سايكس-بيكو: إرث خفي يعيد تشكيل حدود الشرق الأوسط
عبد العزيز الخطابي
تشكل منطقة الشرق الأوسط أحد أكثر المناطق تعقيدًا وتنوعًا على وجه الأرض، حيث تتداخل فيها الثقافات والأديان والمصالح الإستراتيجية. ومن بين الأحداث التاريخية التي تركت بصمة عميقة على هذا النسيج المعقد يأتي “اتفاق سايكس-بيكو” كأحد أهم المعالم التي غيرت ملامح المنطقة، وذلك خلال الحرب العالمية الأولى. تم التوقيع على هذا الاتفاق في ماي 1916 بين فرنسا وبريطانيا، وسط صراعات الإمبراطورية العثمانية المتداعية، دون استشارة حقيقية لشعوب المنطقة. كان هذا الاتفاق ليس مجرد تقسيم للأرض، بل مخططًا طويل الأمد أعاد تشكيل الهوية الوطنية وفتح جرحًا في التاريخ لا يزال ينزف حتى اليوم.
عند النظر إلى الخلفية التاريخية، نجد أن الإمبراطورية العثمانية كانت تعاني من ضغوط شديدة من القوميات المتنوعة داخلها. مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان هناك تسابق بين القوى العظمى لاستغلال هذا الضعف. ولذلك، تشكل اتفاق سايكس-بيكو كوسيلة لتحقيق مصالح هذه القوى، مع تحديد المناطق التي سيتم تقسيمها وفقًا لاعتبارات جغرافية وسياسية بحتة. لم يعبأ هذا التقسيم بالفروق الثقافية والتاريخية، بل تم وضع حدود جديدة تفصل بين الجماعات الشعبية التي عاشت جنبًا إلى جنب لقرون.
إن التبعات التي نجم عنها هذا الاتفاق كانت كارثية، وتجلت في عدم التوافق بين الهوية القومية المقترحة والولاءات التقليدية، مما أدى إلى صراعات معقدة. في العراق، دفع هذا الانقسام الشيعة والسنة نحو صراعات دموية، بينما ساءت الأوضاع بين الأكراد والأنظمة الحاكمة في الدول المجاورة. القوى الغربية لم تكتفِ بإنشاء دول جديدة، بل ساهمت في تأجيج الصراعات الموجودة من خلال التدخلات العسكرية والمناورات السياسية.
حتى اليوم، يعتبر تأثير سايكس-بيكو حاضراً في المشهد السياسي للشرق الأوسط. إن الأزمات الممتدة، من النزاع الفلسطيني الإسرائيلي إلى الأزمات في سوريا واليمن، تجسد الفشل في تحقيق الاستقرار في إطار الحدود المصطنعة. إن هذه الأوضاع تعكس الفجوات بين الهوية الوطنية والتاريخ الثقافي، حيث يتعين على الدول الحديثة أن تكافئ تنوع شعوبها بدلاً من التنصل منه.
يتزايد الاستياء في المجتمعات العربية تجاه النظام الدولي السياسي القائم، والذي يؤكد أن الحدود المرسومة بحبر سايكس-بيكو لا تعبر عن حقيقية تلك المجتمعات. تشهد المنطقة دعوات متزايدة للحوار والتفاهم، حيث يحاول قادة محليون إصلاح الأوضاع من خلال تعزيز العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. إذا أردنا أن نسعى نحو سلام دائم، ينبغي أن نستمع لصوت الشعوب ونعترف بتنوعها، بدلاً من فرض نموذج موحد لا يعكس الواقع المعقد.
في ظل هذا الإطار التاريخي والسياسي، يأتي السؤال: كيف يمكن للدول أن تعيد تشكيل هويتها الوطنية في عالم دائم التحول، وأن تستعيد الثقة من شعوبها؟ إن إعادة بناء الهياكل الحكومية وتعزيز الحوار الداخلي قد تكون المجريات الأولى نحو معالجة التحديات المستمرة. إذ جاء الوقت لكي تدرك دول الشرق الأوسط أن السلام ليس مجرد غياب للقتال، بل نتيجة لتفاعلات فعّالة وشاملة تعزز من الاستقرار والرفاهية للجميع.
وختامًا، إن تأثير اتفاق سايكس-بيكو لا يمكن أن يُعتبر مجرد ذكرى تاريخية. بل هو درس يجسد التحديات التي تواجه دول المنطقة في سعيها لتحقق السلام والاستقرار. إن درب المستقبل في الشرق الأوسط يتطلب رؤية جديدة، تحترم التعددية وتعزز العدالة، مما يمهد الطريق لعصر جديد يمكن أن يحتفل بالتنوع بدلاً من الصراعات. إن الوقت قد حان لنبدأ فصلًا جديدًا من التاريخ، حيث تكون الشعوب هي الفاعل الرئيسي في رسم ملامح مستقبلها.
