منعطف واسع.. فتصورا لو كان أوسع..
ما حدث في الجزائر من موافقة الرئيس عبد المجيد تبون على طلب نظيره الألماني فرانك-فالتر شتاينماير بالعفو عن الكاتب بوعلام صنصال، المسجون منذ عام، ونقله إلى ألمانيا لتلقي العلاج، يعد في حد ذاته منعطفًا واسعًا في مسار تعامل الدولة الجزائرية مع حرية الفكر والرأي.
فأن يفرج عن كاتب بسبب رأيه، هو بادرة تستحق التنويه مهما كانت دوافعها أو ملابساتها. لكن هذا المنعطف، على أهميته، كان يمكن أن يكون أوسع وأبهى، لو لم يبن على طلب رئيسٍ أجنبي، بل على صوت داخلي ينبع من المجتمع الجزائري نفس، من مثقفيه، وحقوقييه، وسياسييه، ومن نبض الحرية الذي لم ينطفئ بعد رغم القيود.
الحدث يكشف عن مفارقة عميقة في منطق السلطة، فالدولة التي لم تصغِ لمطالب المجتمع المدني، ولا لنداءات النقابات، ولا لأصوات المثقفين، استجابت سريعًا لطلب جاء من خارج الحدود. وكأن الكلمة، لكي تسمع، تحتاج إلى ختم أجنبي أو إلى وساطة رئاسية من قارة أخرى.
ذلك يفرغ الفعل الإنساني من جوهره، ويحول الحرية إلى مكرمةٍ دبلوماسية بدل أن تكون حقًّا دستورياً.
ولأن التاريخ لا يكتب بالإشارات الرمزية وحدها، فإن المنعطف الأوسع الحقيقي كان سيكون حين تفتح أبواب السجون أمام جميع سجناء الرأي في الجزائر، لا أن يختار اسم واحد فقط لترميم جسر مهدم مع فرنسا بعد أن أُغلقت قنوات التواصل الرسمية بسبب مواقف متشنجة وتصرفات أرعنَت الحوار وأضعفته.
بل إن التساؤل المشروع اليوم هو هل كان الطلب ألمانيا بالفعل أم أن الجزائر هي من بادرت به في محاولة لتليين العلاقات وإرسال إشارات حسن نية نحو الغرب؟ أياً يكن الجواب، فالثابت أن السياسة حين تتدخل في ملف الحرية، تفرغه من محتواه الإنساني، وتجعل منه ورقةً تفاوضية تستعمل عند الحاجة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن خطوة العفو هذه تمثل بداية جديدة، وإن جاءت من فوق لا من تحت. إنها إقرار ضمني بأن سجن الكتاب لا يصنع هيبة الدولة، وأن الفكر لا يواجه بالقيد بل بالحوار، وأن من يكتب رأيًا لا يحاكم كما يحاكم من يعتدي.
إنها بادرة تحتاج إلى أن تتسع وتترسخ، لا أن تبقى استثناء أو تنازلا ظرفياً. فالمنعطف الواسع الذي بدأ مع بوعلام صنصال لن يكتمل إلا حين تصبح حرية الرأي في الجزائر قاعدة لا منة، وحقا لا صفقة، وعنوانًا لثقة جديدة بين الدولة ومواطنيها.
إن العفو عن كاتبٍ هو بداية تصحيحٍ لمسارٍ طويل من الصمت، ونتمنى أن يتحول هذا المنعطف إلى طريق مفتوح نحو مصالحة الجزائر مع أبنائها ومع الفكر الحر الذي لا يُسجن.
