a24- ليلى خزيمة
ارتبط اسم مدينة وزان بصناعة الجلباب التقليدي منذ قرون. حيث شكلت “الجلابة الوزانية” ولا تزال، النشاط الرئيسي لفئة عريضة من سكان المنطقة. فمنطقة السويقة القريبة من الزاوية بالمدينة العتيقة، تعرف نشاطا دائما خاصة فيما يتعلق بمنتوجات الصناعة التقليدية و على رأسها الجلباب. وكل من يقصد المدينة لا يفوت فرصة شراء الجلباب الصوفي الأصيل الذي يحظي بشهرة كبيرة على الصعيد الوطني و العالمي. شيء طبيعي، فساكنة المدينة مرتبطون بهذا النوع من الأقمشة باعتباره جزءا من تراثهم المحلي. و على امتداد التاريخ مثلت المرأة في صناعة الجلباب الوازاني دورا محوريا من النشأة ٳلى التصنيع. هذا الٳرث الحضاري يمر بمراحل عدة قبل الوصول ٳلى يد الزبون.
“شايلاه أ دار الضمانة”
النشأة
من بين رفوف محلات بيع منتجات الصناعة التقليدية بالسويقة، تُطِل على الزائر كهدية العيد التي لا طالما انتظرها. من بين أهم الصناعات التقليدية بالمدينة، تعتبر “الجلابة الوزانية” ٳرثا ثقافيا و خلاصة للتأثيرات و التداخلات الحضارية منذ أزمنة بعيدة. لا يمكن ذكر اسم المدينة دون ذكر الجلباب. فالخرقة أو الرقعة الوزانية ليست كمثيلاتها. الحرفيون بالمنطقة يعتمدون في صناعتها على مواد طبيعية. وليس من دخيل اصطناعي كما هو الحال في مناطق أخرى. فكل جلباب وزاني هو باب رزق لما يناهز أربعة عشر أسرة من المنطقة. الكل يعمل على هذا الٳرث الحضاري ليبقى و يستمر.
مراحل التكوين
“خيط الصوف”
أصل القصة شراء صوف الخروف من الأسواق التقليدية، لتبدأ بعدها رحلة التصنيع. هنا كانت و لا تزلن نساء حي الشرشورة القشريين تقمن بغسل و بتنظيف الصوف الخام بسقاية مجهزة خصيصا لهذه الغاية.هذه السقاية مكونة أساسا من الماء و الكبريت. ٳذ تقوم النساء بوضع الصوف في حوض خاص لعدة دقائق مع المنظف الكيميائي وتقليبه. ثم يغسل جيدا بالماء لإزالة أثر المنظفات. الهدف من هذه العملية هو تنظيف الصوف من الشوائب و إزالة كل ما يمكنه ٳعاقة عملية التصنيع من شحوم و مخلفات طبيعية و ٳعداده لما سيأتي من بعد. يتم بعد ذلك عصر وفرد الصوف ليجف في الهواء الطلق أو فوق أسطح المنازل أو على مساحات واسعة قبل ٳضافة مادة تسمى ب”الحدجة”. هذه الأخيرة تعمل على حمايته من الطفيليات التي قد تغير لونه و تتلف أنسجته. بعد ذلك يتم وضعه بين فكي آلة التمشيط التقليدية المسماة ب”القرشال”. و هي آلة بسيطة مربعة الشكل مصنوعة من الخشب و يوجد على وجهها الداخلي أسنان معدنية تغطيها بشكل كامل. يستعمل “القرشال” أساسا في عملية “الدرازة” لتخليص الصوف من الأتربة العالقة و ترطيبه جيدا، فيصبح جاهزا و ناعما للغزل. لازالت هذه العملية تتم داخل المنازل و بطرق تقليدية، حيث تقوم “الغازلة” بفك التحام الصوف وتسريحه و إزالة بقايا الشوائب العالقة. عند انتهاء مرحلة “التقرشيل”، تمر الصوف ٳلى مرحلة الغزل. و هنا يأتي دور آلتَيْن اثنتين هما “الناعورة” التي بواسطتها يُلف خيط “السدى” أو “الطعمة” على مجسم دائري مصنوع من الخشب و له يد لتسهيل عملية الدوران. بعدها يأتي دور “المغزل”. أداة بسيطة خاصة بحرفة غزل الصوف وحياكته. يصنع “المغزل” من أشجار النبق أو العوسج أو السدر. و تعتبر مبرمة المغزل أداة الحياكة الرئيسية. يكون في أعلاها قطعة حديدية تسمى “السنارة”. وظيفة المغزل الأساسية هي برم الصوف وغزله و تحويله من كومة ٳلى خيط قابل للحياكة. خلال هذه العملية، كل امرأة يمكن أن تعد قرابة كيلوغرام من الصوف المغزول خلال أسبوع و تقوم ببيعه ل”الدراز” بسوق الغزل أو “السوق التحتي” كما يسميه أهل المنطقة.
“الدرازة”
بعد غزل المنتوج و عزله و ترتيبه حسب السُّمْكِ و الألوان، تعطى الخيوط “للدراز” و هو المختص في حياكة القماش المسمى ب”الخرقة”. تبدأ عملية نسج “الخرقة” بوضع ﺍﻟﺨﻴﻮﻁ ﺍﻟﻤﺘﻤﺎﺳﻜﺔ ﻋﻠﻰ “ﺍﻟﻤﻜﺒﺔ”. وهي عبارة عن عجلة مثبتة على محور ﻳﺴﻬﻞ ﺩﻭﺭﺍﻧﻬﺎ ﺣﺴﺐ رغبة “ﺍﻟﺪﺭﺍﺯ”. توضع ﻗﻄﻊ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺼﺐ ﺍﻟﺮﻗﻴﻖ ﺍﻟﻔﺎﺭﻍ دﺍﺧﻞ العجلة، تﺴﻤﻰ “ﺍﻟﺠﻌﺎﺏ” ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻐﺰﻝ ﺍﻟﺤﺪﻳﺪﻱ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﻭﺭ ﻓﻲ ﺍﺗﺠﺎﻩ ﺍﻟﻴﻤﻴﻦ بسرعات مختلفة. بعدها تأتي مرحلة “ﺍﻟﻤﺮﻣﻰ” التي يعمل عليها شخصان. ﻴﺄﺧﺬ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ “ﺍﻟﻨﺰﻕ” أﻭ “ﺍﻟﻤﻜﻮﻙ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮ”، ﻭﻳﻘﻮﻡ ﺑﺈﺩﺧﺎﻝ “ﺍﻟﺠﻌﺒﺔ ” ﻓﻲ “ﺍﻟﻌﻮﺩ” ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ﺑﺪﺍﺧﻠﻪ ليثبته، و تسمى العملية ب”العصرة”. ﻳﻮﺍﺻﻞ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ ﻋﻤﻠﻴﺔ “ﺍﻟﻌﺼﺮﺓ” ﻫﺬﻩ و يفسح ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﻟﺘﺪﺍﻭﻝ “ﺍﻟﻤﻜﻮﻙ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮ” ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻢ. ﻓﻲ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻳﺴﺘﺨﺪﻡ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ “ﺍﻟﺪﻑ” ﺑﻴﺪﻳﻪ ﻟﻀﻢ ﺧﻴﻮﻁ ﺍﻟﺼﻮﻑ ﺇﻟﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ. بعد ذلك ﻳﻐﻴﺮ ﻓﺘﺤﺎﺕ ﺧﻴﻮﻁ “ﺍﻟﺴﺪﺍ” ﺑﺠﻬﺎﺯ ﻋﻠﻰ ﺷﻜﻞ ﻓﺮﺍﻣﻞ ﻳﺪيرها ﺑرجليه ﺛﻢ ﻳﺮﺳﻞ ﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻢ “ﺍﻟﻨﺰﻕ” ﻣﺮﺓ ﺃﺧﺮﻯ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ. و بالتالي تحاك ﺧﻴﻮﻁ “ﺍﻟﺴﺪﺍ” بشكل مسترسل في عملية تبادل ما بين مستويين: ﻓﻮﻕ وﺗﺤﺖ. ﻓﻴﻐﻴﺮ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ ﺍﻟﺨﻴﻮﻁ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻮﻕ ﺑﺎﻟﺠﻬﺎﺯ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﻳﺮﻩ ﺑﺮﺟﻠﻪ ﻓﺘﺼﺒﺢ ﺗﺤت. و هكذا حتى تكتمل الخرقة. و يمكن لعملية “الدرازة” هذه أن تستمر لمدة أربعة عشرة ساعة فما فوق حسب طول و نوع الخرقة.
“الدلالة”
بعد انتهاء “الدراز” من حياكة الخرقة، تأتي مرحلة بيعها أو ما يسمى ب”الدلالة”. و هي أهم مناسبة لبيع الخرقة الوزانية. لازالت “الدلالة” تحافظ على طابعها التقليدي بالمدينة العتيقة بوزان. تجري العملية بسوق الحايك من طرف شخص يسمى “الدلال”. يقوم هذا الأخير بالسعي بين متاجر الصناع التقليديين في مزايدة يغلب عليها طابع التكتم و الثقة. و هو تقليد قديم معتمد تماما كمبدأ “باب الله” الذي يعني خصم ما يقارب 10 بالمائة من ثمن الخرقة الذي تحدده الدِلالة لفائدة التاجر. يحدد ثمن “الخرقة” حسب اسم و مهارة “الدرَّاز” و يتغير بتناوب فصول السنة إذ تعرف سوق الخرقة الوزانية ركودا ملحوظا خلال فصل الصيف و تنتعش خلال فصل الشتاء.
“التشكيل”
عند شراء “الخرقة”، يقوم الصانع و الحرفي التقليدي بخياطة الجلباب. تبدأ العملية بتفصيل “الخرقة” و تقسيمها ٳلى عدة قطع. تشكل كل قطعة جزءا من الجسم. فهناك ” لَكْمام” أو اليدين و “القُبْ” أي غطاء الرأس و “الكَسْدة” أي ما يغطي الجهتين الأمامية و الخلفية من الجسم. يقوم الصانع بتبطين الثوب. و تجمع القطع بواسطة “السْفيفَة” و “العقاد” بألوان و نوعية تتناسب مع الشكل الذي أراد الحرفي تطبيقه. هنا يطلق الصانع العنان لٳبداعاته. فتتفنن أنامله في تشكيل و طرز “الخرقة” بألوان و أشكال مختلفة تثير فضول الناظر من أول وهلة. أما ٳذا كان الزبون هو من اقتنى “الخرقة”، فالصانع الحرفي يخيطها حسب ذوق الزبون و ميولاته دون أن يبخل عليه بالنصيحة و الرأي.
أنواع الجلباب الوزاني
الجلباب عادة هندام يغطي جسم الٳنسان بأكمله و يحميه من قساوة الشتاء و حر الصيف. فلكل مقام مقال. و الجلباب الوزاني لا يخرج عن القاعدة و ٳنما يتفنن في الأشكال و الألوان و طبيعة الأقمشة. فهناك:
“الشخمة او المسلولة البيضاء”: مصنوعة من الصوف الخالص. و هي أول أنواع الخرقة الوزانية. يتراوح وزنها ما بين كيلو غرام و كيلو غرام و نصف. تكون بيضاء اللون في الأصل. و لمسايرة العصر و تلبية جميع الأذواق، تتم ٳضافة ألوان أخرى عليها أثناء التشكيل. و “الشخمة” الأصيلة تصنع بالطريقة التقليدية على يد الحرفي دون أي تدخل آلي و لا تشوبها أي شائبة. و هي كساء للرجال و النساء و الأطفال على حد سواء.
“النمرية”: خرقة مزركشة كجلد النمر. سميكة و يصل وزنها ٳلى ثلاث كيلو غرامات. تستعمل في فصل الشتاء.
” لمحربلة”: خرقة سميكة. يخاط بها الجلباب الخاص بفصل الشتاء. يصل وزنها كذلك ٳلى ثلاث كيلو غرامات كما هي الرقعة النمرية.
“السوسدي أو سدى في سدى“: هو أرق أنواع الخرقة في صنع الجلباب الوزاني. تُشَكَّل الأرضية بنفس طريقة “الزواق” مما يجعل الخرقة شفافة نوعا ما. تلبس في جميع المناسبات. تشكل بجميع الألوان و وزنها خفيف جدا لا يتعدى نصف كيلو غرام.
“نوارة الفول”: منتوج نادر جدا. يصنع من صوف عنق الخروف الأسود. يتم خلطه بالصوف الأبيض المدقوق. لا تتم ٳضافة الكبريت لها.
“الجربية أو الحبة الثالثة”: كانت في الأصل بيضاء اللون قبل أن يضيف عليها الحرفي بهجة الألوان. هي مزيج من “السوسدي” و الصوف على شكل حبيبات. تلبس في فصل الربيع، عندما يكون الجو معتدلا. و هي كذلك خفيفة الوزن. تأخذ ألوانا و أشكالا متعددة و هي من بين أغلى أنواع الخرقة.
“لمشرطة”: هو نوع من “الشخمة” تكون مزينة بخطوط و بألوان مختلفة. تشكل في تناسق جميل بأنامل الصانع الذهبية.
أنواع و ألوان و مراحل عدة يمر بها الجلباب الوزاني، ليخرج ٳلى الوجود. هو صديق الرجال و النساء و الأطفال, يقيهم من البرد و يضفي على لباسهم نبلا و لياقة و فخامة. فأصله شريف و مكوناته طبيعية و هو رمز للنخوة و المكانة الرفيعة. و يمتلك الحرفي الوزاني دقة في الصنع و ذوقا في التزيين و رغبة في الإبداع. صفات عريقة تتوارثها الأجيال. فالصانع الوزاني يبدأ تعلم أسرار الحرفة في سن صغيرة لأن ٳتقان العمل يتطلب ست سنوات من التعلم و التمرس لكي يبلغ المتعلم درجة “الصنايعي” بلغة أهل الحرفة. و لأنها لا تزال يدوية تقليدية كما أخرجت أول مرة للوجود لا من حيث المادة الخام أو طريقة التصنيع، تحافظ “الجلابة الوزانية” على صيتها محليا و دوليا ٳلى يومنا هذا.