكيلي في هذا المعرض تقودنا حتما إلى بنية ثقافية ذات دلالات جمالية مجردة. وهي بنية وثيقة الصلة بالفن التشكيلي كفعالية فنية حضارية إسلامية عربية.
إن تطابق العناصر الفنية النماذج المعروضة من خلال نزعتها الانتقائية “للقضايا” والموضوعات المعروضة تعطي الانطباع أن الفنان البوكيلي يسعى إلى طرح مسالة الحداثة بشكل مغاير، ومن خلال “دستور” ذلك الواقع.
إن الحداثة هنا لا تلغي الأصالة، وكل إبداع يلعب دوره الطبيعي في التطور العقلي للمتلقي، وفي إغناء عالمه الجمالي، على أساس من تراث الماضي، هو حداثة، بل تراث مستقبلي، ذلك لأن الأفكار وتصورات المشاعر والآراء، وكذلك نمط التفكير والنظرة الصحيحة إلى العالم والإنسان هي أركان الحداثة التي تقوم عليها تجربة هذا الفنان ومسيرته الإبداعية التي تمتد إلى حوالي نصف قرن من الزمن.
إن أهمية لوحاته الحروفية في الموقف الحداثي، ليست مرحلية، أو مؤقتة، بل تمتد إلى عمق التراث الماضي والى عمق التراث الحاضر، ترتبط بعصرها القديم وبعصرها الحديث بأكثر من صلة.
السؤال الذي تطرحه “حداثة” لوحات هذا الفنان الحروفية هو : هل تتوازى اللوحة التشكيلية الأخرى…؟…وكيف؟.
نعتقد أن فهم مشكلات فن من الفنون غالبا ما تغنينا عن تجنب سوء الفهم، وسوء التقييم، ذلك لأن الفهم السليم لمكان الإشارة أو الفكر في الشعر كما في التشكيل والموسيقى. هو ما يوضح للمتلقي النبيه والمدرك، مكان تمثل الأشياء في التصوير، كما أن النظرة الساذجة للمسألة الأولى وهو ما قد يؤدي إلى الأخطاء الجسيمة.
على نفس المنوال نقول : إن نظرة البعض لتعامل الفنان البوكيلي مع “الحداثة” الفنية بالقرآن،”موضوعا” و”تشكيلا”،و”إبداعا” قد تحيل لوحات معرض سورة “الرحمن” الذي يعتبر مدخلا هاما لتجربته الرائدة، إلى مجرد تذوق حسي للآيات المرسومة على إيقاعات المفسرين، وإنها قد تكون في نظرهم، عودة متطرفة إلى الماضي، / ضد الحداثة على أن أول شرط في تحليل هذه الظاهرة هو وضع الأشياء في مكانها. إن الأمر يتعلق بفن بصري حداثي حتى النخاع، لقد أجاد الفنان البوكيلي استخدام لغته وأدواته وتوظيفها في إشاعة الآثار الانفعالية للكلمات والمعاني والدلالات، وفي استقطاب العين المتلقية، وهو ما أعطى للخطاب الروحاني سيطرته على الفضاء وعلى المتلقي في نفس الآن.
إن اللونين الأبيض والأسود في معرضه هو “الليل والنهار” كانا العلة والعامل المسيطر على الاستجابة الانفعالية في أعمال هذا المعرض، وذلك يعني أن اللوحة الحروفية عند هذا الفنان، ليست بالضرورة تركيبا جماليا ثابتا، وإنما تتضمن عناصر حركية على أنحاء مختلفة لا تقل عما توحي به الكلمات المتعانقة مع الأشكال الهندسية البصرية على أرضيتها.
إن ملامسة تجربة الفنان محمد البوكيلي الحروفية من داخلها، يجعل إدراك التاريخ لن يتم إلا في أعماقه السحيقة فتلك التجربة ليست سوى حلم متواصل بين صدى التوهج والذبول.
كيف للفنان أن يمتلك هويته ؟
كيف له أن يلم شتات الذات الموروثة عن عصور وعصور وظواهر و ظواهر ؟ كيف يصل إلى بدء عصره وحضارته ؟.
ألا يبدو الفنان التشكيلي، وهو يستقرئ الحرف، أنه يعيد كل اللغات المقدسة إلى جذورها وانه يمت بألف صلة إلى الماضي / الحاضر / الماضي / المستقبل ؟.
إن الارتباكات والتوترات والقلق والسوداوية والتشاؤم، التي تمر في حياة المبدع، ليست اكتظاظا مجانيا، وليست تناسقا منتظما، ولكنها “الوعاء” / “الاقتدار”، الذي يمنح الأشياء فرصة التمدد والمغامرة والنجاح، هي وجدان المبدع المتفتح باستمرار على البحث / التغيير / والإبداع.
الفنان البوكيلي من خلال رحلة العمل الفني التي احتفل بها المركز الثقافي الفرنسي بالقنيطرة، كان وما يزال ينهكه شيء غامض، يبحث عنه، هل هو “الهوية” / التجذر في الزمن / المعاصرة / التحديث ؟ يدرك ما يقف خلف فنه من رؤى وتمايزات، يرتد إلى الجمال، إلى التاريخ، إلى اللحظة التي انحسر فيها الطوفان، ويكتشف أن الحياة كالفن، آتية من مكان بعيد، مكتظة بالصفات والملامح، ولكن شمسا قديمة تلعب في الوجدان، ولهيبها يتجدد مع كل دقة قلب، وكأنها ما تزال لم تبدأ بعد.