19, أكتوبر 2024

عن دار فضاءات بعمان بالأردن، صدر للشاعر والكاتب صلاح بوسريف كتاب جديد في جزئين بعنوان «مُناكفة الأسلاف [السُّنَن والبِدَع]» الجزء الأول بعنوان [السُنَن]، والجزء الثاني بعنوان [البِدَع].

يدخل الكتاب في سياق المشروع النقديّ ـ النظري الذي هو، كما يرى بوسريف، تعبير عن الأفق الشِّعْرِيّ لحداثة الكتابة في الشِّعر العربي المُعاصِر، وفي سياق تجربة الشَّاعر نفسه، الذي كانت كُتُبُه النقدية النظرية، بما فيها الأعمال الشعرية التي صدرت له، إضاءة لهذه التجربة التي قطعت مع مفاهيم وتصوُّراتٍ، الحداثة نفسها لم تراجعها ولم تنتقدها، ولعلَّ أبرزها مفهوم وبناء «القصيدة»، وما تجرُّه خلفها من بناء ماضويّ لم تتحرَّر منه الحداثة نفسها، حتَّى وهي تسعى لتجاوز مفاهيم الماضي والتأسيس لأفق حداثي مغاير، يدَّعِي التجاوز والتخطي.

في هذا الكتاب، بجزئية، ذهب صلاح بوسريف إلى أن إعادة تفكيك مفهوميْ السُّنَن والبِدَع، وإخراج التعبيريْن من سياقهما الذي لا نفتأ نربطهما به، وهو السياق الديني، في حين أنَّ مفهوم البِدَع، في اللغة، هو نفسه مفهوم الإحداث، وما يكون جديداً طارئاً، وهو مفاجيء ومُباغت، دائماً. وفي علاقة بالسياق الشِّعْرِيّ الخاص، والسياق الثقافي العام، فالبِدَع هي أساس كُلّ خَلْق وتجديد وتحديث، وهي سابقة على السُنَن، لأنَّ السُنَن في أصلها هي تنميط، وتسييج، وحَصْر، وتقعيد، وتجميد للبِدَع، بل استهجانها، واعتبارها إفْساداً من قِبَل من اكتفوا بالسُّنن باعتبارها أصلاً .

ويرى بوسريف أن ما هو سُنن، هو بِدع أفرغت من حركيتها، ومن حريتها، ومن مبدأ الصيرورة الذي هو طبيعيّ في الثقافة التي من خلق وابتكار وإبداع الإنسان بما هو عقل وخيال، وأفق مفتوح على المجهول واللانهائِيّ.

ويعود الكتاب في جزئيه إلى الماضي، كما يعود إلى الراهن، بنوع من المراجعة والتفكيك ونقد الحداثة، لما وقعت فيه الحداثة نفسها من مفارقات وتناقضات، أو من سهو ونسيانٍ، ومن سطوة البداهة والاجترار، وظنَّت أن الماضي أصبح وراءها، فيما الماضي بقي أمامها، هو من يقودها، لا هي من تقوده، خصوصاً أنَّ بنيات «القصيدة»، وبناءها الشفاهِيّ ـ الغنائي، وانحسارها في دوالّ «القصيدة»، بما هي تدوين وليست كتابة، لا بالمعنى اللغوي وحده، بل بالمعنى السيميائي، جعل الأذن هي من تقرأ، وباقي الحواس نائمة في خدر الصوت، وفي خدر البنية الإنشادية التي لم ترق إلى مستوى الكتابة بما هي أفق حداثي، بوعي دوالِّها، وما يحدث في الكتاب، لا الديوان، من التَّفْضيات التي لها علاقة بالكتابة وبالكتاب، أو بالعمل الشعري الذي هو نصٌّ وليس خطاباً.

فوجودنا في الأسلاف، هو غير وجود الأسلاف فينا كما يقول بوسريف، فنحن نستطيع أن نتحرَّر منهم بمناكفتهم، بنقدهم، وبمراجعتهم، ومُساءلتهم، لا أن نكون رهائن لفكرهم وما كتبوه من شعر، وهذا ما يجعلنا نكتشفهم ونعرفهم، كما نعرف أنفسنا، ونكتشف ما عندنا من قدرة على الخلق والإبداع، وعلى السؤال، وما يثوي في الأعمال الراهنة من أسرار شعرية أعمتنا السنن عنها، خصوصاً المعاصرة منها، مما وضعناه نحن، وأصبحنا نراه الحقيقة المعرفية والإبداعية المطلقة، وهذا ما حدث في الماضي، بنفس المعنى، وبنفس الفكر، أي بنفس ذهينة السُّنَن.

والأسلاف، عند بوسريف، ليسوا من مضوا، بل من هُم معنا، أو من كانوا من الحديثين أو المعاصرين. ويؤكِّد بوسريف على مفهوم التجربة الفردية، التي هي ما يمكن أن يُتِيح لنا قراءة الشِّعْر اليوم، لا بجمع الجميع في نفس «المَتْن» بنوع من الحَشْر الغامِض، لنقرأهم بنفس القراءة، ونحكم عليهم بنفس الحكم، وبنفس المفاهيم و المناهج والتصورات، وهذا من أعطاب المعرفة الشعرية التي لا تقرأ الشِّعر إلا بما هو موجود ومُتاح، أو مُكرَّس بالأحرى. فما لم نذهب إلى هذه التجارب بما فيها من خصوصيات وفرادات، وما تحدثه من اختراقات وانشقاقات، ستبقى السنن، هي ما يحكم على البِدَع، أي الحكم على الأصل بما هو تالٍ له، وهذا من أعطاب علاقة الخَلَف بالسلف، بل من أعطاب الثقافة العربية في ذهنيتها العامَّة.

تقدير السُّنَن، في الكشف عن البِدَع فيها، وعن الاختراقات التي يمكن أن تكون المقدمة لما نذهب إليه، ليس في الشِّعْر العربيّ فقط، بل في الثقافة العربية في عمومها، هو ما يعمل الكتاب بجزئيه على مُساءلته، وعلى وضعه في سياق المُساءلة والمُراجعة والتَّمْحيص.

 

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version