18, أكتوبر 2024

ليلى خزيمة

 

الزي ليس مجرد لباس وزركشات، بل هو تاريخ يمتد لقرون، وشاهد على العصر بثقافته وعاداته وقيمه. والزي المغربي التقليدي متعدد بتعدد المناطق واللهجات والأعراف والانتماءات. تراثنا اليوم، سيعرفنا على واحد من هذه الموروثات التقليدية التي تنتمي إلى منطقة الجنوب الشرقي للبلاد. اسمه تحول من مجرد كلمة متداولة محليا تدل على اللباس إلى واحدة من علامات ورموز الثقافة الأمازيغية، فأصبح “تاحْرُويْتْ” نارا على علم.

اللفظ

كلمة أمازيغية تدل على ثوب ترتديه النساء في الواحات، ويكون لونه أسود في الغالب، تلفه المرأة وتغطي به جسدها بالكامل دون العينين. وهو أحدملامح الزي الأمازيغي التقليدي.  تاحْرُويْتْ هي صيغة تصغير لمفرد “أحْرُويْ” ويعني اللباس والجمع “إحروينْ” أي الملابس.

يعد تاحرويت بمثابة رمز من رموز الثقافة الأمازيغية وتقاليدها الخاصة بالنساء. فهو رفيق المرأة الأمازيغية منذ القدم في مناطق الجنوب الشرقي المغربي مثل مدينة تنغير وزاكورة والراشيدية.فلا يمكن الحديث عن ثقافة المرأة الأمازيغية المغربية بمعزل عنتاحرويت. هذا اللباس كان في الماضي ضروريا، وكان على كل امرأة أرادت الخروج من المنزل حتى وإن كان المكان المقصود قريبا، أن ترتديه. فهو دلالة على وقار المرأة وحسن خلقها وشرط احترام الآخر لها. الشيء الذي يؤكد المكانة المتميزة لتاحرويت. فحتى وإن كانت المرأة ذاهبة في مناسبة عرس وارتدت أحلى لباس لديها، كان لابد لها من وضع تاحرويت فوقه. لذلك من الصعوبة بما كان إيجاد بيت خالي من هذا الزي التقليدي بالمنطقة. فقد كان خروج المرأة بدون هذا اللباس التقليدي الموروث، يعتبر خرقا للقانون القبلي، بل وقد تتهم المرأة بعدم الحشمة والوقار، والتطاول على عادات البلاد وتقاليدها.

الرمز واحد والأشكال متعددة

وتاحرويتليس واحدا، بل متعدد الأصناف من حيث تزيينها. فالصيغة التي ترتديها الفتاة البالغة من العمر سن الزواج،لا تشبه تلك التي ترتديها المرأة المتزوجة أو المرأة المسنة. فالفرق واضح من خلال الأشكال الموضوعة على اللون الأسود. فكثيرا ما تميل تاحْرُويْتْ التي ترتديها الفتاة إلى كثرة الأشكال الهندسية الموضوعة على الزي وكثرة ألوان الزينة التي تضفي على اللباس البهاء والابتهاج، بعكس المرأة المسنة.ففي الثقافة الأمازيغية، الألوان الزاهية ترمز إلى الشباب، و“مُوزُونْ” لا يجدر بامرأة مسنة، فتكتفي هذه الأخيرة بقماش تاحرويت به مستطيلات بألوان مكررة، وثوب رطب غير شبابي. وتاحرويت كما قلنا هو عبارة عن ثوب أسود اللون مطرز بزخارف ورموز بألوان متنوعة ترمز إلى الهوية الثقافية لنساء الواحات. لذلك فلكل قبيلة نوع يميزها عن الأخرى.

وإذا كان اسم تاحرويت يوحد هذا الزي التقليدي الشائع في الجنوب الشرقي للمغرب، فإن النساء المتمرسات يميزن بين نوع وآخر، ذلك أن لكل منطقة في الجنوب الشرقي نوعها الخاص الذي يميزها عن بقية النساء، إلى درجة أن الخبيرات من النساء يستطعن التعرف على المنطقة التي تنحدر منها صاحبة هذا الزي أو ذاك من خلال تلك التزيينات التي على لباسها. فتعرفن أن هذه تاحرويت خاصة بنساء تازارين، وتلك خاصة بنساء أيتخباش، والأخرى لا ترتديها إلا نساء النيف واملعبوأماغا وما إلى ذلك. فنساء آيت عطا يرتدين قماشا أسودا تلففنه على أجسادهن بالكامل، ويزين بمربعات متتابعة على شكل خط طويل يحمل ألونا مختلفة وأحيانا يحضر فيها الحرف الأمازيغي المسمى ب” أزا”. لذلك، فتاحرويت ليس مجرد لباس فقط، بل هو لوحة فنية تبدعها أيادي نساء المنطقة، ويوثقن فيها لذاكرة موروثهن وهويتهن وانتماءهن.

كما أن الرسوم والخطوط في غالب الأحيان تكون بمثابة بطاقة تعريف ملخصة عن المرأة التي تعيش في الواحة.فقد تعرف من خلالها ما إذا كانت المرأة متزوجة أم غير متزوجة أو مطلقة أو أرملةأو نوع الحالة التي هي عليها في تلك اللحظة. وقد تفصل الرسوم كذلك في عدد الأبناء الذين أنجبتهم تفاديا لأي اصطدام أو سوء فهم قد يسببه تجوالها، سواء في المزارع أو في الأماكن العمومية كالأسواق والأعراس وما إلىذلك من أماكن التجمعات.

التطريز فن ورموز ثقافية

تحاك تَاحْرُويْتْ من ثوب خاص، يتم استيراده من الصين أو الهند، أو موريتانيا. وهو أنواع، يطلق على كل نوع في الجنوب الشرقي اسم معين. فنجد“فيبران” أو “كِبْرَانْ”، “النيلو”، “قلمون”، “الكتان”. ولكل نوع من هذه الأثواب سماته الخاصة وما يميزه عن بقية الأثواب.

بعد شراء الثوب، تقوم نساء محترفات بتزيينه ببراعة، وقد يكلفهن ذلك يوما كاملا أو خمسة أيام أو أكثر، بحسب الأشكال المطلوبة، إن كانت سهلة أو معقدة، وذلك ما يتحكم في ثمن تاحْرُويْتْ.

يسمى طرز تاحرويت كذلك بالطرز “الزاكوري“، كناية عن منطقة زاڭورة. وهو طرز أمازيغي مغربي منسجم مع بساطة جغرافيا المنطقة وهدوئها. يتميز باستخدام خيوط كبيرة، وحشوه يعتمد العديد من الرموز والنقوش الأمازيغية والزخارف المتنوعة والورود التي يتم تطريزها بألوان مختلفة تنسجم مع اللون الرئيسي المعتمد في الثوب وغالبا ما يكون الأسود أو الأبيض. يكون الثوب غالبا لحافا وشالا، تتناغم الألوان فيه بشكل متناسق مما يضفي على هاته الزخارف تميزا ونعومة وجمالية. ومؤخرا بدأ الطرز الزاڭوري يتوسع وتعتمده علامات تجارية تستخدمه في تزيين فساتين عصرية مختلفة الألوان وكذلك قفاطين المناسبات،إضافة إلى نقوش وزخارف أخرى.

تقول الباحثةفي التاريخ والتراث المحلي لواحة دادس فاطمة عمراوي: «قديما، كانت تَاحْرُويْتْ بمثابة بطاقة هوية للمرأة الأمازيغية، وهي قطعة تُحاك من الصوف بمترين طولا ومتر ونصف المتر عرضا، تلبس فوق اللباس المحلي المعروف باسم “تاشطات” وتستر سائر الجسد، كما أنها تدفئ النسوة والفتيات في الواحة».

دلالات تاحْرُويْتْ

تاحْرُويْتْ لباس يحيل على المرأة الأمازيغية وعلى الوظيفة التي يؤديها، وهي ستر المرأة وهو ما يدل عليه لونه.هذه الدلالة الإيحائية المرتبطة بالستر تدل في الثقافة الأمازيغية على أن المرأة المرتدية لهذا اللباس هي امرأة مصونة ومحترمة ومحتشمة.

ولعلو شأنها وتعدد فضائل استخداماتها، وجدت تَاحْرُويْتْ مكانا رفيعا لها في الأعراس بالواحات. بل إن تقديمها ضمن الملابس التي يهديها العريس للعروس، في الكثير من المداشر، يعد أمرا ضروريا. فلا حقيبة للملابس من دون تاحرويت. والحقيبة في الأعراس الأمازيغ للجنوب الشرقي حقيبة ممتلئة بالملابس والأغراض النسائية، يرسلها أهل العريس إلى عروسهم في اليوم الأول مع الوفد الذي سيأتي له بزوجته لتقضي أول يوم في بيتها. وتقديم هذه الحقيبة والغناء حولها بترديد المواويل طقس لا محيد عنه في الأعراس القبلية في مداشر كثيرة. وأثناء هذا الطقس الاحتفالي، يُظهر العريس وجاهته، وتعرف العروس قيمتها الرمزية لدى زوجها، لتباهي بذلك قريناتها وجاراتها اللواتي يسجلن كل شيء.

ويتشكل لباس تاحْرُويْت من أدوات زينة تحمل رموزا ذات دلالة ورمزية ثقافية مهمة، ولعل أبرزها “تازرزيت” أو “الخلاّلة”، و“الخميسة” أو “يد فاطمة”،وحرف “ياز”الموازي لحرف الزاي باللغة العربية، والذي يرمز لأبجدية تيفيناغ، والدملج وهي قطع الحلي التي دأبت النسوة أن ترفقنها بلباس تاحرويت، لتشكلن بها تعبيرا يعكس عمقا فنيا يربط الماضي بالحاضر.

ومع تعدد قبائل الجنوب الشرقي واختلاف طفيف في اللهجات كان من الطبيعي أن نجد اختلافا في تسمية هذا اللباس تاحْرُويْتْوفي شكله أيضا. فتاحرويتقبائل “أيت عطا” ليست نفسها الخاصة ب“أيت مرغاد” أو “أيتتدغت” وأنواع هذه الأخيرة تختلف عما ترتديه نساء“إسمخان” أو “إقبلين”. بل أكثر من ذلك، قد تختلف النوعيات داخل القبائل المنطوية تحت نفس المجموعة القبلية. فالمرأة في كل من “أيت عطا”، “اسمخان”، “إقبلين” ترتدي قماشا أسودا تلفه على جسدها بالكامل يحتفظ باسم“تاحرويت” مزين بمربعات متتابعة على شكل خط طويل تحمل ألونا مختلفة وأحيانا يحضر فيها الحرف الأمازيغي “ياز”. في حين ترتدي المرأة فيتودغا قماشا أبيضا شفافا نوعا ما يسمى “أشطاط” وهو نفس ما ترتديه نساء بومالندادس وقلعة مكونةمع تغيير طفيف مرتبط بلون القماش الذي يكون أسودا ويسميه السكان المحليون ب “تاشطاطت”. أما المرأة التابعة لقبائل أيت مرغاد وأيت حديدو، فهي ترتدي غطاء صوفيا مستطيلا ذي خطوط بيضاء وزرقاء أو بنية.

إعادة اكتشاف تاحْرُويْتْ

قرون وزمن طويل مر على تواجد الموروث الثقافي تاحْرُويْتْ بمنطقة الجنوب الشرقي. توارثت النساء هذا الابداع وحملنه بكل فخر وعزة. ومع تطور الحياة وانتقال العديد من العائلات الأمازيغية إلى مناطق أخرى من المغرب، تخلت النساء عن ارتداء هذا الزي، مما جعل بناتها غير عارفات بموروثهن الثقافي. لكن ما له تاريخ عريق، يجد دائما الطريق إلى نفض الغبار عليه والسبيل إلى الظهور والعودة إلى الواجهة.

فتيحة آيت الزويت فتاة أصلها من حاحا وهي خريجة أكاديمية الفنون التقليدية بالدار البيضاء. بعد تكوين أكاديمي وعملي على يد أساتذتها في قسم النسيج وتمرسها الميداني ضمن حرفيي النسيج، اكتشفت فتيحة في إحدى رحلاتها الى قصر الخربات بنواحي الراشيدية لباس تاحْرُويْتْ، فأعجبت بالزخارف والنقوش والتطريزات التي تزين الملحف. فقررت أن تجعل من هذا الموروث ذو الحمولة الثقافية خطا تحريريا لإبداعاتها. عملت فتيحة على تصاميم جديدة مستلهمة من إرث أجدادها وتاريخ المنطقة التي تنتمي إليها ومن الرموز والزخارف التي تميز تاحْرُويْتْ، فصنعت حقائب ووسائد وفواصل كتب ولوحات حائطية وغيرها. استعانت فتيحة في تنفيذ مشروعها الذي أطلقت عليه اسم العلامة الاصلية للموروث، بربات بيوت يشتغلن في التطريز، وأشرفت على تدريبهن وتحفيزهن لتنفيذ التصاميم الجديدة التي أبدعتها. فساهمت بتدريب هذه النساء على تطريزات تاحْرُويْتْ بالتعريف بموروثها الثقافي الامازيغي وإيصاله الى أكبر عدد من النساء. مما مكنها من عرض منتوجاتها عبر الملتقيات والمعارض المتخصصة وفتح باب الترويج لهذا الموروث الثقافي.

وكما يقال، “رب ضارة نافعة”.فبعد أزمة جائحة كورونا التي أرغمت الجميع على التباعد وعدم تنظيم التظاهرات والملتقيات، عمدت فتيحة إلى تسويق إبداعاتها عبر المنصات الرقمية. فساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في جعل منتوجات الشابة أكثر شهرة على المستوى الوطني، كما جعلت اسم تاحْرُويْتْ يعود إلى الواجهة من جديد ويصبح أكثر تداولا.

 

تاحْرُويْتْ لباس صمد لقرون رغم الموضة والأزياء الجديدة ورغم المخاوف من انقراض هذا النوع من الأزياء التقليدية الأمازيغية. صمود جاء بفضل تشبث المرأة الامازيغية بتقاليدها العريقة إمانا منها بضرورة الحفاظ على الموروث الثقافي المحلي ونقله إلى الأجيال القادمة. وليعيش التراث وينتشر ويستمر في جذب الناس، دأب العديد من المهتمين بالميدان والحرفيين خاصة منهم النساء الشابات اللواتي استفدن من التكوين الأكاديميأو المهني على إنعاش هذا الموروث واستخلاص العديد من الاشكال والانواع منه. فطورن من استخدام الزخارف والنقوش المعتمدة في تاحْرُويْتْ في أغراض منزلية أخرى وألبسة عصرية تواكب التطور وتجدد هذا الموروث الثقافي دون أن تفقده روحه.

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version