18, أكتوبر 2024

السي الطاهر

 

صرخ المدير وهو يضع نظارتيه على المكتب:

– عليك أن تتكلّف بهذه الأمور بنفسك.. لماذا أنت هنا؟ هل تريد أن أرسلك إلى منزلك من جديد؟

طأطأ “الطاهر” رأسه في شبه ذُل، وربما كان يصطنع ذلك فحسب.. من يدري؟ إنه “الطاهر” على كلّ حال.. ولا أحد يوافق على طهارته البتّة.. فعندما اشتغل بالمستشفى أوّل يوم كان يستقبل المرضى والأطباء بالابتسامة الوديعة نفسها.. يسند العجزة ويدفع بهم الكراسي المتحركة.. لكن، وما إن طاف المستشفى ردهة ردهة، وخَبِر أسرار المكاتب كلّها، حتى صارت يده تسبقه إلى جيوب المرضى.. وبعدما كان يدفع الكراسي المتحركة بالمرضى إلى مكاتب الأطباء، صار يدفهعا نحو السّويقة لبيعها مع الحقن والأدوات الطبية.. أما الأطبّاء، فلم يعد بإمكانهم مباشرة عملهم إلا بإذنه.. هُز “الطاهر” حُط الطاهر.. الطاهر مرّ من هنا.. سيأتي الطاهر بعد قليل.. الطاهر في مزاج سيئ.. الطاهر من يملك المفاتيح.. وهو من يعرف أماكن الملفات بأنواعها.. الطاهر من يقرأ نتائج التحاليل والمنحنيات وصور الأشعة.. وكم مرّة سفّه وصفات الأطباء مستعيضا عنها بأدوية أخرى لا يحسن نطقها، فقط لأن الطبيب تأخر عن دفع الجزية في الوقت المحدد.. لكن من يعلّق أو يعقّب على كلامه؟ إنه الطاهر وكفى.. يحيط الطبيبات عِلما بأسماء الحانات التي يتردد عليها أزواجهن.. ويُطلع الأطباء على أسماء الزملاء الذين تجرؤوا على مضاحكة زوجاتهم خلال فترات الحراسة.. كل شيء بيده وهو الدرك الأسفل من السلم، لكنّه استطاع بدهائه قلب السلم رأسا على عقب.. حتى أمّن لنفسه سكنا بضواحي المدينة، وهو الآن يتطلع إلى زيادة طابق في أسرع وقت، قبل أن يحين موعد زفاف ابنه البكر.. وها هو مدير المستشفى يصيح به مرّة أخرى:

–          لستُ متفرغا لفضّ المعارك بين الأطباء وأهالي المرضى.. أتسمعُني؟ إنني لا أجد الوقت حتى لأحكّ فيه رأسي!

وفي اللحظة نفسها، انتقل بصر الطاهر إلى رأس المدير الصلعاء، واستغرب كيف يحكّ سعادته رأسه، سيما إذا نسي تقليم أظافره.. وما إن همّ بإلقاء نظرة على أظافر المدير حتى جاءه صوت الأخير ينهره مجددا:

–          مفهوم؟

وبدا أنه أغفل كلاما كثيرا قاله المدير قبل ذلك بسبب سهوه.. لكن لا يهم، فالأمر لن يعدو يكون مهمة أخرى من المهام الرتيبة التي دأب على تنفيذها بطرقه الخاصة ودون إذن من أحد..

غمغم الطاهر وقد ارتفعت أذناه مثل سلوقي متمرّس:

–          حاضر السيد المدير!

وحين كان يخطو خارج المكتب، استوقفته في الردهة امرأة حامل يعلو وجهها الشحوب..

–          السي الطاهر..

انتزع الورقة من يدها قبل أن تتم كلامها، وراح يتفحص سطورها كما لو كان يجيد القراءة، وهو يفرك ما بين فخديه في قرف..

–          لقد أخطأت الموعد مرة أخرى.. لا أعرف ما أقول.. هل تظنون أن المستشفى زريبة؟

قالت المرأة بنبرة ترجٍّ:

–          لا يا السي الطاهر، أخبرني الدكتور أن موعد الفحص يوم الثلاثاء..

دسّ الورقة في يدها في غضب، ثم ابتعد صائحا:

–          اذهبي عند الدكتور إذن لتخبريه بذلك!

تبعته المرأة متحاملة على نفسها وهي تصيح به متوسلة:

–          الله يهديك يا السي الطاهر..

وما إن لحقت به حتّى دسّت ورقة نقدية في يده، ليلتفت وقد أخذت أساريره في الانفراج.. همس وقد بدا أنه عاد إلى هدوئه شيئا فشيئا:

– والله ليس طمعا مني، نحن نشتغل في سبيل الله.. لولا رجاؤنا في تواب عند الله لغيّرت هذا المهنة التي أتعبتني منذ سنين.. لكن كما ترين، نشتغل مع المساكين مثلنا..

ثم أشار إليها بملامحه لتتبعه إلى قسم الولادات..

وفي الطريق، كان الطاهر مهموما، فالبناء يتطلب أموالا طائلة، والمستشفى لا يرتاده غير الفقراء البائسين، بعدما تحوّل الأثرياء إلى العيادات الكُبرى.. لكن، ما دامت رحمة الله واسعة، وما دامت أفواج القرويين لا تنقطع عن هذا المكان.. فلا بدّ أن يأتي الفرج والمزيد من الرزق..

 

 

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version