حسن عين الحياة
هو واحد من المبدعين الكبار في تاريخ الدراما المغربية، الذين رسموا لأنفسهم مسارا حافلا في مجال التمثيل، وأحد أعمدة “الفكاهة المغربية” الموسومين بطابع ظل وما يزال عصيا على التقليد..فنان أصيل لن يتكرر مرتين، وكوميدي متفرد،تمكن بحسه العفويوأدائه الصادق أن ينتزع الضحك من المشاهدين خاصة وأنه خريج الثقافة الشعبية في شقها الإبداعي والفكاهي.وبالتالي،يكفي أن يظهر وجه الفنان الراحل محمد بنبراهيم على الشاشة، حتى ترتسم الابتسامة العفوية على الشفاه.. وجهه من النوع الذي يطمئن له الناس من النظرة الأولى، وحديثه المميز بلكنة بدوية يشد الأسماع، أما أداؤه كممثلمحترف، فقد وضعه لسنوات على رأس القائمة التي يفضلها عشاق المسرح والسينما والتلفزيون.
اليوم وقد مر على وفاته قرابة 11 سنة (توفي في ماي 2013)، مايزال الفنان محمد بنبراهيم، ذو الأصول العبيدية، حاضرا في الذاكرة والوجدان،بصورته الأثيرية، كمبدعواكب طيلة 48 سنة من حياته الفنية، عديد التحولات التي شهدتها الدراما المغربية، وأيضا كموهوب ساهم في هذه التحولات من موقعه كفنان كوميدي صنع من خلال موهبته الفطرية البهجة والبسمة وزرعهما على وجوه أجيال من المشاهدين المغاربة.
ولد محمد بنبراهيم بمدينة الدارالبيضاءعام 1949، واسمه الحقيقي محمد حب الرمان.. نشأ وترعرع بدرب السلطان، وقضى سنوات من طفولته الأولى في منزل بحي ملوية، قبل أن تنتقل أسرته إلى زنقة المنستير بالحي نفسه،والتي كان يقطن بها سينمائيون ومسرحيون ونجوم كرة القدم، فضلا عن شهرة الحي بأنشطة بعض الفرق المسرحية وانتعاش فن الحلقة وتنظيم مباريات في رياضة المصارعة.
التحق الطفل بنبراهيم بمدرسة محمد بن يوسف (المدرسة المحمدية)، وكان من بين التلاميذ الذين درسوا معه آنذاك، وواكبوا مشواره الفني فيما بعد، الفنانين صلاح الدين بنموسى وعبد الرزاق البدوي، غير أنه لم يستمر طويلا في الدراسة، وذلك لأسباب ظلت وما تزال مبهمة في مسار هذا الفنان الكبير.
في هذا الحي النابض بالحياة، فتح الطفل بنبراهيم عينيه على عالم كانت فيه بعض الأسماء الفنية قد ملأت الدنيا بأعمالها الإبداعية، وأخرى تتلمس طريقها الأول نحو الشهرة، كإبراهيم العلمي وعائد موهوب ومصطفى التومي وغيرهم كثير، وفي هذا الحي أيضا، كانت فرقة “العهد الجديد” التي يرأسها الفنان عبد القادر البدوي، وفرقة “الأخوة العربية” التي يرأسها الفنان عبد العظيم الشناوي تنشطان بقوة في الدارالبيضاء. وكنوع من التأثير والتأثر، سيساهم هذا الزخم الفني المتنوع في تكوين شخصية الطفل بنبراهيم، الذي كان وفق من عايشوه معروفا بشغبه بين أقرانه في الحي.
في حديث لي مع الراحل محمد بنبراهيم، ذات يوم رمضاني سنة 2008، توقف كثيرا عند محطة الشغب الذي وسم مرحلة مهمة من طفولته، معتبرا إياه سببا رئيسيا في اقتحامه عالم التمثيل.وهذا الحدث بالنسبة له شكل محطة مفصلية في حياته، وأحدث انقلابا على سلوكه، وإن كان يجمع بين الطرافة والألم،وقد حكى تفاصيله فيما بعد في حواراته لأهميته في مساره الفني. كان بنبراهيم وقتها يافعا (حوالي 15 سنة)، وكانت فرقة “الأخوة العربية” لعبد العظيم الشناوي النشيطة في الحي، تعرض ملصقات مسرحياتها التي تعتزم عرضها على واجهة مقرها. وكان بنبراهيم كلما شاهدها تثير فضوله، فيمزقها دون سبب.. والأكثر من ذلك يضرب باب المقر برجله بعنف ثم يفر إلى الأزقة المجاورة. وبحسب بنبراهيم، تكررت هذه العملية عدة مرات دون أن يعرف أعضاء الفرقة “مول الفعلة”.
وذات مرة، وفي اللحظة التي ضرب فيها بنبراهيم باب الفرقة المسرحية، انقض عليه أحد أعضائها، وسحبه إلى داخل المقر.. كان كمينا نصبته الفرقة لمشاغب قض مضجعها لعدة أيام.. فانهال عليه من في الداخل بالضرب، وتوعدوا بمعاقبته إن هو كرر فعلته مرة أخرى، كما أجبروه على الانزواء جانبا إلى غاية انتهائهم من التداريب.كان بنبراهيم وقتها يعتقد أن المسرح مجرد لعب ولهو، لكنه في عز الألم الذي يشعر به جراء الضرب المبرح، اكتشف وهو يتابع التمارين شيئا آخر.. فمال قلبه إلى التمثيل، وانبهر بعالمه الساحر.
بعد أيام قليلة على هذه الحادثة، عاد بنبراهيم إلى مقر الفرقة المسرحية. وما إن وقف أمام الباب حتىقبض عليه أحد أعضائها (كمال السرغيني) ظنا منه أنه عاد لإزعاجهم مرة أخرى.. لكن بنبراهيم أخبره أنه يريد هذه المرة أن يتابع تداريب الفرقة، فسمح له بذلك.. وهكذا أصبح بنبراهيم يواظب على الحضور ليصبح فيما بعد أحد أعضاء الفرقة، ويشخص في منتصف ستينيات القرن الماضي أول دور مسرحي له مع فرقة الشناوي في مسرحية “جدار الخوف”.
بعد هذه التجربة، التحق بفرقة الجيل الناهض التي استمر معها لأربع سنوات، وكان وقتها قد أدى أول “سكيتش” في حياته الفنية بعنوان “حلاق المزروبين”، وفي عام 1968 أسس بنبراهيم “فرقة الباسم” مع عديد الوجوه الفنية البارزة آنذاك.
كان بنبراهيم في بدايته الفنية مثار اعجاب أهل الفن أنفسهم، بالنظر إلى قدرته الهائلةعلى صناعة النكتة.. فهو خريج الثقافة الشعبية في شقها الإبداعي والفكاهي والغنائي.. مبدع بالفطرة، وفوق ذلك عفوي في صناعة النكتة الهادفة، ومرتجل بالفطرة لـ”السكيتشات” التي جعلت أجيالا من المغاربة يستهلكون فيما بعد أعماله الكوميدية بنَهم. وهذه الخواص هي التي جعلت الفنان عبد العظيم الشناوي يتعامل معه مرة أخرى، ويمهد له الطريق للظهور على شاشة التلفزة من خلال سهرة الأقاليم.كان الشناوي وقتها ينشط في النادي الثقافي بوشنتوف، وكان يضم آنذاك السنوسي وسعاد صابر ومصطفى الداسوكين وعدد من الفنانين المعروفين.. ولأن الشناوي كان مشغولا بإخراج وتنسيق سهرة الأقاليم، فقد ترك لبنبراهيم دوره الرئيسي “حاكم الجنون” في مسرحية كانوا يعدونها للعرض، كما مكنته هذه التجربة من العمل مع ممثلين مميزين بحسهم الكوميدي العالي.
فيما بعد، دخل بنبراهيم في تجربة الثنائي الفكاهي، وكانت البداية مع السنوسي عام 1973 ثم مصطفى الداسوكين وعبد الرحمان برادي ومصطفى هنيني… وكانت أعماله الكوميدية مع هؤلاء قد ركزت على شخصية “البدوي” التي لازمته طويلا إلى حد التنميط، والتي كانت عائقا أحيانا أمام ولوجه المبكر لعالم السينما، بالرغم من كونه يختزن طاقة هائلة في التمثيل تتأقلم مع جميع الأدوار.
في إحدى شهاداته، يقول الممثل القدير محمد الخلفي، إنه صادف ذات يوم ملصقا لعمل مسرحي بعنوان “الطمع طاعون” معلقا في إحدى واجهات المسرح البلدي في الدارالبيضاء، يضم صورة لصديقه بنبراهيم وهو أصلع.. توقف الخلفي عند الصورة كثيرا، ورأى فيها نوعا من التجديد. وحينما شاهد العمل، راقه دور بنبراهيم البعيد عن النمط البدوي.. وبعد أيام، نصحه قائلا: “إنك ممثل شامل، تزاوج بين الكوميديا والدراما.. وبالتالي عليه أن تنسلخ دور “البدوي”، لأنه لن ينفعك لا في السينما ولا في التلفزيون”.
في الواقع، إن بنبراهيم ورغم إتقانه للأدوار الفكاهية من خلال شخصية البدوي، إلا أنه انصهر في بداية السبعينيات في تجربة المسرح الكلاسيكي مع الفنان المقتدر محمد سعيد عفيفي، واستفاد منه كثيرا، بحيث لم يكنبنبراهيم نفسه ينكر أنه تعلم أبجديات المسرح من خلال مشاركته مع عفيفي في مسرحيتي “عطيل” و”هاملت”، وهما محطتان مضيئتان في مساره الفني الحافل.
في رصيد الفنان الراحل محمد بنبراهيم عشراتالمسرحيات والمسلسلات والأفلام التلفزيونية والسينمائية. إلا أن السينما لم تنصفه بالقدير الذي يليق به، خاصة وأنه بحسب المهتمين والنقاد، ممثل عالمي، تعشقه الكاميرا كثيرا، وتستكين له، خاصة وأن له خاصية التأقلم مع جميع المدارس السينمائية. ففي كثير من الأحيان، تٌسند له أدوار ثانوية، لكن وجهه وحضوره القوي، يجعله مستقطبا للانتباه أكثر من الممثلين الآخرين الذين يلعبون أدوار البطولة. وهذا ما أكده ذات يوم المخرج نور الدين الخماري، وهو يتحدث عن بنبراهيم الذي شارك معه في أفلامه “نظرة” و”كازانيغرا” و”الزيرو”، حيث أكد على أن بنبراهيم ليس ممثلا مغربيا فحسب، وإنما ممثل عالمي، “إنه يمنح لأفلامي دائما طاقة إضافية للعمل.. ففي فيلم نظرة، كنت أرى خلف الكاميرا الشخصية وليس الممثل وهذا نادر جدا، وفي فيلم كازانيغرا كان بنبراهيم هو الفيلم كله”، يقول الخماري.
قبل وفاته بسنوات قليلة، عانى بنبراهيم من مرض السكري، وكان أن فقد على إثره البصر كليا، وبالرغم من ذلك، قاوم هذه الإعاقة الطارئة واستمر في عمله كممثل، بحيث شخص في فيلم “الزيرو” دورا محوريا وهو أعمى، وكان التقنيون في الفيلم يوجهون نظره بواسطة الأشعة للتعامل مع زوايا الكاميرا.. ونفس الشيء وقع أثناء تصوير سلسلة حديدان، حيث شارك فيه وهو فاقد للبصر كليا.
وبعيدا عن بنبراهيم الممثل، يحضر الانسان الذي حافظ على علاقاته مع أصدقاء الطفولة والفن.. أتذكر أنه في شهر رمضان، وهو الذي يقطن في البير الجديد، آثر أن نلتقي في درب السلطان بعد موعد الإفطار. وبعد اللقاء، أخذني إلى منزل من طابق فسيح يبدو للوهلة الأولى أنه مقر لتنظيم ما، كان به بعض الأصدقاء، ثم بعد مرور وقت قصير اكتظ المكان بالناس.. وكان بين فينة وأخرى ينهض للسلام على الوافدين ومعانقتهم.. وحين سألته عن المناسبة قال، إن كل هؤلاء الحاضرين من أبناء الدرب، هناك من يأتي من مدن بعيدة وبعضهم قدم من الخارج.. اننا نلتقي في مثل هذا اليوم من كل سنة لتجديد اللقاء وصلة الرحم.
رحم الله الفنان بنبراهيم وأدخله فسيح جناته.