ليلى خزيمة
الحركة هي اللغة التي اتفقت عليها كل الكائنات الحية للتعبير عن موقف أو رأي أو لإيصال معلومة ما. فكل المخلوقات تتخاطب بالحركة من تحليق أو اهتزاز أو دوران أو تشابك أيد أو ارتطام. وهيوسائل تعبيرية ينطق بها الجسد حسب الخلفيات الطبيعية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. وعند الانسان، ترتبط الحركة بالرقص بشكل لصيق، فتجعل منه أداة للتعبير عن الفرح أو الحزن أو وسيلة ترهيب أوبعث للحماسة في الحرب. وهذه الأخيرة تعتمد حركات ورقصات فولكلورية استخدمتها الشعوب منذ القدم دفاعا عن نفسها وترهيبا للعدو وتشجيعا للمحاربين والمجاهدين وحماة الوطن. من بين هذه الحركات في المغرب، رقصات طائفة”تروا -ن- سيدي احماد أوموسى” أو ما يعرف عند كل المغاربة وحتى الأجانب بفرقة أولاد سيدي احماد أوموسى.
كان يا مكان تزروالت
اعتمادا على الموقع الجغرافي، تمتد زاوية الشيخ سيدي احماد أوموسى وسط مجال أخضر مكون في الأصل من بساتين الشيخ وبيته ومسجده، وكذا بعض المرافق التي أعدت لاستقبال الزوار. أضيفت إلى الزاوية بوفاة الشيخ أحمد أوموسى، مرافق جديدة، مثل قبة ضريح الشيخ، ويشير البعقيلي إلى وجود مقبرة هي أصل المقبرة الحالية، أما المدرسة فمن بناء الشيخ احماد أوموسى، كما جاء على لسان العلامة المختار السوسي.
وتقول الروايات الشفوية المحلية أن الشيخ احماد أوموسى الذي عاش ما بين 1460 و1563هو من أعطى للمنطقة اسم”تزروالت”.فقد كان رجل دين متصوف وذو مكانة عالية في زمانه. وحين انتقل إلى المنطقة، قال أنها ” تازْ” أي قريبة و “تَرْوا” أي ملائمة. فجُمعت الكلمتين الأمازيغيتين لتعطيا “تازروالت”. هذا النعت يدل على الأهمية الاقتصادية التي يكتسيها المكان، فهو قريب من منطقة انطلاق الشيخب”بومروان”، ويمكنه استقبال العديد من الوافدين، وقادر على توفير ما يتطلبه هؤلاء الوافدين الجدد للزاوية من مؤونة وموارد. أسس الشيخ احماد أوموسى زاويته بتازروالت لتعليم الناس مبادئ الدين وتلقينهم ركائز الأخلاق. لتتطور بعدها ويصبح لها واحدا من أكبر المواسم بجهة سوس ماسة درعة، يحتفى به كل سنة منذ القرن السادس عشر الميلادي وتنشط به التجارة بفضل موقع المنطقة الاستراتيجيللتبادل بين السودان الإفريقي وموكادور اتجاه المرافئ الأوروبية.
الطريقة على غير الطريقة
تشير المراجع إلى أن سيدي احماد أوموسى التازروالتي، هو صاحب طريقة الرماية التي حارب بها المستعمر البرتغالي في منطقة “رأس إيغير”. كان يربي ويدرب مريديه لتكون لديهم لياقة بدنية صلبة، لأغراض حربية. وتقوم التربية عند الشيخ على مبدأين أساسيين: أولهما، المجاهدة وثانيهما الإرشاد. ولا يقتصر الأمر على المريدين فحسب، بل تشمل المشورة باقي الشيوخ الذين يفدون إليه، ولعل أبرز ما كان الشيخ يحث عليه مريديه هو الاقتصاد وعدم الإفراط.
وقد اشتهرت الزاوية بالسعي من أجل التغلب على الفقر، خصوصا وأن من بين أهم عوامل انتقال الشيخ من منطقته الأصلية بومروان إلى تازروالت كان هو البحث عن مكان مزدهر اقتصاديا، يتيح تنفيذ برنامج محاربة الفقر، واستمرار الزاوية في القيام بدورها في الإطعام والإنفاق بعد تفشي المرض بمنطقة بومروان.
أما عن حركاتهم، فترتبط بفنون الحرب في الثّغور ضدّ البرتغاليينأي مع احتلال أكاديرمن طرف البرتغاليين في بداية القرن السّادس عشر. مما جعل الشيخ يتزعم حركة الجهاد بتدريب أتباعه على اللياقة والخفة واكتساب أجسام مرنة تستطيع تسلق الاسوار ومراوغة العدو، وسلك نهج فنون القتال لزعزعة عزيمة الخصم دفاعا عن النفس والبلاد. فكان الهدف من خطة الشيخ تكوين رماة مهرة قادرين على مواجهة كل المخاطر الداخلية والخارجية، وكذا أطماع الدول الأوربية المتنافسة على المغرب. الخطوة التي مكنت من إنشاء فرقة رما-ن- سيدي احماد أوموسى. وبالتالي، أصبحت الزاوية ذات نفوذ سياسي وقوة عسكرية وسلطة روحية يخشى الجميع بأسها.
وأصل لفظة “رما”هيالكلمة العربية الفصحى “الرماة”.وكانت حصص الرمايةتمر وسط جو احتفالي، إلا أن هذه الاحتفالية كان يغلب عليها الطابعالرمزي الديني بحكم أن هؤلاء الرماة هم فرقة طائفية لها شيخها الذي يحضر حصص التدريب وهو الشيخ علي بن ناصر، واحد من تلامذة الشيخ احماد أوموسى التزروالتي في مجال الرماية.
وفرقة “رما” هي مدرسة أشبه بجوقة فنية حربية، يقوم أفرادها بتقليد حركات المعارك لضمان النصر فيها. أفرادها يتحركون بسرعة، يؤدون حركات فنية غاية في الدقة والتعقيد، يصيحون ويصرخون ويتجاذبون ويتصادمون فيما بينهم لتحطيم معنويات الخصم. يتسلقون أكتاف بعضهم البعض ويكونون بأجسادهم صورا هندسية لقلعة عالية يظنها المتفرج لوحة فنية لكنها في الأصل تدريب وخطة وتنظيم حربي يتمرن عليها الرماة صغارا وكبارا قصد اللجوء إليها عندما تدعو الضرورة إلى تسلق جدار حصن أو قلعة من قلاع العدو.
وتقول بعض الكتب التاريخية أن شكلهذه التربية الصوفية التي انتهجها الشيخ احماد أوموسى، اهتمت بالرياضة وتربية الجسم على المرونة والخفّة واللّياقة البدنية لأسباب تعبدية، لأنه كان في الصغر يحب اللّعب واللهو مما جعل زهده وجهاده متميزا بهذه الظاهرة الفُرجوية.
الانتقال الى عالم الفرجة
يقول أنطون إشير في كتابه البهلوانيون المغاربة في السيركات الألمانية: «يعرفون عبر العالم باسم أولاد سيدي احماد أوموسى، وتجدهم ضمن برامج أهم السيركات العالمية، وفي المغرب يمكن مصادفة مجموعاتهم البهلوانية في الأسواق والساحات العمومية حيث يقدمون عروضهم مقابل إكراميات الجمهور.».
بتغير الظروف واستقرار الأوضاع، احتفظت القبائل السوسية بهذه الحركات الرياضية والفنية والبهلوانية كحركات وطقوس فرجوية خاصة بالاحتفال لا بالإغارة والحرب. فأصبحت تعرض بالأسواق والمواسم ومختلف المناسبات. متعة ومهارة جلبت لأولاد سيدي احماد اوموسى شهرة عالمية ومكنتهم من أداء عروضهم عبر العالم. فأول عرض موثق للمغاربة في سيرك ألماني كان سنة 1852 بفضل أرنست رينز الذي كان يلقب بملك السيرك، والذي جلب إلى ألمانيا فرقة من طائفة أولاد احماد أوموسى كان يرأسها آنذاك مصطفى بن محمد السوسي. وفي سنة 1862 اشتهرت بألمانيا فرقة مغربية من بناة الأهرامات البشرية والقفز سميت بفرقة الطوارق ـ عجائب الصحراء. وقد أشار اللغويان الألمانيان هانس شتوم وألبير سوسان، إلى أن هذه المجموعات كانت تتألف من 60 إلى 80 شخصا، وتقدم عروضها خاصة في الأقاليم الجنوبية للمغرب حيث كانوا يمزجون فيها بين الغناء والرقص والألعاب البهلوانية، وهي تدين بالولاء لشيخها سيدي احماد أوموسى. فكانوا يحرصون قبل الشروع في القفز وبناء الأهرامات البشرية على رفع الدعوات لأجل أن يتولى شيخهم حمايتهم ومدّهم ببركته. كما أن أجيال أولاد سيدي احماد أوموسى كانت تتوارث هذا الفن أبا عن جد، حيث يقوم الكبار بتعليم الصغار أسرار العمل منذ نعومة أظفارهم. ولذلك كانت الفرق تحمل أسماء العائلات.
أما عند انتقالهم إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، فقد تقلّص عدد أعضاء الفرقة لينحصر في 12أو15 فردا، وذلك لتيسير القيام بجولات من تنظيم وكالات الأسفار التي تتعاقد لصالحهم مع مسارح المنوعات والسيركات العالمية. وبهذه الطريقة وسّع أولاد سيدي حماد أوموسى من دائرة إشعاعهم وصارت لهم شهرتهم كبُناة للأهرام البشرية التي ترتفع إلى ما فوق ستة أمتار، وتشارك فيها كوكبة من البهلوانيين المحنّكين الذين يلبسون أزياء تقليدية ويمتازون بحسّ الانضباط والسلوك السلمي.
مع بداية القرن العشرين وإلى حدود سنة 1925 تم إحصاء ما يزيد عن 34 فرقة بهلوانية مغربية عاملة في مجال السيرك. كانت لهذه الفرق المغربية ملابس متميزة، هي عبارة عن «كندورات» وسراويل مغربية ملونة زاهية ومطرزة، مع حزام جلدي لربط «الكندورة»، فيما كان لباس أحد أعضاء الفرقة متميزا ب «شاشية» ملونة. هذا الأخير، يقوم بتعفير وجهه بالدقيق الأبيض بشكل يجعل منه مهرج الفريق. كانت هذه الملابس مثيرة للمتفرج لدرجة أن أغلب العقود المبرمة مع الفرق تشترط عليهم ارتداءها والاحتفاظ بها حتى خارج أوقات العروض، كنوع من الإشهار للسيرك المتعاقد معهم.
أعضاء الفرقة
التنظيم هو أساس النجاح. وفرق تروا -ن- سيدي حماد اوموسى لها نظامها الخاص:
المقدم: يترأس الفرقةويتولى تنظيم حفلاتها وعروضها الفنية والبهلوانية، وله دور كبير في نشر الأشعار والالحان والرقصات الأمازيغية. وعادة ما يكون “شيخ” الفرقة وحكيمها والمتحكم في تسييرها وتدبير مواردها، طاعنا في السن أو أكبرهم سنا، يتكلف بالتوجيه والوعظ والإرشاد والذكر. وهذا النفوذ الروحي يستمده من انتمائه للقطب احماد أوموسى. وبتنقله مع الفرقة في الأسواق والمواسم والأفراح يعرض المنتوج الفني للفرقة على الأهالي والأعيان مستعرضا شروط العرض ومدته وطقوس إنجازه من إقامة للوليمة والذبيحة أو ما يسمى ب”المعروف”.
أرقاص: من الأشخاص البارعين في التفاوض مع الأهالي أو مع ممثليهم “انفلاس”. له قدرة بلاغية وتواصلية لإقناع وجهاء القرية أو القبيلة ليوفروا كل المستلزمات لإنجاح موسم الاحتفال والترحيب الخاص بحفدة شيخ الزاوية. وعادة ما تحمل هذه الرسالة “لبريح” طلب الهبات لكل الزوار الذين يحجون إلى موسم الاحتفال لقضاء حاجات شتى، منها التبرك بزيارة الولي المأثور عنه الكرامات، وغالبا ما تقام حين يرسم “كور سيدي علي بن ناصر”، وهو مكان يرمز إلى ضريح “الشيخ” أو “الولي”. وفي هذا “الكور” يتم ذبح البقرة أو الثور أو ما يسمى ب “معروف رما”.
إد بورما: مجموعة من العناصر الشابة والفتية ذات موهبة خاصة في الحركات الراقصة وفي الألعاب البهلوانية، واليوم حتى في ترويض القردة والكلاب.يرسمون لوحات فنية أمام الجمهور على أرض رملية منبسطة، ينعتون ب “تربوت نايت رما”أو “تروا – ن- سيدي حماد اوموسى”. ومن أهم الألعاب البهلوانية التي يقدمونها، تشكيل هيكل هرمي من الراقصين، القفز على الحواجز، الوقوف المتوازن على يد واحدة وغيرها. وكل حركة من هذه الحركات تكون مصحوبة بنغمات وإيقاعات ملائمة للحركة الرياضية. كما أن الفرقة تقدم للجمهور الحاضر في “اسايس”عروضا من الرقص المحلي أو من أحواش القبائل المجاورة حتى يشاركهم الجمهور الاحتفال الجماعي.
المجموعة الموسيقية: تتألف من ثلاثة أفراد أو أكثر يجيدون الإخراج الموسيقي لكل العروض الفنية والبهلوانية والتنشيطية التي تعرض أمام الجمهور الحاضر والمتفاعل. ومن آلات الفرقة المعتمدة “تلونت” أي الطارة و”العواد” أي الناي والناقوس ويقودهم “مقدم” الفرقة.
بَقْشيش أو شْموتيت:هو المهرج أو الأبله. شخص تعتمد عليه الفرقة لجذب الجمهور وخصوصا الأطفال والنساء. يتقن تقليد الأشخاص (الشيخ، المقدم، الفقيه، القاضي، المرأة، العجوز، الأجنبي…)، كما يتقن تقليد أصوات الحيوانات والطبيعة.
من ضرورة دينية وخطة حربية، انتقلت عروض أولاد سيدي احماد اوموسىإلى موسم سنوي منذ قرون، ويصبح بذلك من أقدم وأكبر المواسم في المغرب. موسم يستقطب أعدادا غفيرة من الزوار والوفود من مختلف القبائل الأمازيغية، والفقهاء وطلبة العلم من مختلف المدارس العتيقة بمنطقة سوس خاصة والمغرب والعالم عامة.