حاورتها: ليلى خزيمة
الوثائقي هو العشق الأول في إبداعاتها منذ سنوات الدراسة والتخرج، وهي تحفر في هدوء وبعزيمة اسمها بين صفوف المبدعين. لها طريقتها الخاصة في تناول المواضيع، قصصها مأخوذة من الواقع ومن حيثيات الحياة اليومية العادية، فتصنع منها حكايات تسمو إلى مراتب السريالية.
لا تهمها شهرتها كوجه، بل تترك المجال لإبداعاتها لتعرف باسمها وبمن هي أسماء المدير. تقول لو كان لديها وقت أطول وإمكانيات أكبر، لصنعت أفضل وأكثر. حوار المنعطف اليوم معها فرصة لتقريب القارئ من إبداعات ومنطق اشتغال أسماء المدير.
- لم يكن اسم أسماء المدير متداولا بين الناس العاديين أو المهنيين ليصبح اليوم مفخرة مغربية بتتويجات عالمية فهلا قربتم القارئ من أسماء المدير ورحلة البحث التي أوصلتها لهذا الإنجاز؟
صراحة، لم أهتم يوما بأن يكون لي اسم معروف ومتداول. بالعكس، كنت أحس دائما بالفرح عندما ألتقي شخصا يعرف اسمي وليس شكلي، ويقول أنت إذن هي أسماء المدير، عندها يضع صورة للاسم بالنسبة لي، فخر بأن تكون أعماليمعروفة ومشهورة أكثر مني.
أما عن رحلة البحث، فقد بدأت بدراسة السينما في المعهد المتخصص للسينما والسمعي البصري بالرباط لثلاث سنوات، لأنتقل بعدها إلى مدينة تطوان من أجل الحصول على الإجازة في الدراسات السينمائية السمعية والبصرية وحصلت بعدها على الماستر بمعهد إنتاج المحتويات الرقمية والسمعية البصرية.
الشيء الذي مكنني من الحصول على بطاقة القبول بأعرق مدارس السينما بفرنسا المؤسسة الأوروبية لمهن الصورة والصوت.
بهذه المؤسسة اكتشفت الحس الوثائقي والواقعي، بفعل احتكاكي بمنظومة ومدرسة جديدة مغايرة، صحيح أننا درسنا كل ما يمكن دراسته في المعاهد المغربية، لكن في كل مرة أكتشف شيئا جديدا.
الإنجاز الذي حققته لم يكن محظ صدفة، بل كان حلما، وأنا أعي جيدا أن الحلم يحتاج إلى عمل وجهد ووقت. فالسينما ميدان صعب. وإن لم نتريث ونأخذالوقت الكافي في العمل، كثرت العيوب في أعمالنا.
هي رحلة ساهم فيها كثيرون، منهم من سهروا على تدريسي، ومن عملوا معي لتطوير الفكرة، وكذلك الرحلات التي كنت أقوم بها بالعديد من الدول لأطور من نفسي وعملي، و ما أتمناه هو أن يكون هنالك شباب مغاربة كثر يقومون بإنجازات قيمة وينالون جوائز عالمية لأن السينما المغربية سينما تستحق التشريف.
فلدينا مؤسسات مثل المركز السينمائي ووزارة الثقافة وأشخاص يعملون بجد من أجل تطوير الميدان، والسيد وزير الثقافة المهدي بنسعيد يتابع كل الأعمال ويحثنا على المضي قدما ويتصل من أجل المشاركة بالمهرجانات العالمية ولما لا الفوز بالجوائز وهناك أيضا ورشات أطلس التي تطور من مهاراتنا. كل ما علينا هو أن نعمل وأن نكتب الفكرة ونقدمها ولا ننتظر أن يأتي الآخر إلينا، بل نذهب نحنإلى الآخر ونقترح ونجرب ونتفاعل.
- توجهت أسماء المدير إلى الوثائقي قبل كذب أبيض واستخدمت التجريد في أعمالها فما الهدف من هذا التوجه وهذا التوظيف؟
توجهت إلى الأفلام الوثائقية لأنها عالم يستهويني، فيه حقيقة وفيه واقع وأشياء ملموسة وأحاسيس، إمكانية أن تجد موضوعا في الواقع وتتابعه وتصنع منه حكاية هو ما أعشق، ففي الخيال أيضا نحاول صنع أفلام تشبه الواقع، فلما لا إذا كان الواقع جاهزا لأن يُصور.
أنا وجدت المادة الخام لكي أشتغل عليها بالوثائقي بالرغم من أنني اشتغلت على الخيال في ألوان الصمت ودوار السوليمة والرصاصة الأخيرة وجمعة مباركة أول فيلم وثائقي قصير قدمته كمادة لتخرجي من مؤسسة مهن السينما والصوت بباريس. هذا الفيلم كان كمقدمة لفلم كذب أبيض. فهو يشبهه، لكن ليس بنفس الإمكانيات.
- بغض النظر عن الصيغة الوثائقية لما تجنح أسماء المدير إلى الاعتماد على أبطال لا تمتهن السينما؟
بصفة عامة أحب أن تكون أفلامي واقعية حقيقية، وفي نفس الوقت، تحس فيها بشيء من السوريالية تمكن المشاهد من تصنيفها داخل خانة أفلام سينمائية، ليست وثائقية أو من الخيال فقط فهناك تقارب ومزج ما بين الخيال والواقع، وهذا تماما ما أفضل في السينما، فهذه الأخيرة فن لم يوجد لكي يكون ثابتا، بل هو مجال يعطيك نوع من الحرية تمكنك من أن تخلط الأشياء لتروي في النهاية حكاية.
- وكيف استطعتم إدارة هذه الشخصيات ومنحتموها الثقة للوقوف أمام الكاميرا؟
أعشق الاشتغال مع أناس غير محترفين، أناس لم تعتد على السينما لأنني أحس بحرية وأريحية في أن أصنع شخصياتي كمخرجة، ليس فقط على مستوى السيناريو والكتابة، بل أن تكون شخصياتي مفصلة تفصيلا للدور الذي ستلعبه. أن تكون صفحة بيضاء، لا دراية لها بالسينما، فأبدأ معها من الصفر. فالنسبة لي، كل عمل يجب أن يبدأ من الصفر.
فأنا أنسى كل مرجعياتي الفنية وتكويناتي ومعارفي لأبدأ من جديد. وكذلك شخصياتي، أحب ألا يكون لها أي مرجعية فنية حتى نبدأ معا التجربة. فكل عمل هو تجربة خاصة وله طريقته الخاصة في الاشتغال، لا يمكن مزجها دائما بالرصيد المعرفي. فمثلا عندما تجلب فنانا ما لعب دورا ما وتألق فيه، من الصعب خلق شخصية أخرى معه بسرعة، لأنه غالبا ما يبقى تحت سيطرة الشخصية التي تألق فيها، الأمر صعب.
أكيد أن هذا ليس معمما. فيمكن أن أستدعي فنانا كبيرا وأعمل معه ونصنع الشخصية كما أتصورها، لكن ليس هنالك وقت كافي ومن الصعب أن يكسب المبدعون الشباب ثقة كبار الفنانين.
فأن أعمل مع شخص غير معروف، هو أمر يمنحني فرصة إيصال أفكاري بشكل أفضل ويمنحني فرصة رؤية ملامح أخرى للشخصية. هي ليست اختيارات بقدر ما هي مسألة أذواق. يبقى الأمر كما قلت قابل للتغيير، فلدينا في المغرب فنانون كبار يمكن أن نبني معهم شخصيات بطرق مختلفة وبتصور معين بعيدا عما عهدناه من قبل مثل الفنانة راوية أو نسرين الراضي أو هاجر كريكع والعديد العديد من الفنانين. الأمر يتعلق فقط بالوقت.
ما نحتاجه هو فقط الرغبة والشغف. فمن يمتلك هذه الخصائص سيتمكن من إبراز كل طاقاته. كذلك يجب التحلي بالصبر. فبالنسبة لي، أمنح الثقة من البداية، لا أتدخل وأسعى إلى دفع الفنان بأن يكون هو نفسه لا غير وأترك له الاختيار تماما مثل ما يجري في السينما الإيطالية. فأنا لا أطالب الأشخاص الذين أتعامل معهم بالتمثيل. فلو أردت ذلك، لاستدعيت أشخاصا تلقوا تكوينا في المجال ولهم دراية بالميكانيزمات الفنية. لكن أنا أدفعهم إلى أن يتصرفوا على طبيعتهم وأجلس وألاحظ تطور شخصياتي عبر عدسة الكاميرا.
- ما هي المفاهيم التي غيرها كذب أبيض في الرؤية الإبداعية لأسماء المدير؟
كذب أبيض أعطاني القوة كمخرجة شابة مغربية، وعلمني أنه لا شيء مستحيل. قدمت فيلمي لمهرجان كان السينمائي من دون منتج فرنسي مشارك أو حتى منتج فرنسي أو موزع فرنسي أو وكيل مبيعات، قدمت فيلمي أنا المخرجة والمنتجة والكاتبة والموضبة مع فريق مغربي وبعض الشباب من مصر، ما صنعناه وحققناه جاء بالعمل مع فريق مصغر، فما بالك لو تعاملنا مع فرق أكبر وشركات كبرى؟ أظن أننا سنصل إلى ما هو أكثر من هذا.
فكذب أبيض علمني أنه لا خوف من كُبريات الشركات ولا خوف من أن تعمل وحدك، الخوف فقط من ألا تكون الفكرة جاهزة والسيناريو جاهز للتصوير. هنا فقط يجب أن نخاف، ما عداه فلا.
- الرصاصة الأخيرة، ألوان الصمت، زاوية أمي، كلها إنتاجات تتقاطع فيها الذاكرة. فهل هو المحرك الرئيسي لإبداع أسماء المدير؟
شكرا لإثارة مسألة الذاكرة. بالفعل أنا أستقي أفكار أعمالي من الذاكرة، سواء كانت قريبة أو بعيدة الأمر ليس مهما. المهم أن يكون لها ارتباط بالمستقبل. ألوان الصمت، الرصاصة الأخيرة وزاوية أمي، كلها أفلام استقيتها من الواقع، مما أسمع من خلال المذياع، أو الأحاديث على متن القطار أو سيارة الأجرة ومن الأشخاص الذين أصادفهم. فأنا أحب الواقع بشكل جنوني لدرجة أنني أشاهد كل الواقع في السينما وأشاهد السينما في الواقع.
فنعم، الذاكرة هي أولويتي كمخرجة. فكل الفنانين يستعينون بالذاكرة. لكن هذا لا يعني أن نبقى حبيسي الذاكرة، بالعكس نحاول أن نصنع من هذه الذاكرة أشياء تصلح لأن تعطي رسائل للحاضر، ولو أن الفن لا يعطي رسائل بل يحرك مفاهيم ويثير ردود أفعال، وأشياء تشاهد في المستقبل. فمن ليست له ذاكرة ليس له مستقبل. لهذا يجب أن نفهم الماضي لننتقل بكل سلاسة إلى المستقبل دون أن ننسى حقنا في عيش الحاضر.
- كيف كانت نظرة وتطلعات أسماء المدير قبل كذب أبيض؟
صراحة تطلعاتي كمخرجة ونظرتي للسينما وللحياة بصفة عامة هي نفسها ولم تتغير. فقبل وبعد كذب أبيض كانت لدي أحلام وتطلعات. ومن بين الأحلام التي حققت هيأن أكون بمهرجان كان السينمائي. الحلم لم يكن الفوز بالجائزة، لكن أن أصل بفلمي إلى هذا المهرجان. أن أفوز بالنجمة الذهبية بمهرجان مراكش كذلك كان من بين الأحلام التي وضعتها وكتبتها على لوح أمامي وكتبت إن شاء الله سأحقق هذا الهدف. ثم وضعت أهداف وأحلام أخرى منها ما تحقق ومنها ما سيتحقق إن شاء الله في المستقبل.
- التتويجات والجوائز شيء اعتادت عليه أسماء المدير قبل كذب أبيض. فما الفرق بين ما سبق وبين تتويجيْ مهرجان كان ومهرجان مراكش؟
التتويجات شيء جميل جدا. صراحة نوع الجوائز التي منحت لي مع كذب أبيض لم تكن من قبل. هناك درجات في الجوائز، والرحلة بدأت من ماض بعيد جدا، من أول فيلم لي تحت عنوانالرصاصة الأخيرة وهو فيلم تخرجي سنة 2010. كانت أول سنة تُدرج فيها مسابقة أفلام المدارس التي أنشأها المركز السينمائي المغربي. كانت تجربة جميلة جدا، فتحت لي العديد من الأبواب ومكنت المهتمين من تتبع أعمالي التي تلت. هذه الجائزة كانت محفزا كبيرا لي، فأنا لم أكن أعي جيدا مدى جودة أعمالي أو مستوى قدراتي وإمكاناتي، كنت في مرحلة الاكتشاف. فالتتويجات من قبل، مختلفة تماما عن تتويجات كذب أبيض، هذه الأخيرة تتويجات عالمية وصعبة المنال، وأنا جد فرحة لأنني وصلت إليها. فالحصول على النجمة الذهبية بمهرجان مراكش ليس بالأمر الهين ولم يستطع أي فيلم مغربي الحصول على النجمة الذهبية منذ 20 سنة.
بالتأكيد هذا شرف كبيروكذلك الحصول على جائزة أفضل مخرج بمهرجان كان في قسم نظرة ما من بين جميع الأفلام المرشحة مفخرة لي. فالمنافسة كانت شرسة وقوية وأنا أحب المنافسة وفرحتي كانت لا توصف، ووصولي ضمن القائمة القصيرة للأوسكار بالفيلم الوثائقي لم نعهده من قبل في المغرب.
حتى على الصعيد الإفريقي، قليلة هي الأفلام التي وصلت للقائمة القصيرة للأفلام الوثائقية، فهذه إنجازات كبيرة تشجع على القادم ولكن لا تعني أن نقف عندها طويلا أو نتكاسل أو نتوانى عن السير قدما وتحقيق إنجازات أكبر. وهذا هو التحدي. أن نعمل لما بعد هذه الجوائز.