18, أكتوبر 2024

عبد الرحيم الخصار

“إنه السفر..يتركك صامتاً، عاجزا عن الكلام. ثم يحوِّلك إلى قصَّاص”.

ابن بطوطة

 

      أحيانا حين تتقدم بنا الطريق إلى نهاياتها سواء القريبة أو البعيدة تستوي أمامنا الأراضي العالية بالمنخفضات، لا شيء يغري أكثر من شيء آخر. ما نحتاجه في الغالب هو تلك السكينة، هو المرور من هذه المعابر المتشعبة بسلام، لذلك فالمشاعر التي تستبد بي هي ذاتها سواء كنتُ في قرية أو في مدينة، داخل البلاد أو خارجها، على كثيب من الرمل في صحراء أو على مشارف المحيط.

تبدو هذه الأحاسيس كأعشاب تنمو في الداخل وتستمد الضوء والهواء من الخارج، وحين يكون هذا الخارج معتما أو خانقا فهي تعود في الغالب إلى ما ادخرته جذورها، إنها أعشاب تستطيع أن تتماهى مع ما حولها كي تحافظ على نضارتها. صحيح أن للمكان أثره فينا، لكننا أحيانا نحن من يمنح الحياة لهذا المكان، لذلك روضتُ هذه الأعشاب منذ سنين على ألا تتأثر كثيرا بتقلبات الطقس في السماء الخارجية، موكولٌ لها هي وحدها فحسب في هذا التردد الدائم للخريف أن تبحث عن ربيعها.

هذه هي المشاعر التي كانت تعتمل بداخلي حين كنت في بيتي، وهي ذاتها التي راودتني حين وصلت إلى فرجينيا، ثمة فترة قصيرة تشبه لحظة تشويش عابرة، وهي ضرورة ملازمة في الغالب لتلك المسافة الفاصلة بين عتبة البيت وعتبة المطار الذي تخرج منه في البلاد الأخرى.

بعد ثماني ساعات في سماء المحيط وصلنا إلى مطار جون كينيدي بنيويورك نجر الحقائب خلفنا متعجلين كي لا تفلت منا طائرة ثانية إلى شارلوتزفيل، وأخرى بعدها إلى لانشبورغ. كان يوما طويلا لكنه مليء بالكلمات والصور، وجدنا شابة سمراء اسمها كورا تحمل لافتة باسمينا، قالت ثلاث كلمات دون مصافحة أو تحية: “أنت وأنت؟ لنذهب”، أعقبتها ابتسامة خفيفة. بعد أقل من نصف ساعة كنا في فندق “برير إن” نتحدث أنا وصديقي عزيز عما يمكن أن يفعله المرء هنا خلال هذه الأسابيع المقبلة. وفي الصباح حملنا كأسي شاي، وخرجنا نكتشف المباني التي تجعل من هذه الغابة مكانا يمكن أن يدب فيه الآدميون. جامعة سويت برير المخصصة للفتيات تحتل مساحة هائلة في هذا المرتفع، وهذا المنزل الخشبي الخالي على حافة البحيرة يبدو كما لو أنه جزء من لوحة رسمها رسام، سأكتشف بالتدريج أن في فرجينيا لوحات عديدة وقطعا فنية لا حصر لها أبدعها النحات الأعظم.

كنا نتمشى على الطريق التي تربط الفندق بالجامعة حين وصل كريغ بسيارته ليقلنا إلى الإقامة، رحبت بنا شيلا وأعطتنا مفاتيح الغرف والاستوديوهات، وتحدثت إلينا بمزيج من الفرنسية والانجليزية، وبأناقة واضحة وابتسامة لا تفارق شفتيها. هذه الردهة تفضي إلى الغرف، وفي الجهة المقابلة صالون كبير بثلاث جلسات من الأرائك متناغمة اللون، وعلى طول الجدار خزانة كبيرة، وعلى طرفها الآخر باب لخزانة أخرى تتوسطها طاولة بيضاء للقراءة محفوفة برفوف من الكتب وشرائط الموسيقى، وفي زاوية من الصالون يجثو البيانو الذي كانت تعزف عليه فتاتان أمريكيتان من حين لآخر.

الغرفة المخصصة للكتابة دافئة، وهي تجلب النوم بالنسبة لي أكثر من أي شيء آخر. أجلس إلى المكتب اللصيق بالنافذة، أضع أوراقا بيضاء يبدو لي أنها ستبقى فارغة، لا أجد ما أكتبه، لذلك أمعن النظر عبر الزجاج في فرس وحصان يعبران كعاشقين ويرتعان تحت هذه الأشجار العالية، وثمة أيضا سناجب وديعة تمرق من حين لآخر، وطيور حمراء لا أسمع تغريدها، لكنني أرنو إليها وهي تقفز بخفة من غصن إلى غصن. تظهر سيدة في الخمسين بملابس رياضية، وبعد قليل يمر عجوز على دراجة وهو يدير ببطء دواليبها، فيما شابة من ألمانيا تتجه نحو المقصف لإعداد مشروب ساخن.

ما الذي بوسعي أن أكتبه هنا؟ لاشيء، لذلك أكتفي بالنظر. قبل أسابيع أرسلت ديوانا جديدا للنشر، وبالتالي لا أفكر في كتابة الشعر الآن، ثم إني لم أعتد على كتابته وسط الحدائق والغابات تحت هذا الكم الهائل من الأشجار، على ضفة نهر أو على كرسي رجراج في غرفة فاخرة. تعودت على كتابة الشعر فقط في بيتي وأحيانا في القطارات، وقبل أن يصير لي بيت كنت أكتب في الغرف المستأجرة، غالبا ما تكون الحجرة في السطح أو في الطابق الأرضي بأثاث أقل: سرير لشخص واحد، طاولة للأكل و للكتابة أيضا، ودولاب صغير من قصب أو من خشب قديم.

أنقل نظري من النافذة إلى الباب وإلى الجارور القريب منه، إلى أريكة رمادية في زاوية الغرفة، وإلى رفين من الكتب، أحدق أيضا في السقف ربما تسقط فكرة. يصل صديقي ويصل تشارلز بقده الفارع ليحكي عن الاستطلاعات والتقارير التي أعدها للنيويورك تايمز ولناشيونال جيوغرافي عن تسونامي، يفتح الحاسوب فتتلاحق عشرات الصور لهذا الخراب الهائل الذي حل باليابان، يحكي أيضا عن الكسور التي أصابته في ظهره وعنقه جراء حادثة سببُها تسونامي. يفتح ألبوما آخر لرحلة في الصحراء قام بها رفقة صديقته الجميلة ذات الملامح اللاتينية، تختلط الصور أمامنا مثلما يختلط المبهر والمبهج في حياتنا بالصادم والمقلق.

الطريق من أمهرست إلى واشنطن دي سي هي عبور مدهش لغابة من الأشجار المتراصة والمتكاثفة، وعلى جنبات الطريق يظهر من حين لآخر منزل من الآجر الأحمر والخشب محاطا بسور من النباتات القصيرة أو من أغصان الشجر هادئا مثل عزف منفرد عند قدم المرتفع، وفي المنعرجات يفاجئك سنجاب أو غزالة نافرة. كان نشازا في فرجينيا بالنسبة لي أن أرى على الطريق حيوانا وقد دهسته سيارة أو شاحنة متعجلة، تتكرر هذه الصور على طول الطريق تماما مثلما تتكرر في طرقاتنا صور أشلاء القطط والكلاب التي سقطت بسبب حوادث سير لا تهم أحدا على ما يبدو، ففي بلادي قد يتوقف السائق أحيانا ليطمئن على سيارته بينما لا يأبه لذلك الحيوان المسكين الذي التصقت أمعاؤه بالأرض.

ليل واشنطن هادئ كأن لا أحد فيها، وربما هذه السكينة سببها هو وصولنا في ليلة خريف وسط الأسبوع. لا زالت أغاني الشاب خالد تتردد بداخلي، فقد سمعنا الكثير منها طوال أربع ساعات من الطريق. يركز الشاب خالد على التوليفات الموسيقية المذهلة ولا يولي الأهمية ذاتها للكلمات، فهو عادة ما يعيد توزيع أغان سابقة من التراث الجزائري، أو يكتفي بجمل قصيرة تنسجم مع اللحن أكثر من انسجامها مع بعضها.

أستعيد مع أغنيته الجميلة “طريق الليسي” تلك الأيام التي كنتُ خلالها أجلس في مقهى على الطريق المفضية إلى الليسي منتظرا فتاة أحببتها، كنت حينها في الواحدة والعشرين طالبا بالجامعة وكانت هي في عامها السابع عشر، لطالما جلستُ هناك واضعا أمامي كأس شاي أو عصير وقطعة حلوى، وغالبا ما كنت أحمل معي مجلة الكرمل أو نزوى التي كانت أعدادها الأولى تصدر تلك السنة. لم تكن الفتاة تأتي لتشرب معي عصير الليمون، فأمر كهذا لم يكن متاحا في بلدتنا، لكنني على الأقل كنت أحس بنشوة خاصة حين تمر أمامي بوزرتها البيضاء وتحييني بابتسامة وامضة، أو بحركة خفيفة من يدٍ أرعشها الحب.

أستعيد تلك الأيام دفعة واحدة مثل هبة مباغتة تجعلك تسكر بدل أن تصحو. في الليل كنت أقضي ساعات من المشي ذهابا وإيابا رفقة صديقي سعيد لنتحدث على طول الطريق المتجهة نحو الشرق و المحفوفة بالأوكالبتوس عن اثنين لا ثالث لهما: الحب والشعر. أما همومنا الصغيرة المرتبطة في الغالب بالمستقبل المجهول وبالجيوب الفارغة فكنا عادةً ما نطرحها في سلة المهملات.

كان سعيد حالما كبيرا، غير أن هذه الحياة الصلبة ستحد من أحلامه الرهيفة، سميناه “الولد القمري” كناية عن غربته في أرضنا، وسميناه أحيانا بأبطال روايات الحب. كان يحكي لي عن فتاته في الجامعة وكنت أحكي له عن فتاة الليسي. السيارة تتقدم باتجاه مداخل واشنطن، ومع انحدار موسيقى الشاب خالد بدأت تنحدر أيضا موسيقى الذكريات.

 

“هذا هو شارع جورج تاون” يقول مصطفى صديقي الذي يقيم بالعاصمة منذ سنوات، تجولنا قليلا، ركنّا السيارة في شارع خلفي واتجهنا إلى الميناء، لم يكن البرد يسمح لنا بأن نقضي وقتا أطول هناك.

في الصباح زرنا الأمكنة التي يزورها معظم القادمين إلى واشنطن: المتاحف بالأساس. حتى المقرات الحكومية والسياسية في أمريكا يُنظر إليها في الغالب كمعالم سياحية، كالبيت الأبيض والكونغرس. وفي معظم المتاحف كانت صور وتماثيل جورج واشنطن وأبراهام لنكولن تملأ كل مكان. في “المتحف الوطني للتاريخ الأمريكي” توقفت عند المعرض الدائم المخصص للحرب: الذخيرة، الأسلحة القديمة، ملابس الجنود وأكياس الرمل التي يختفي خلفها المحاربون، وثمة أيضا سيارة حرب قديمة معلقة في سقف المتحف وعشرات الصور والفيديوهات والمجسمات والبورتريهات المخصصة لقادة المعارك خلال القرون الأخيرة. تريد أمريكا أن تؤرخ للحرب، تريد أن تؤرخ تحديدا لانتصاراتها، لم أنتبه إن كان هناك شيء في هذا المتحف يؤرخ أيضا لهزائمها.

في قلب واشنطن، وفي الحي الصيني تحديدا، تشعر أنك فعلا في آسيا، هذا المدخل الأصفر المقوس والعالي جعلني أحس كما لو أنني أمام باب معبد بوذي أو باب قصر في الصين. توقفت قليلا أمام مجموعة من الأفراد السود يرتدون ملابس لمحاربين قدامى، يمسك أحدهم المايكروفون ويدعي أن الأنبياء جميعهم سود، وأن الإله أيضا أسود، ويمرر المايكروفون لصديقه كي يتهكم قليلا على ما جاء في الإنجيل. وعلى المنصة التي يعتلونها لافتاتٌ وقصاصات من الجرائد تنتقد بشدة الإسلامَ والمسيحية أيضا. فهمت أن الأمر يتعلق بطائفة يهودية متطرفة، تركتهم يصرخون ودخلت رفقة صديقي إلى محل صيني لاقتناء تذكارات عن واشنطن يسري فيها هواء الشرق الأقصى بعيدا عن العنف والصراخ والتطرف.

في مطعم بجورج تاون كان واحد من السود ينظر إليّ نظرة لا تبعث إطلاقا على الراحة، فجأة بدأ يرفع صوته بالتدريج موجها إلي جملا طويلة من التوبيخ والعتاب، ومع تعاقب كلماته أدركت أنه مختل. في الآن ذاته كان رجل آخر يطوف حولنا ثم طفق يقلد صوت ثور. يا إلهي! الجنون يلاحقني هنا أيضا، ففي بلدتي كانت تصل من حين لآخر أسراب من المختلين الذين يجلبونهم في الغالب من المدن السياحية القريبة ويطلقونهم في محطة الحافلات، يتسكعون بالليل والنهار، يمدون أيديهم للعابرين وينامون في العراء. لم يكونوا ليؤذوا أحدا، لكنني تساءلت مع نفسي مرارا لماذا يحب هذا المغرب أن يبدو وجهه جميلا فقط للآخرين القادمين لأيام من أوربا وأمريكا؟ لماذا لا تجمّل هاته البلاد وجهها لنا نحن المقيمين فيها للأبد؟

الإقامة الأدبية التي سأقضي فيها بعض الأسابيع تضم وجوها من جنسيات مختلفة، لكن الفن هو قاسمها المشترك، كل واحد هنا يؤمن بما يفعله مهما بدا صغيرا وغير ذي قيمة للآخرين، لكن الآخرين هنا يختلفون عن الآخرين الذين أعرفهم أو عرفتهم في حياتي. الآخرون هنا يحتفون بكل شيء، كل ما تصنعه يداك هو ذو قيمة، عش كما تشاء واصنع ما تشاء، فقط لا تؤذ الناس. كل شيء جميلٍ سيرافقه التصفيق ويعقبه سرب من كلمات الإعجاب.

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version