صباح الأنباري
في لوحة تبدو لي مكملة لفكرة اللوحة السابقة تضمنت على وجود الاثنين معاً(الصاعد والهابط) وهما في حالة تضاد يبحثان في شأن الحركة التي أدت الى العبث مع وجود ثالث ينتظر ما يسفر عن نقاشهما، وهو جالس على الدرجة الأولى ناظراً بانكسار الى أعماق الهاوية وقد تداخلت في نفسه الحيرة العميقة.
لم يضف عليها الشيخ من عندياته كلاماً محدداً لأنها كشفت عن نفسها بنفسها وأنها زعمت أن المتلقي امتلك خلفية معرفية مكتسبة مما قبلهاأهلته لعملية فك الرموز وتحليلها.
في لوحة البسالة تركز الحركة على محاولة سحب شهيد سقط بالقتل أو الاغتيال ويحاول رفيقه إخلاء جثته من المكان(الميدان) مع وجود خيط من الدم ممتد خلف جسد القتيل قد يبدو للرائي ثمة أكثر من جثة واحدة لأن الشيخ رسمها بطريقة خادعة للعين الرائية تداخلت فيها الجثتان مع جسد المنقذ الذي أنهكته عملية الإنقاذ (السحب) أو الحمل بأكثر من طاقة الجسد على الحمل الثقيل، وهذا واضح على انفعال المنقذ الظاهر على وجهه وحركة رأسه المندفع الى الأعلى قليلا كدلالة على التحدي وتلك هي البسالة كما يفهمها الجميع، ويجسدها الشيخ على سطح لوحته بعمق.
الحركة بمجملها بدت درامية بما يتلاءم وحجم وفكرتها، ولها تأثير سرى من داخلها الى خارجها الى المتلقي الذي صار في حالة تواصل تفاعلي لا إرادي عزف الشيخ على وتر ربطه بين طرفي معادلة التلقي.
في فضاء اللوحة ثمة من يقف بأوضاع مختلفة والى جانبهم ثمة شمس مغطاة بضوء الشهادة.
في هذه الحركة برع الشيخ في إخراجها دراميا فهي في الحقيقة أشبه بلقطة سينمائية أو هي تعبير درامي من تعابير المسرح الحركي الصامت ومقترحا لحل بصرييتوخى الدقة.
الشيخ أحيانا تحركه قراءةُقصيدة مايتأثر بها وبصورها الشعرية فتتحول عنده الى صورة ذهنية سرعان تعمل فرشاتُه على تحويلها الى صورة تشكيلية (بوستر) (*)وخير دليل على هذا تأثره ببيت شعري من وضع الشاعر الراحل شريف الربيعي يقول فيه:
لأنه استطاع أن يضحك عبر الموت
أرعب ذل الصوت
لاحظ حركة الجسم ودراميتها في هذا البوستر، وطريقة مشية الرجل وهو يرتقي بجسمه متسامياً الى الأعلى على الرغم من الثقوب الكثيرة التي انتشرت على مساحة جسمه من قمة الراس الى أخمص القدم.
ولا حظ أيضا كيف يركز الشيخ على خروجه من دائرة الأسلاك الشائكة الملتفة مثل وجه فلسطيني معتمرا الشماغ الفلسطيني، وربما بسبب هذا اختارته منظمة التحرير الفلسطينية ليكون ضمن شعاراتها المعبرة عن فكرة المقاومة المستمرة للمغتصب المحتل، وأعادت طبعه ونشره عدة مرات.
ومن ضمن اهتمامه بالحركة المعبرة تلك اللوحة التي التقط محمولها من الطبيعة وفيها يقف الإنسان ابن الطبيعة مقابل الطير- وهو من محمولاتها أيضاً- وكلاهما محني رأسه باتجاه الآخر احتراما وتقديسا لطبيعتهما وفي اعلى اللوحة ثمة دابة تسعى والكل على مساحة يعلوها الموت كمصير ثابت لكل الكائنات الحيّة التي عليها أن تدرك أن الحياة مهما طال بها الزمن فإنها آيلة للزوال وعليه ينبغي على كائناتها أن تعرف كيف لها أن تعيش بسلام ومودة دائمين.
ومن الحركات التي أتقنها تلك التي تتعلق بالأساطير وهيحركات اكتسبت خصوصيتها من جوها الخيالي العام ومن الميثولوجيا ومن خزين التصور الخيالي الذي اختص به البشر دون غيرهم من الكائنات الأرضية.
وفي هذه الحركات يتابع الشيخ- أسطوريا – الكائنَ البشري منذ بدء الخليقة فيصوره بهيئة شبيهة بهيئة حيوان بدائي داخل حاوية هي أقرب الى الرحم البشري من أي شيء آخر وعلى الرغم من هيئته البدائية فانه يحمل في إحدى يديه غصنَ زيتون كعلامة إشارية الى تأصل رغبته في السلام والوئام، ويطرق باليد الأخرى على جدار الرحم إيذانا بالخروج الى الفسحة البيضاء النقية من الطبيعة التي ستلوث فيما بعد من قبل الكائن نفسه(تحول لون الغصن الأبيض الى أسود) حال بلوغه الخارج (خارج الرحم)وحال تحوله الى إنسان ينشد السلام والدمار في آن واحد.
في اللوحة ثمة رموز أخرى تشير الى سكنه البدائي وسط مساحة الطبيعة الشاسعة.
ووجود فتاة هي رمز الحياة الأولى وكان الشيخ قد جعل موجودات اللوحة على شكل موتيفات (motif)فنية مكبراً بعض أجزائها،ولكنها مع ذلك لا تفقد صلتها رمزيا مع تلك الموتيفات. فضاء اللوحة بشكل عام إذن يحمل دلالات أسطورية واضحة.
في لوحة أخرى تناول الشيخ صورة امرأة تنظر في المرآة فترى صورتها المنعكسة مطابقة لها إلا أنها بهيئة ذكورية. المرأة تواجه نقيضها وهي تتدرع بصدر أنثوي مغتلم نحو فحولة الذكر، وعلى جوار منتصفها ثمة مريعات صغيرة مرصوفة أفقيا (رمز الأنوثة) هي نفسها موجودة جوار منتصف الرجل، ولكنها تحولت الى شكل معيني (Rhombus) كإشارة لرمز الذكورة السومرية.
خلف المرأة ثمة ما يشير الى السكن البدائي القديم هي دعوة للذكر كي يسكن إليها ويستقر في مقرها. هيئة الكائنين تشبه الى حد كبير هيئة الثور المجنح الآشوري (شيدو لاموسو) الذي عثر عليه في مدينة الموصل.
وتتوالى اللوحات الأسطورية كاشفة عما يروم الشيخُ الوصولَ إليه والتعبير عن مفهومه أو مجموعة مفاهيمه للطبيعة والحياة وما يحف بهما من الأهوال والمخاطر.
البقعة التي عاش عليها وتربى فيها هي الأخرى بدت له جزءا من الطبيعة وخرافتها فعمل في لوحاته على أسطرتها بروحية الفنان الذي يرى ما لا يرى. تلك البيئة الأولى، والملاذ الأول، والينبوع الذي ورد منه الشيخ عذوبة الحياة، ودفقها، ودفئها، وعذريتها، هي المكان الأول الذي ترعرع فيه واكتملت على جنباته رؤيته الفنية الخالصة، وهي هناك كما يشير في إحدى لقاءاته: (هناك تأسست مفاهيمي، وأبعاد لوحاتي.
من عناصر الطبيعة تشكّلت خامة ألواني ولغتي)وهناك كانت الرؤيا.رؤية الشيخ الذي شغلت النقاد والمتابعين والدارسين بما قدمته من وضوح فكري وجمال فني ورقي في الأساليب المختلفة.
مما تقدم يمكننا القول إن الفنان يحيى الشيخ قد جمع في شخصه أكثر من شخصية تجلّت إحداهما في كونه رساماً مبدعاً، وتجلّت الثانية في كونه أديباً خلاقاً، وربما سنكتشف له شخصيات أخرى غير هذه وتلك. فهو متعدد في كل شيء، في أساليبه الفنية المختلفة،وفي رؤيته وابتكاراته، وهو القائل عن نفسه:(لا تكفيني شخصية واحدة! لا تكفيني حياة واحدة! لا يشبعني أسلوب واحد! ربما لا يكفيني موت واحد.) وهذا موضوع آخر يحتاج الى اجتراح أفكار كثيرة أخرى لا مجال لطرحها على عجالة، وأروم الى تناولها مستقبلاً لأعوّض عما فاتني ذكره في هذه المقال المقتضب عن فنان وأديب تعلّم (كيف يسري الإحساس في أخاديد المعدن) وسمع(صوت الخطوط) وشغل ولا يزال مساحة كبيرة في عالم الفن والأدب.
(*) بوستر خاص بمهرجان الواسطي عام 1972 طبعته ووزعته عدة منظمات محلية وعربية.