نجـيب طــلال
رحلتنا مـع يوميات مجنون. للكاتب الروسي” نيقولا غوغول” فهي من الأعمال التي قرأتُها في شبابي، وكنت شغوفا بها. ولم تُسدَل عليها إلى حدّ الآن ستائرُ النسيان، لا أدري لماذا؟ هل لأن الجنون فنون، والفنون جنون؟ أم لقيمتها الإبداعية والفنية ، أم نوع من التماهي والتعاطف مع المهمشين والمهلوسين ، المصدومين بقساوة الواقع وبؤسه ؟ كمجنون – غوغل- المسمى [بوبريشتشين] الذي لم يكن مجنونًا بالمعنى الدقيق . بل كان شخصًا عاديًا كأغلبية المسحوقين وبالتالي هو نموذج و حالة انعكاسية لمعاناة الفقراء والمحرومين الذين لا يعيرهم المجتمع أي انتباه، لأسباب تكمن إما في الفئوية والطبقية أو النرجسية والتهميش الدنيء لبعض البشر، أو تراتبية الإطار الوظيفي ؟ كبطل القصة ذو وظيفة تافهة ومحتقرة في الدرجة السفلى في دائرة حكومية بمدينة “بطرسبورغ” لا يفعل فيها غير أن يبري ريشة الكتابة للمدير، الذي لم يسبق له أن رأى مكتبه يومًا من الداخل ! ( العمل تافه في هذه الدائرة. إذا قيس بالعمل في الادارة العامة، او في وزارة العدل) يتقاضى من عمله أجرًا ضئيلًا لا يكفيه لشراء، قميصا يستر به مظهره البئيس والمحرج .بحيث تبدأ يومياته في (3 من أكتوبر) بأن يفيق من نومه صباحاً، كما يخبرنا بكل بساطة، لكنه يجد نفسه غير راغب بل حتى عاجز عن مغادرة سريره للتوجه إلى عمله، حيث يتوقع مواجهة رئيسه المستبد دائماً والغاضب عليه دائماً (..وتؤدي أعمالك بأسلوب رديء، فتعقد السهل، وتعسر اليسير، حتى يعيا الشيطان الرجيم نفسه عن إرجاع الأمور إلى نصابها) في ذلك الصباح سينتهي به الأمر للنهوض والتوجه إلى مكتب المحاسب ليطلب منه سلفة على مرتبه. لكن في اليوم الموالي(4-أكتوبر) تنقلب حياته حينما يرى – صوفيا- ابنة المدير العام التي زارت المكان مصادفة. فأحبها بسرعة ووقع في غرامها عن غير قصد منه ، فأراد أن يطلب يدها من مديره العام (ولكن هيهات، فمن هو لترضى بمثله تلك الفاتنة) فواقعه البائس، ووضعيته الإجتماعية !فرضت عليه أن يعيش عزلة داخلية خانقة، ويصاب ب “شيزوفرنيا” ويهيم في عوالم الخيال، مهلوسا وناسجا أحلامه التي تعوض حرمانه ؟ فبدأت يومياته تخلط التواريخ والأحداث والأمكنة، تارة اتجه للمسرح لمشاهدة تمثيلية أبله الروسي “فيلانكا”. هاهو اتجه إلى منزل المدير يسأل- ماجي- الخادمة عن – صوفيا- ويتوجه الى المكتب- هناك بدأ يسمع كلام الكلاب( وكنت متيقنا من أن الكلاب قادرة على الكلام مع أنها اختارت الصمت عن دهاء) وأن الصين هي نفسها الهند لكن الناس لجهلهم يعتقدون أنهما دولتان، والعجيب والروعة في يومياته : أن [بوبريشتشين] يظن بأنه ملك إسبانيا (شاهدت القيصر يمر بأبهة.. نزع الناس قبعاتهم فاقتيدت بهم. لم أقل لأحد أني ملك إسبانيا، فهذا يحط من مقامي..) حتى في المرستان حينما ضربوه وجلدوه بالسوط كان يعتبرها أحد الطقوس الإسبانية لحفل تسليم العَـرش للملك. ثم بدأ في تحريض الناس على الاستعداد للحرب من أجل تحرير القمر.(.. ولهذا السبب بالذات لا نستطيع أن نرى أنوفنا، لأنها كلها توجد في القمر، عندما تخيلت الأرض كانت مادة ثقيلة، وأنها بعد أن تهبط على القمر، يمكن أن تسحق أنوفنا كالدقيق.) وتارة حكيما بليغا (غدا انتقل بك إلى إدغار الن بو في ثلاث قصص. الكاتب مجنون ، والإنسان مجنون، والروح مجنون- الدنيا كلها ، بسمائها وبحرها، وأرضها… مجنونة ! ) فيوميات مجنون، رحلة شيقة جدا، تجمع بين الواقعية والسخرية القاتمة والنظرة الكوميدية الغريبة يمكن أن نربطها بأدب اللامعقول، قبل ظهوره وتأطير فلسفته …..