بقلم. عبدالعزيزالخطابي
يأتي الشاعر الروسي ” لير منتوف ” في المرتبة الثانية، بعد الشاعر الكبير ألكسندر بوشكين من حيث موقعه في الأدب الروسي والقيمة الفنية والتاريخية لشعره وإنتاجه الأدبي بصفة عامة .
وكان أيضا مثل سلفه بوشكين في علاقته وتأثره بالشرق والحضارة الإسلامية وانعكاس ذلك في الكثير من أعماله الأدبية ، ولكن هذا الاتجاه نحو الشرق وأبعاده الروحية والأخلاقية وقيمة الإنسانية، لم يجد العناية والاهتمام الذي يستحقه لدى الباحثين والدارسين والمؤرخين للأدب الروسي والنقاد الى حدود ضيقة وعابرة .
ويعتبر لير منتوف من ناحية الوريث الشرعي لتراث بوشكين في كفاحه ونضاله ضد الاستبداد القيصري ودفاعه عن الحرية وقيم العدالة ونقده للواقع الذي كان سائدا في ظل الإقطاع والقنانة.
وقد ذاع صيت لير منتوف بعد كتابته لقصيدته الشهيرة “موت الشاعر” وهي مرثية وداع وألم للشاعر بوشكين، كما أنها كانت تشكل علامة استفهام حول مصرعه الذي يبدو وكأنه جريمة مدبرة وليس صدفة، وبالقدر الذي كانت فيه الحرية والدفاع عنها أو المطالبة بها كامنة وراء الموت المفاجئ والصاعق للشاعر بوشكين، فقد كانت هي السبب والدافع الذي وضع لير منتوف في مواجهة مصيره وموته في إحدى المبارزات الدامية، ولم يتجاوز عمره السابعة والعشرين وكان في أوج شهرته ومجده الأدبي.
رأى لير منتوف النور في عام 1814 في موسكو منحدرا من أسرة تتسم بالعراقة والنبل، وقد نشأ لير منتوف بعيدا عن العاصمة، فأمضى طفولته في الضواحي مغمورا في أجواء الطبيعة الساحرة والحقول الخضراء التي تمتد حتى الأفق فيما مياه الوديان تترقرق من حوله وأسراب الطيور تحلق عاليا في السماء، وقد كان لهده النشأة الريفية تأثيرها الذي لا يمحى في نفس الشاعر وحنينه الى الطبيعة وارتباطه بحياة الفلاحين الروس والاقنان ومعاناته في ظل الإقطاع والعبودية .
وقد تنقل لير منتوف فيما بعد بين موسكو وبطرسبرج التي كانت العاصمة القيصرية آنذاك، واندمج في حياته الجديدة عندما التحق بالدراسة الجامعية العسكرية، حيث تلقى تعليما عسكريا خاصا مما أهله لتقلد وظيفة ضابط في الحرس العسكري .
ولكن حياته العسكرية لم تؤخر انضمامه الى العالم الأدبي، وقد دلف إليه في سن مبكرة، وبالتحديد نحو الثلاثينات من القرن التاسع عشر، وهي مرحلي الفاصلة بين الانتفاضة التي عرفت تاريخيا بانتفاضة الديسمبريين والنهضة الديمقراطية في بداية الأربعينيات، وبالرغم من ان لير منتوف عاش حياة قصيرة ولم يستغرق عمره الأدبي أكثر من ثلاثة عشر عاما، فانه مثل سلفه بوشكين كان مبدعا من طراز فريد، عرف بتنوع إنتاجه وغزارته حيث أبدع في القصيدة الغنائية والقصة الشعرية الرومانسية كما كتب وألف في الرواية .
وبذالك فقد اكتسب ميخائيل لير منتوف مكانه خاصة ومتفردة في تاريخ الأدب الروسي، فهو يبرز كأخر واهم ممثل للاتجاه الرومانسي الثوري، ومن ناحية أخرى فقد تبلور النتاج لهذا الشاعر الكبير معبرا عن المرحلة التاريخية التي كان يمر بها الأدب الروسي في ثلاثينات القرن الماضي، عندما اخذ المذهب الواقعي في الظهور واستقطابه للأدباء الجدد، فلم يلبث لير منتوف الشاعر الرقيق الذي ترعرع في أجواء الرومانسية ان تحول الى التعبير الواقعي بالحياة، وتجسد هذا التحول بوضوح في روايته الشهيرة ” بطل العصر” التي حققت مكانة هامة ومتقدمة في تاريخ الرواية الروسية في القرن التاسع عشر.
لقد ابتعد لير منتوف عن الرومانسية، ومع ذلك فقد ظلت أصداؤها ظاهرة في أعماله الواقعية، ويرى النقاد ان قصص لير منتوف الشعرية تمثل قمة الرومانسية في فنه وفي أعماله الخالدة، وقد حفلت هذه القصص بروح البساطة والعفوية وتوجهه نحو سكان الجبال فيما يشبه الاحتفالية الأدبية الغنية بالمعلومات الجغرافية والعادات والأساطير والطابع القومي المميز للقوقاز وأصالته وعراقته التاريخية وقد كتب أعماله هذه الفترة الممتدة من عام/ 1830 – 1833 / ومن أهمها في هذا السياق قصصه “إسماعيل بيه” والحاج بريك “وأسير القوقاز ” وكلها تصب في تياره الرومانسي .
وتعكس الأعمال الإبداعية والفنية للشاعر لير منتوف بشكل عام اهتمامه وانشغاله بموضوع الشخصية الإنسانية الفردية في عمق وجودها وأحلامها ومعانتها النفسية ومحيطها الاجتماعي، وهذا التوجه في حد ذاته يأتي ضمن الموضوعات الرائدة في الأدب الروسي الواقعي، وأصبحت الموضوعات التي تتناول حقوق الشخصية الإنسانية والحريات السياسية والاجتماعية والقومية والبحث عن أفق جديد للفكر والحياة ومقاومة كل أشكال الاستبداد القيصري، أصبحت هي هاجس المثقفين والكتاب الروس بما تعكسه من مواقف في إطار التغير في الواقع الاجتماعي، كما أنها أضحت هي المحرك الرئيسي للأدب في روسيا بكل أجناسه، مما أصبح يدعو بإلحاح الى إبداع أشكال جديدة في التعبير وفي اللغة أيضا، وهذه ملامح لأدب روسي جديد في الابعاث على يد عدد من الكتاب الموهوبين .
ملامح إسلامية :
تتجسد القيمة الفكرية والفنية لإبداعات لير منتوف المستوحاة من المشرق العربي والإسلامي بدرجة كبيرة من الأهمية بالقياس الى أعماله المرتبطة بالقوقاز، وبالإضافة الى ذلك فان بعض كتاباته عن القوقاز تلتقي بالقصائد المستوحاة من الشرق العربي، وذلك من خلال الموضوع الإسلامي وقيمه الإنسانية، ومن خلال مسلمي القوقاز الجبليين الذين عايشهم لير منتوف عن قرب حيث تعرف على الكثير من تعاليم الإسلام ونهجه الفكري، ومن خلال مسلمي القوقاز تعرف لير منتوف كذلك على الكثير من العادات الإسلامية والتقاليد الاجتماعية، مثل عيد الأضحى، فقد كان طفلا عندما سمع لير منتوف أحاديث الكبار عن هذا العيد .
ومن الواضح ان تعرف لير منتوف على الدين الإسلامي كان له اثر عميق في نفسه وتفكيره، ففي إحدى قصائده يشير لير منتوف الى القرابة الروحية التي صارت تربطه بالإسلام في وقت كان يشعر فيه بالوحدة والغربة .
يقول في قصيدته ” فاليريك” :
فربما سماء الشرق
قد قربتني بلا إرادة مني
من تعاليم نبيهم ،..
وعبر لير منتوف انطلاقا من قرابته الروحية للإسلام وتعاليمه العظيمة في رسالة لأحد أصدقائه عن شوقه في السفر الى مكة المكرمة موطن الرسول ومنبع الإسلام، وقد لقيت القيم الإسلامية انعكاساتها في الكثير من أشعار لير منتو، ففي قصيدته الشركس نجد البطل وهو أمير تركي يعلن لشعبه عن عزمه على إنقاذ أخيه الذي تراءى له شبحه بطلب المساعدة، مؤكدا هذا العزم بالقسم بالرسول عليه الصلاة والسلام، ومما جاء في هذه القصيدة :
“إنني لمستعد للموت
أقسم أقسم بالعالم كله
فقد حلت الساعة
التي لا مفر منها”
كما يبدي لير منتوف تقديسه للقرآن وتعظيمه له في قصيدته” هبات التركي ” فالتركي يقدم هدية الى شيخه كتب عليها ” أية مقدسة من القرآن مخطوطة بالذهب “.
كما يظهر بوضوح تأثر لير منتوف بالإسلام في قصيدته المعروفة: ثلاث نخلات “1839 التي يرى عدد من النقاد أنها قريبة الشبه بالقصيدة التاسعة من أشعار بوشكين” قبسات من القرآن ” ويشير هؤلاء النقاد الى ذلك التشابه تحديدا في بناء القصيدتين ووزنهما من جهة، والى تأثر لير منتوف بمضمون قصيدة بوشكين من جهة أخرى .
وقد بزرت فكرة الإيمان بالبعث في الأخيرة في قصيدة من بوشكين مثلما جاءت في قصة أهل الكهف، أما عند لير منتوف فتتحول فكرة البعث الى فكرة الفناء كما تعكسها قصيدة “ثلاث نخلات” عندما تظهر قافلة تطيح بالنخلات الثلاث وتأخذ أخشابها للتدفئة، وتنتهي قصيدة لير منتوف بالفناء والزوال، حيث تختفي بقايا النخلات متطايرة في الرمال، ويتناثر التراب، يقول لير منتوف في قصيدته الطويلة هذه .
في السهول الكئيبة لأرض
الجزيرة العربية
نمت عاليا ثلاث نخلات
شامخات
الينبوع بينها من تربة قحله
يمر مخترقا طريقه بموجة باردة
مصانا في ظل الأوراق
الخضراء
ومن وحي السيرة النبوية العطرة يستلهم الشاعر لير منتوف مضمون وأبعاد قصيدته “الرسول” وقد كتب لير منتوف هذه القصيدة وكأنه يتسع بها في وقت أحس فيه بالاضطهاد فيما السلطات تتعقبه وتطارده من مكان إلى أخر ملاحقة إياه بلا هوادة لكي تنزل به العقاب على أشعاره الوطنية، وهذا ما يبدو في إعجاب لير منتوف بسيرة الرسول في مر حلة الهجرة من مكة الى المدينة، بعد ان وجهت دعوته من قومه بالسخرية والعداء، وهم الذين كانوا يتربصون ويكيدون له، يقول في مقطع من هذه القصيدة :
منذ ان منحني الإله الأزلي
رؤية الرسول
أقرأ في أعين الناس
صفحات اليأس والرذيلة
أخذت أنادي بالحب
وحق التعاليم الطاهرة
فكان ان ألقى الأقربون مني
بالأحجار على في غيظ
وثرت رأسي وهربت في المدن
أنا فقير،
وها أنا أعيش في الصحراء كالطيور يطعمها الله بلا مقابل
وبالإضافة الى تركيز الشاعر لير منتوف على معاناة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وما كابده من ايداء المشركين له والعداء في مواجهته، نجده يستلهم من القرآن صورة الشيطان لموضوع قصته الشعرية “إبليس” وهذه الصورة من الصور المفضلة لدى لير منتوف، فنراها تظهر في الكثير من قصائده وأشعاره في رحلته الفنية والإبداعية .
ويقتبس الشاعر لير منتوف من القرآن الكريم حكاية إبليس الذي أبى ان يطيع أمر ربه ويمتثل له كبقية الملائكة فلم يسجد، كما تشير الآية الكريمة من سورة البقرة كما قال سبحانه وتعالى :{ وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } فنجد لير منتوف يوظف هذه الواقعة الدينية في إطار الواقع القائم في عصره، حيث تأخذ قصته إبليس المطرود من الجنة أبعادا ذات طابع فلسفي واجتماعي ويرمز الى العالم الأزلي بين الخير والشر في حياة الناس، وبذلك يهبط إبليس لير منتوف الى العالم الدنيوي، وهو بالطبع كائن أخر بعد ان تحول على يد لير منتوف الى بطل مأساوي حيث تستبد به نزوات أخرى نحو الإحساس بعالم البشر وتأمله من زاوية أخرى ، وفي حياته الجديدة يصطبع إبليس بمشاعر كئيبة من اليأس والعزلة والحزن، أما مصدر هذه المشاعر فهو ان إبليس يستجيب بهذا لحب الأميرة الجميلة “تمارا” التي كانت سجينة بأحد الأديرة، إذ كان إبليس يصبح بهذا الحب اقرب الى الإنسان بدرجة كبيرة فيعاني قلق العشاق ولوعتهم، وتكسبه هذه المعاناة مشاعر الطيبة وحب الخير والصفاء ، الى حد يود لو يستطيع ان يصلح من نفسه ويمحو خطاياه السابقة… فيقول :
أريد التصالح مع السماء
أريد ان أحب، أريد ان أصلي
أريد ان أومن بالخير…
ولكن هذا ممكن، انه السؤال الذي يطرحه الشاعر لير منتوف، فيجوز هذا المخلوق العاصي بنصيب من السعادة ويهنأ بحبه، وما يلبث إبليس أن يخوض صراعا عنيفا من أجل حبه لتمارا مع الملاك الحارس ينتهي بخيبة إبليس وفشله في الوصول الى تمارا وتملك قلبها، فتموت تمارا ويصعد الملاك الحارس بروحها الى السماء، وتنتهي هذه القصة الشعرية بهزيمة إبليس .
أما في المرحلة الأخيرة من حياة لير منتوف فانه يقترب أكثر فأكثر من القرآن الكريم، فيصبح للقرآن تأثير أقوى على شعره وأعماله الفنية بصفة عامة، ويتمثل ذلك في إيمانه بالقدر، وينعكس هذا الإيمان في فكره وأشعاره.
“قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ”
“ان كل شيء خلقناه بقدر ”
“وما ننزله إلا بقدر معلوم ”
وفي قصة ” الجبري” وهي إحدى خمس قصص تؤلف روايته المسماة “بطل العصر” يقول الروائي في هذه القصة: ذات مرة بعد مللنا اللعب وألقينا بالورق أسفل المائدة اطلنا الجلوس عند الرائد : س – وكان الحديث طويلا، وعلى غير العادة وكان الحديث مسليا كنا نناقش في العقيدة الإسلامية التي تقول بان قدر الإنسان مكتوب في السماء فقد لاقى هذا الاعتقاد بيننا نحن المسيحيين الكثير من الإعجاب، وكان كل ما يحكى عن حالات مختلفة غير عادية تؤكد أو تنفي هذا الاعتقاد .
والخلاصة في هذا كله ان لير منتوف الذي تعلق بالقرآن الكريم وتعاليمه العظيمة بطابعها الإنساني وقيمها الروحية والأخلاقية قد استطاع أن يصيغ من عالم القرآن صورة حية لواقع حياة الإنسان على الأرض ونموذجه الشعري الذي يحقق السمو والرفعة ويكافح من اجل الحرية والعدالة، لقد كان لير منتوف في اغلب كتاباته ملهما بذلك الفيض من الحب العميق للإنسان في القرآن الكريم، حيث تتبدى القيم الأخلاقية الناصعة كما ذكر ذلك سلفه بوشكين، فاستوحى لير منتوف من القرآن صورا وموضوعات بالغة الدلالة في ارتباطها بواقعه المعاش من خلال خيوط خفية، فجاءت في مجملها معبرة عن توجهات وطنية وأخلاقية نابعة من واقعه، وقد تمخض انشغاله لير منتوف بالإسلام واجذباه إليه عن محاولة واعية من جانب لإثراء عالمه الفني بالقيم الإنسانية والصور والأفكار الى حياة أكثر حرية وعدالة .
الهوامش :
1/ مدخل الى الأدب الروسي في القرن التاسع عشر ،د، حياة شرارة .
2/ مؤثرات غربية وإسلامية في الأدب الروسي، د، مكارم النمري .
3/ بوشكين – ترجمة فؤاد أيوب .