تفاجأ الرأي العام الوطني وخاصة القضائي منه، بخبر مطالبة فرق الأغلبية بمجلس النواب بضرورة بقاء النيابة العامة تحت وصاية وزير العدل.
و الغريب في الأمر أن القرار علل بكون ذلك يمنح السلطة التشريعية حق الرقابة على رئيس النيابة العامة بالبرلمان، و هو نفس الرأي الذي يؤسس للخوف مما سمي بدولة القضاة.
ايحاءات خطيرة تستوجب وقفة تأمل و تحليل عميق, اذ يبقى الهدف هو تعزيز ثقة المواطن في القضاء لا زرع الخوف فيه من تطبيق القانون وحماية الحريات والمساواة أمام العدالة.
مطالب نادي قضاة المغرب وباقي الهيئات الحقوقية باستقلال النيابة العامة عن وزير العدل لم يكن بالمطلب الحديث بل هو مطلب رفعته مختلف القوى الحية في البلاد مند عقود، وتم تبنيه من طرف هيأة الانصاف والمصالحة، وهو مطالب على درجة كبيرة من الأهمية، فعمل قضاة النيابة العامة هو الدفاع عن الحق العام والحفاظ على أمنه. و إن كان للأسف قد تم اثقال كاهل هذا الجهاز بالمهام الإدارية و تم بشتى الطرق تبخيس عمله و دوره , إلا أن اختصاصاته القضائية تبقى جد حساسة تمس بحريات وحقوق المواطنين. فكيف يعقل اذن أن يكون جهاز قضائي بهذه الأهمية تابعا لجهة غير قضائية, فوزير العدل ليس خريج المعهد العالي للقضاء و لم يسبق له أن خضع لأي تكوين في عمل النيابة العامة, و لم يسبق له حتى أن مارسه و لو بتسطير متابعة في قضية بسيطة داخل نفوذ محلي محدود، فبالأحرى منحه صلاحية ممارسة هذه السلطة على الصعيد الوطني بأكمله. وكيف يعقل لرجل سياسة يفترض فيه تحقيق أهداف وطموحات حزبه الذي يؤمن بمبادئه أن يلتزم الحياد في تطبيق القانون، مع أن بقاءه على كرسي الوزارة رهين بمدى تحقيقه لأهداف حزبه. و هو ما يتعارض مع التطبيق السليم للقانون, و إلا فما عليه إلا التجرد من مهامه السياسية.
استقلال القضاء عامة و استقلال النيابة العامة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينتج عنه تغول القضاة أو عدم خضوعهم لأي محاسبة .
و قد تناسى رجال السلطة التشريعية أن دورهم في التشريع وإخراج النصوص القانونية الى الوجود وإمكانية تعديلها يمنحهم ليس فقط سلطة المحاسبة بل سلطة المراقبة القبلية والبعدية للعمل القضائي بدليل أن القضاة مهما اجتهدوا لا يمكنهم إلا ممارسة مهامهم القضائية بما يقتضيه القانون الذي يصنعه المشرع المغربي, وكل خرق أو شطط يعرض القاضي للمساءلة التأديبية والجنائية. وما مطالبة نادي قضاة المغرب والعديد من فاعلي المجتمع المدني بتواجد أشخاص أجانب عن الجسم القضائي بالمجلس الأعلى لسلطة القضائية إلا أكبر دليل على الرغبة في ضمان شفافية عمل هذه المؤسسة حتى يتسنى للجميع مراقبة نشاطها، لأن بعض الممارسات السلبية والشاذة قد تؤدي بالضرورة إلى التعتيم والكولسة، لكن الشفافية تضمن سلامة العمل القضائي للمواطن و حماية القاضي من أي محاولة للاستغلال أو التأثير..
و إن كانت كل هاته الضمانات لا تكفي رجال السلطة التشريعية والتنفيذية لمحاسبة رئيس النيابة العامة الذي يفترض فيه أنه الوكيل العام لمحكمة النقض. فإننا نؤكد أن تعيين هذا الأخير من طرف جلالة الملك هي الضمانة الحاسمة,اذ يبقى جلالته هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية وكما له الحق في تعيينه سيكون له الحق في عزله .
و بالتالي تكون النيابة العامة في مأمن عن الصراعات السياسية تابعة لقاض له خبرة في العمل القضائي و له من المؤهلات ما يسمح له بتسييرها وبتنفيذ السياسة الجنائية في حدود اختصاصاته وفي اطار القانون.
و يبقى تنظيم عمل جهاز النيابة العامة وضمان الشفافية والوضوح في عملها وتبعيتها وعدم اثقال كاهل قضاة النيابة العامة بالمهام الإدارية والتبخيس من عملهم كحماة للحق العام هو الكفيل بإرجاع القوة والمصداقية لهذا الجهاز.
مطلب استقلال النيابة العامة دفع بمئات القضاة لأول مرة في المغرب الى الخروج للشارع وتوقيع عريضة للمطالبة بهذه الاستقلالية ، أما التراجع عن هذا المكتسب فسيكون بمثابة الضربة القاتلة لروح الدستور الجديد، اذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تبقى النيابة العامة على حالها مفرغة من مهامها القضائية تابعة للسلطة التنفيذية وإلا سنكون بدون شك أمام ردود فعل غير مسبوقة وغير متوقعة و ليس لنادي قضاة المغرب فقط ولا حتى للقضاة قاطبة بل للعديد من الفاعلين والحقوقيين الذين لن يسمحوا بدون شك بهاته الردة الحقوقية الخطيرة.