18, أكتوبر 2024

ليلى خزيمة

أول جولات رمضان الثقافية، ستأخذنا إلى مدينة مكناس. مدينة شاسعة المساحة ومتعددة المباني التاريخية والاثرية. أحاطها المولى إسماعيل بأسوار تمتد على طول 40 كلم، تتخللها مجموعة من الأبواب العمرانية الضخمة والأبراج. بيوتها قصور تروي عظمة المعمار المغربي التقليدي. كما أنها كانت دائما حاضنة للموروث الموسيقي المغربي المتنوع. فهي من أول المدن المغربية التي عرفت تشكيل فرق موسيقية بأسماء لامعة وطنيا. كما أن الموسيقى هي واحد من المكونات الأساسية لفن العيش لساكنة مكناس. كل هذه المعطيات ومعطيات أخرى، جعلت المدينة تحتضن بين جدران أحد أعرق مبانيها المسماة بدار الجامعي المتحف الوطني للموسيقى.

هذا المبنى التاريخي الجميل الذييقع على حدود ساحة لهديم والمدينة القديمة، أصبح القلب النابض للمدينة الإسماعيلية وفسحة للاستكشاف والاطلاع على الحضارة وعلى التاريخ المجيد للمغرب. فما قصة هذا التراث المعماري اللامادي الذي يخبئ تحت طياته عبق التاريخ وإبداع الحرفيين المهرة ومن بَعْدُ ثروة موسيقية متفردة وساهم في تحريك عجلة الثقافة والسياحة بمدينة مكناس؟

أصل الحكاية

متحف دار الجامعي، هو تلك البناية الفخمة التي شيدت في القرن التاسع عشر وبالضبط سنة 1882 كما تشيرالزخرفة الجبصية الموجودة في قبة الاستقبال. تم التشييد بطلب من الوزيرالأعظم للسلطان مولاي الحسن الأول، مختار بن العربي الجامعي. هذا الأخير، لم يتمكن من الاستمتاع بهذه التحفة المعمارية والفنية التي استغرق بناؤها مدة سنتين، بسبب مرض ألم به واضطره للسفر إلى مدين فاس للعلاج. في حين سكنها لفترة الحاج المعطي الجامعي الذي تولى الصدارة بعد أخيه محمد بن العربي الجامعي. وقد نُقلت ملكية القصر إلى الأملاك المخزنية بضم القائد المخزني المدني الكلاوي المزواري له إلى ممتلكاته بعد موت السلطان دون أن يسكنه بدوره. جرى تحويل القصر إلى مستشفى عسكريخصوصافي الجزء الأوسط منه، وأطلق عليه اسم “مستشفى لويس”، قبل أن تتم تهيئته، عام 1926، لكي يُصبح متحفا للصناعة والفنون التقليدية لمدينة مكناس. أما على مستوى الجانب الشمالي للقصر، فقد كانتهنالك ولمدة قصيرة المحكمة العسكرية. هذا الفضاء، أصبح بعدها المجال لخدمة الفنون الأصلية. وفي سنة 1916 تم تخصيص جزء من مبنى دار الجامعي لخدمة الفنون الجميلة والباقي للخدمات الإدارية المختلفة. أما سنة 1920، فقد تم تخصيص المبنى بأكمله للمفتشية الإقليمية للفنون الجميلة، لتُحوله إلى متحف ومعرض للحرف اليدوية تحت اسم “متحف الفنون الأهلية”.كما تم إنشاء مدرسة للتطريز في المباني المجاورة للمتحف.وبعد استقلال المغرب،وفي سنة 1958 تم فصل الحرف اليدوية بشكل نهائي عن المتحف وانفصلت المدرسة عن المبنى، وأصبح المتحف مستقلا بالمبنى التاريخي لوحده. فكانت تلك النواة الأولى للتحولات التي عرفها المتحف الذي تم تصنيف مبناه كأثر تاريخي وفقا لظهير 19-11-1920. ليتم إثراؤه بمجموعات مميزة من المعروضات من خلال عمليات الاقتناء التي قامت بها الدولة.

ازدهر اشعاع متحف دار الجامعي عندما أوكلته وزارة الثقافة سنة 2014 بموجب القانون إلى مؤسسة المتاحف الوطنية، ليبدأ ترميم المبنى التاريخي سنة 2019. عملية قام بتنفيذها مرممون وحرفيون مهرة جُبلوا على الاتقان واحترام الموروث المعماري والثقافي. فحافظوا على المظهر الأصلي والهندسة المعمارية للقصر بما في ذلك الخشب والجبص والزليج، وكذا الحديقة الأندلسية المهيبة.

الهندسة المعمارية لمتحف قصر الجامعي

تَتْبع هندسة قصر الجامعي أسلوب المساكن الثرية التي كانت سائدة منذ القرن الرابع عشر. فيستقبل الزائر مدخلا رئيسيا ببوابة ضخمة تعلوها كنة بارزة، ملبسة بقرميد أخضر. يعكس هذا حداثة توزيع المبنى وبنيته المتناسقة والمرهفة التي صبغت إفريزاتها الخشبية باللونين الأزرق والقرمزي. كما يوجد بالمبنى صحن مركزي محاط بأروقة، وحجرات جد فسيحة وقليلة الارتفاع،أبوابها عالية للغاية وعريضة جدا، ومكونة بشكل عام من دفتين.يتألف متحف دار الجامعي من مستويين. الطابق السفلي والطابق العلوي. يتكون الطابق السفلي من فناء واسع وقاعات ومطبخ.

كما تتضمن دار الجامعي غرفا مزينة تزيينا غنيا، والعديد من الملحقات والبنايات التابعة لها. كما يتميز القصر الذي كان يسمح باستقبال كل أعيان المدينة بفخامة بساتينه الداخلية، وصهاريجه الجميلة على شكل نجمة، ومجراه المائي المزخرف بالزليج.

يقدم المتحف لزواره سواء منهم المغاربة أوالأجانب ما يزخر به المغرب من فنون وإبداعات للصناعة التقليدية. فيعرض في قاعاتهالفسيحة والمزينة بأجمل النقوش والفسيفساء مختلف الحرف التقليدية التي تميز مدينة مكناس.

قلب وقالب

يقدم متحف دار الجامعي معرضا دائما للفنون والحرف التقليدية بمكناس. يهدف بالأساس هذا التصور الجديد إلى إبراز غنى وتنوع المجموعات المتحفية التي تزخر بها هذه المؤسسة، اعتمادا على تحديد وظيفة كل قاعة، وبارتباط وثيق بالهوية السوسيو- ثقافية لساكنة المدينة. تعرض في المتحف قطع أثرية تعود لحقب زمنية مختلفة وتحظى بأهمية كبيرة مما يسمح للزائربتمضية وقت ممتع في مشاهدتها واستكشاف العصر الذي تنتمي إليه كل قطعة، حيث يوجد قطع أثرية تعود لعصر التاريخ القديم. كما خُصّص حيز من مساحة متحف دار الجامعي لعرض التراث العسكري للبلد على شكل مجموعات تحوي أسلحة مُختلفة.

من ناحية أخرى، توجد في متحف دار الجامعي قاعة مخصصة للأشغال اليدوية التي خلفتها الشعوب السابقة ومن ضمنها، الأواني الفخارية. يعرض الطابق السفلي للمتحف، مختلف الحرف التقليدية التي تميز مدينة مكناس من فن الخشب بنوعيه المنقوش والمصبوغ، خشب الهندسة المعمارية، وخشب الأثاث المنزلي. وبعض النماذج الغنية من الطرز المكناسي، وبعض القطع النادرة من اللباس التقليدي مثل «القفطان» المغربي وبعض الأحزمة الحريرية النفيسة، والحلي الفضية والذهبية، ونماذج من خزف مكناس، وبعض الأواني النحاسية، وكذا الحدادة التقليدية، وبعض التحف المصنوعة وفق التقنية الدمشقية.

ويعرض في الطابق العلوي للمتحف نموذج لقاعة استقبال بأثاث تقليدي على النسق المتبع خلال أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وكذا مخطوطات يعود أقدمها إلى القرن السابع عشر. كما يضم المتحف مجموعة رائعة من المجوهرات والأزياء التقليدية والسجاد النادر ومجموعات أخرى متنوعة وجميلة من الحرف اليدوية المعروضة في هذه المعلمة التاريخية.

سنة 2017، تم إغلاق متحف دار الجامعي لترميم بعض الأجزاء التي تعرضت للتلف بفعل الزمن. ليتم افتتاحه بحلة جديدة سنة 2020 تحت اسم المتحف الوطني للموسيقى دار الجامعي.يقول مهدي قطبيرئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف عند إعادة افتتاح المتحف: «متحف دار الجامعي هو مفخرة وطنية. فهو مزود بأحسن المعدات العالمية. واليوم نعيد إحياء تاريخ هذه الموسيقى التي تربينا على نغماتها منذ الصغر. وهو الآن أكثر جمالا. أقول دائما أنني مبتهج، لكن اليوم أنا أكثر فرحا لأنني أتجول عبر الجمال. جمال ليس فقط من خلال الآلات الموسيقية، لكن من خلال الصوت أيضا. أصبحنا نرى ونسمع الجمال. وهذا بفضل التعليمات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس الذي جعل من الثقافة واحدة من أساسيات الحياة الاجتماعية.  وكذلك هذا المتحف هو ولادة جديدة لمدينة مكناس الغنية بتراثها وتاريخها.»

يعرض المتحف في حلته الجديدة، التاريخ الموسيقي للمغرب خصوصا موسيقى الآلات والانشاد التي تعد من أهم المكونات الأساسية للهوية والذاكرة الجماعية المغربية. فسينوغرافيا المتحف الجديدة تهدف إلى تثمين هذه الأشكال التعبيرية من خلال إبراز غناها وتنوعها وخصوصيتها الثقافية. من الناحية التخطيطية، يسود نوعان موسيقيان: الموسيقى القروية، وهي أسلوب موسيقي أصيل يتسم بالإيقاع، وقد تطور بشكل خاص في البوادي. تختلف هذه الموسيقى حسب المنطقة المعنية، إذ يرافق المغنون أنفسهم بالآلات الموسيقية التقليدية، مثل البندير، والأغاني تكون دائما مصحوبة بالرقص، حيث يقوم الرجال والنساء برقصات ذات إيماءات معينة.

النوع الثاني هو الموسيقى الحضرية، المستوحاة من التراث الأندلسي. أدخلت إلى المغرب من قبل العرب الذين طردوا من إسبانيا في القرن السادس عشر. وهناك الموسيقى الشعبية التي يتم عزفها بشكل خاص خلال المناسبات العائلية، ناهيك عن المجموعات التي تهتم بالتربية الروحية وأشهرها عيساوة وكناوة.

كما تستوقف الزائر منذ الوهلة الأولى مجموعة التيمات حول الآلات والتسجيلات الموسيقية التي تفصح عن دور الموسيقى في الحياة والبصمة التي رسمتها الهجرة واكتشاف التصنيف الموسيقي الذي اعتمده الساهرون على المتحف من الآلات النفخية الى الآلات الوترية الى الآلات الايقاعية.ويشمل المتحف كذلك ورشات لصناعة الآلات الموسيقية.تقول صفاء عقيلي المحافظ الثانية للمتحف الوطني للموسيقى دار الجامعي: «متحف الجامعي هو مبنى تاريخي وقصر يعود تاريخ بنائه الى 1882 م. وقد تم إعادة تهييئ المبنى ليصبح متحفا خاصا بالموسيقى. هو الآن فسحة للزوار ليكتشفوا ويستمتعوا بغنى تراثنا الموسيقي العريق من خلال المعرض الدائم والمعارض المؤقتة. يحتوي المتحف على مجموعة من الآلات تفوق 400 قطعة معروضة حسب سينوغرافية وتقنية حديثة جدا.»

أصبح المتحف قبلة لكل زائر للمدينة الإسماعيلية. فكما قال مهدي قطبي في حفل إعادة افتتاحه: «لكي تزور مكناس من الآن، ليس عليك سوى أن تتوجه صوب هذا المتحف لتسافر بك العروض إلى ما فوق السحاب. أما بالنسبة لتلاميذ المدرسة الذين حضروا اليوم أردنا أن يكون المتحف وجهة الأجيال القادمة، التي ستفتخر بتاريخها المغربي العتيق. لهذا شرفنا اليوم وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، بتوقيع هذه الشراكة.»فبموجب هذه الاتفاقية ستصبح متاحف المغرب مفتوحة بالمجان لكل تلاميذ المؤسسات التعليمية، وهي مناسبة لجعل التلاميذ منفتحين على الفنون وعلى التراث والحضارة المغربية عبر التاريخ، وتشجيع الابداع، والمساهمة في رفع جودة التعلم. الشيء الذي أكده وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة السيد شكيب بنموسى الذي قال أن متحف دار الجامعي بمكناس يعتبر الوحيد من نوعه في المغرب مخصص للموسيقي. وهو تجسيد للثروة التاريخية والفنية التي يمكن تقديمها لجميع المواطنين وتلاميذ المدارس العمومية والخصوصية على حد سواء. كما سيساعد على انفتاح التلاميذ على هذا التراث اللامادي الذي نفتخر به جميعا.

ويعتبر هذا المتحف نافذة تنقُل الزائرين لاستكشاف تاريخنا المجيد الحافل بالأحداث والبطولات عبر نغماتالموسيقى، سواء منها الموسيقى الصوفية أو الكناوية أو موسيقى الحمادشة أو العيساوية أو الحسانية أو الامازيغيةأو الموسيقى اليهودية المغربية وصولا إلى الموسيقى الحديثة والمعاصرة.كما يضم متحف دار الجامعي بهجة مشاهدة ألبسة الفرق الموسيقية الشعبية. فالزمن في هذا التراث المعماري والفني الذي أسندت إليه مهمةالمتحف الوطني للموسيقى الوطني دار الجامعي، لا يقتصر فقط على روايات الماضي، بل هو صورة عصرية تحكي قصص التطور التكنولوجي والابداعي بصيغة تفاعلية تعتمد مختلف اللغات العالمية وعن طريق المسطحات الإليكترونية السمعية وكتابات حول الموسيقى المغربية، تجاور التعريفات المختصرة المقترحة على الزوار باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية وأفلام وثائقية وشروحات لتعرف الزائر على الموسيقى المعروضة ومسارات مؤدّيها، ودلالاتها الثقافية. كما يعرضخريطة تفاعلية تدعو إلى موقَعة ما تعرّف عليه الزائر جغرافيا، من أقصى شمال المغرب إلى حدوده مع موريتانيا.

 

 

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version