حسن عين الحياة
بسوق “شطيبة” الذي يحتل مساحة واسعة بحي مبروكة بسيدي عثمان في الدارالبيضاء، كان هناك فضاء مُترب شاسع، أصبح الآن عبارة عن حديقة خضراء.. هذا الفضاء الذي انتعشت فيه “الحلقة” كفن شعبي، ظل إلى أواخر التسعينيات من القرن الماضي احتفاليا بامتياز، وباذخا من حيث تناسل الثقافات الشعبية والروافد المغذية للتراث الشفهي، لكنه الآن، أصبح “يتيما” يعيش على ذكرى “الحلايقية” الكبار، ممن ألهبوا ألباب الناس بالقصص والأساطير والتفكه بسخرية لاذعة من الواقع المعيشي آنذاك.
بعد صلاة العصر، كان الحلايقية يتسابقون على احتلال الأمكنة المناسبة لتقديم الفرجة، كل يجتهد بطريقته الخاصة في جمع الناس من حوله، قبل أن يصبح كل واحد منهم يتجه لمكانه دون مزاحمته للآخر، وإن كانوا لم يتفقوا على ذلك، وحدها التلقائية عنصرا مكملا للاحتفالية، ما دام أن لكل واحد من هؤلاء الحلايقية جمهوره الخاص، ومن أبرزهم: الساحر علي.
على مقربة من مدخل سوق شطيبة، وتحديدا قرب مكان بائع الكتب القديمة حاليا، كان هناك “حلايقي”شهير يدعي “الساحر علي”، وهناك من يناديه بأسماء أخرى، يدير حلقته باحترافية كبرى.. كان بارعا في ألعاب الخفة.. يأخذ كوبا ماء، ويتحدى الناس أن يحوله إلى مشروب من القهوة.. وبحركة واحدة، يتحول السائل الشفاف إلى آخر أسود، قبل أن يشرع في مزج بعض الدوائر المعدنية بحركة رشيقة جدا، ويفكها كما يشاء. وبعد أن يطلب المال من الحاضرين، لا يغادر الناس حلقته، بل ينتظرون عرضه الخاص بشغف، وكنت واحدا منهم.
كان هذا “الساحر” يختار رجلا أو شابا من وسط الناس، ويمنحه “علبته السحرية” حتى يتفحص ما بداخلها، ويقول له بصوت جهوري: “واش هاذ الصندوق فيهشي حاجة…؟” فيجيب الشخص المختار “لا ما فيه والو..”. ثم يأخذ الساحر العلبة ويطوف بها حول الناس: “ياك هاذي خاوية..؟ أنا غادي نعمرها بالعجب”، يتوجه إلى من اختاره من بين الناس، ثم يسأله هل هو جوعان، وحين يجيبه بأنه كذلك، يسأله: “طلب آش باغي تاكل؟” فيجيب الشخص “بغيت المشوي باقي سخون”.. يأخذ الساحر العلبة، يقرأ عليها بعضامما يحفظه (كيعزَّم عليها)، ثم يخرج من جيبه “حْجاب” ويضرب به على زوايا العلبة ويقول كما لو أنه يخاطب كائنا ما في السماء “هذا بغا المشوي.. فيه الجوع.. وبغاه سخون.. سمع مزيان راه بغاه سخون”، يقطع حديثه ثم يتوجه إلى الشخص “إيوا المشوي كيبغيالدسير.. ختار آش بغيتي، التفاح ولا البنان ولا الليمون..”، يختار الشخص الفاكهة التي يريد، ثم يواصل الساحر حديثه مشخصا ببصره إلى السماء “هذا بغا المشوي سخون وبغا البنان، وما فيها باس تعطيه المونادا..”.
يأخذ الساحر الصندوق ويعيد ضرب زواياه بـ”الحجاب” ثم يقطع ثانية حبل الفرجة، محددا مبلغا من الناس لإكمال عرضه.. يطوف حولهم وهو يلتقط الدريهمات، يُعدهم عدًا، ويخبرهم بأن المبلغ لم يكتمل بعد، ثم يطوف مرة أخرى.. وبعد أن يجمع المال المطلوب، يُذَكِّر الشخص أمامه بما طلبه، ثم ينفث على الصندوق ويطلب منه تفحصه مرة أخرى.. يأخذ الشخص الصندوق الصغير ويفتحه برفق قبل أن تظهر على ملامحه علامات التعجب والاستغراب، آنذاك يأخذ الساحر العلبة، ويخرج منها “لحما مشويا” وموزة وقارورة مونادا سيم أورانج (صودا انقرضت من السوق)، وسط تصفيق الجمهور، لكن ما إن ينهي الفرجة، حتى يخبر الناس أن السر في جلبه لهذه الأكلة المتكاملة يكمن في “الحجاب”، وأن معه مائة منه، أعدها 100 طالب وفقيه، حيث يقول: “هاذ لحجاب، كيجيب السعد ويبطل لعكس، ويزيل الثقاف ويقرب البعيد ويفرج كربة المهموم.. الثمن ديالو إلا 5 دراهم”.. وما إن ينهي كلامه حتى تمتدأيادي بعض “السدج” من وسط الحلقة لشراء هذا “الحجاب”، غير مبالين بأن هذه التميمة مجرد ورقة لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن جلبه للمشوي والموز والمونادا، عملية مرتبطة بطبيعة الصندوقوبالخفة لا أقل ولا أكثر، وأن الشخص المختار من ضمن المتحلقين، ليس سوى واحد ممن يشتغلون معه، يطلب أشياءً معدة سلفا للعرض.