سيادة المغرب على الصحراء: بين الشرعية التاريخية والدبلوماسية والجيوسياسية
سعيد العفاسي (+)
تُعدّ قضية الصحراء المغربية من أبرز القضايا التي شغلت الرأي العام الإقليمي والدولي منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وهي اليوم من الملفات التي أبانت عن متانة الموقف المغربي وعمق شرعيته التاريخية والدبلوماسية والجيوسياسية. فسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية لم تكن وليدة اللحظة، بل هي امتداد طبيعي لكيان سياسي وتاريخي ضارب في القدم، تدعمه وثائق قانونية، ومواقف دولية متنامية، وتحولات استراتيجية أعادت رسم خريطة النفوذ في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، من الناحية التاريخية، الصحراء كانت دومًا جزءًا لا يتجزأ من التراب المغربي، وليست كيانًا منفصلًا أو مستقلًّا كما يروج خصوم الوحدة الترابية. فقد ظلت قبائل الصحراء، مثل أولاد دليم والركيبات، تعترف بمؤسسة البيعة التي تربط السكان بالسلطان المغربي، في تجسيدٍ واضح للعلاقة السياسية والدينية التي أسست لمفهوم السيادة قبل ظهور الدولة الحديثة. وتشهد على ذلك المراسلات السلطانية، وأرشيفات دار المخزن، والرحلات التي قام بها الملوك العلويون إلى الجنوب لتأكيد هذه الرابطة.
ولم يكن هذا الارتباط مجرد ولاء رمزي، بل تجلى في الممارسة الفعلية للسلطة، حيث كان المخزن المغربي يعين القضاة والولاة ويجمع الزكاة في المناطق الصحراوية، ما يثبت أنّ السيادة كانت ممارسة ميدانية، لا ادعاءً سياسيًّا. وقد أكدت محكمة العدل الدولية سنة 1975 هذه الحقيقة حين أقرت بوجود روابط قانونية وولاءات بين الصحراء والمملكة المغربية قبل الاستعمار الإسباني، مما يُسقط مزاعم “الفراغ السيادي” التي حاولت الأطراف الانفصالية ترويجها، على الصعيد الدبلوماسي، اعتمد المغرب نهجًا متوازنًا يجمع بين الحزم والانفتاح، فطرح منذ عام 2007 مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، التي وُصفت من قبل مجلس الأمن بـ”الجدية وذات المصداقية”. وقد تحوّلت هذه المبادرة إلى مرجع أساسي في كل قرارات الأمم المتحدة، باعتبارها الإطار الواقعي والعملي لتسوية النزاع، خلال العقدين الأخيرين، شهد العالم تحولًا نوعيًّا في المواقف الدولية تجاه القضية، حيث اعترفت قوى كبرى بسيادة المغرب على صحرائه، أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية في دجنبر 2020، تلاها فتح قنصليات لأكثر من ثلاثين دولة إفريقية وعربية وآسيوية في مدينتي العيون والداخلة، في خطوة دبلوماسية غير مسبوقة تؤكد أن المجتمع الدولي بات يتعامل مع الصحراء باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من التراب المغربي. كما دعمت دول الاتحاد الأوروبي، من خلال أحكام محاكمها واتفاقياتها التجارية، إدماج منتجات الصحراء ضمن المنظومة الاقتصادية المغربية.
في مقابل ذلك، عرف ما يسمى بـ”جبهة البوليساريو” تراجعًا دبلوماسيًا واضحًا، مع تقلص الدعم الذي كانت تتلقاه من بعض الأنظمة الإيديولوجية القديمة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. فقد تبيّن أن طرح الانفصال لم يعد ينسجم مع التحولات الإقليمية ولا مع مقاربات التنمية والاستقرار التي تتبناها القوى الكبرى، من زاوية جيوسياسية، أصبحت الصحراء المغربية اليوم محورًا استراتيجيًا في توازنات شمال إفريقيا والساحل، نظرًا لموقعها الرابط بين المحيط الأطلسي وعمق إفريقيا. فقد تحوّلت الداخلة والعيون إلى منصّتين اقتصاديتين وتجاريتين ضمن مشروع المغرب كبوابة نحو إفريقيا، حيث يتم إنجاز ميناء الداخلة الأطلسي، وتطوير البنية التحتية بما يجعل الأقاليم الجنوبية مركزًا للربط بين أوروبا وإفريقيا الغربية، هذه المكانة الجديدة جعلت المغرب فاعلًا أساسيًا في محاربة الإرهاب والهجرة غير النظامية في المنطقة، وهو ما تعترف به القوى الدولية التي ترى في استقرار الصحراء تحت السيادة المغربية ضمانًا لاستقرار غرب المتوسط برمّته. وبذلك تزاوجت الشرعية الجيوسياسية مع الشرعية الأمنية والتنموية، إذ باتت التنمية رافدًا من روافد ترسيخ السيادة الواقعية، من خلال المشاريع الكبرى، كالنموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، الذي أطلقه الملك محمد السادس عام 2015.
إن تراكم الاعترافات الدولية بسيادة المغرب على الصحراء لم يكن نتيجة ظرفية سياسية، بل ثمرة رؤية ملكية بعيدة المدى، تميزت بالثبات في المبدأ والمرونة في الوسائل. فقد استطاع المغرب أن يحوّل القضية من ملف نزاع إلى نموذج استقرار وتنمية، مستثمرًا في الديبلوماسية الاقتصادية والدينية والإنسانية. وتؤكد المواقف الصادرة عن منظمات دولية كالاتحاد الإفريقي، الذي أعاد إدماج المغرب عام 2017، أن الخطاب الانفصالي فقد بريقه أمام منطق التاريخ والمصلحة المشتركة، ولئن لم يُصدر مجلس الأمن بعد قرارًا صريحًا يكرّس السيادة الكاملة، فإن الواقع السياسي والاقتصادي والميداني يشهد بأن الصحراء مغربية بالشرعية والفعل، وأن المجتمع الدولي يتجه تدريجيًا نحو تثبيت هذا المعطى كحقيقة نهائية. فالدبلوماسية المغربية لم تراهن على الضغوط أو الاصطفافات، بل على الزمن والشرعية والبناء التنموي.
إن سيادة المغرب على الصحراء ليست مجرد ادعاء سياسي، بل حقيقة تاريخية، تؤكدها روابط البيعة والوثائق المخزنية، وتعززها المبادرات الدبلوماسية الواقعية، وتكرّسها التحولات الجيوسياسية التي جعلت من الصحراء رافعة استقرار وتنمية في المنطقة. إن الاعتراف الدولي المتنامي ليس إلا تتويجًا لمسار طويل من النضال القانوني والدبلوماسي والاقتصادي، يثبت أن المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها، وأن منطق التاريخ والجغرافيا والسياسة بات اليوم يصبّ جميعه في اتجاه واحد: سيادة المغرب على كامل ترابه، باعتراف العالم أجمع.
(+) صحافي ومحلل سياسي
