a24-عبد اللطيف بوجملة
عندما دشن الأب محمد عبد الجليل حوار الأديان بين المسيحيين و المسلمين و اليهود في منتصف الستينات بعيد قطع العلاقات الفرنسية المغربية، فانه رفع مطلبا حاسما وجهه لإخوته المسيحيين و بالتحديد لإخوته الفرنسيسكانيين، رفع مطلب التفهم لفهم هذا الأخر الديني المخيف، و مع ذلك لم تتفهم الدوغولية الحاكمة هذا المطلب و رسمت حدود و نطاق و مناط هذه العلاقة و إلى اليوم على قاعدة المصلحة أولا و على قاعدة انتفائها ثانيا.
و لكي نفهم هذه الروح البرغماتية والوصولية السياسية المقيتة و المترسخة للمستعمر التخين بجراح فقدان إمبراطوريته الاستعمارية، كان لابد من توسل موضوعي للمقاربة التاريخية لفهم العلاقات الفرنسية المغربية و المغاربية، أساسا العلاقات الجزائرية في الاتجاهين.
الملاحظة البارزة و التي تسم هذه العلاقات في أبعادها الثلاثية، تشير إلى ان المغرب، تحديدا الإمبراطورية الشريفة و من بعدها المملكة المغربية الشريفة، ظل مناصرا للشعب الجزائري ضد الغزو و الاحتلال الفرنسي للجزائر، بينما و بمجرد حصولها على الاستقلال الذاتي وقعت الجزائر على معاهدة “افيان” بينما رفض المغرب توقيعها هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية فان المغرب هو الذي أدى و يؤدي فاتورة التوتر في علاقته مع فرنسا.
الشاهد في ذلك ان مشاطرة المغاربة قاطبة بمن في ذلك السلاطين، الجزائريين ثوراتهم و انتفاضاتهم بدء بثورة الأمير عبد القادر إلى نهايتها و لمد عقد و نصف، كان ثمنها باهظا يتمثل في هزيمة مذلة في وادي اسلي في تخوم وجدة المناضلة، و ضرب و تفجير لموانئ طنجة و تطوان و العرائش، ثم قضم متوحش للحدود بالاستيلاء على نصف مليون هكتار و عقوبات وغرامات مالية، و هو ما تجسده بوضوح مضامين اتفاقية” للا مغنية” سنة واحدة بعد هزيمة اسلي.
من هذا التاريخ تبدأ مشكلة الحدود العويصة بين المغرب و الجزائر المستقلة و هو من صناعة فرنسية امبريالية محضة.
و كما تعلمون و تعلم فرنسا ان الاتفاقية هي في حد ذاتها متناقضة و غير معقولة، فان كان شرطها الأول يتمثل في إبقاء الحدود بين دولة المغرب و الجزائر، كما كانت بين السلاطين العثمانيين و سلاطين المغرب السابقين( عن عهد المولى عبد الرحمان) فان فرنسا هي التي قامت بتعيين الموكلين على وضع الحدود ورسم خط وهمي جديد، يقضم الحدود ويستولي على مئات الآلاف من الهكتارات و توزيعها على الجنود المعمرين، و على المعمرين الأوروبيين، وسينتهي النهم الفرنسي مؤقتا بالقضاء على انتفاضة أولاد مقران، و التي صنعت مجد جيش افريقيا هو يتشكل “كدولة داخل الدولة”. استكمال هذا التشكل قاد فرنسا باتجاه غزو الصحراء و الغرب الإفريقي.
بهذا الخليط الاجتماعي الهجين والجديد والمتشكل من مئات الآلاف من جنود جيش إفريقيا ومعمرين من كل فج أوروبي عميق، تم العبث بالنظام الاجتماعي البدوي والقبلي للجزائريين، وتم تأسيس القاعدة الاجتماعية الصلبة للإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية وهي تتأهب للانقضاض على الصحراء والساحل و الإمبراطورية الشريفة وكافة مناطق غرب إفريقيا.
و قد ساهمت الجزائر الفرنسية في مد النموذج السياسي لبسط النفوذ و الهيمنة و الأداة الوظيفية المحلية المتمثلة في ” المكاتب العربية”، والتي أنشئت سبع سنوات من غزو فرنسا الجزائر، ومنحت فرنسا وجيشها نخبة معربة وسيط وعين لها لا تنام على الجزائريين وعلى ضبطهم و إخضاعهم وقمعهم وجمع معلوماتهم و مراقبتهم.
سيظهر الامتياز الجزائري، أيضا، في فكرة نابليون الثالث بإحداث ملكية فرنسية عربية بالجزائر يتم من خلالها إدماج الأهالي و تطبيعهم. وهو المقترح الذي رفضه جيش إفريقيا، وتم تعويضه بإخراج قانون الأهالي، الذي يهين الجزائريين و يمنح للمعمرين سلطات واسعة أسوة بسلطات الانتداب المالي.
لقد كانت الجزائر، وربما ستبقى بالنظر إلى العلاقات العسكرية الجديدة بين فرنسا و فرنسا الثانية، هي الأرض المحورية التي بنيت عليها و من حولها الإمبراطورية الكولونيالية الفرنسية. كما كانت محورية في مرحلة ما بعد الاستعمار.
فان كانت الجزائر هي النواة الصلبة لجيش أفريقيا والذي سمح لفرنسا ببناء إمبراطوريتها الاستعمارية و احتلال غرب افريقيا، وسمح بخلق وهم “الوطن المتوسطي “، فإنها كانت أيضا حاسمة في سياسات فرنسا و هي تفقد هذه الامبراطورية الشاسعة، إذ ورث الرئيس الفرنسي شارل دوغول، مؤسس الجمهورية الخامسة هذا التقليد السياسي العميق من أجداده من قادة جيش افريقيا، و آثر الجزائر على ما سواها، و تبعه فيه كافة رؤساء هذه الجمهورية ودون استثناء.
لقد بنى دوغول كامل سياسته وسياسة الجمهورية الفرنسية الخامسة على فكرة “التعاون الفرنسي المغاربي “، والقائمة على تحويل علاقات الهيمنة و الاستعمار و الحرب إلى علاقات تعاون تسمح لفرنسا باستعادة قوتها الدبلوماسية المفقودة و برعاية والحفاظ على مصالحها الاقتصادية، لاسيما في الجزائر المستقلة، و بالرغم من جراح حرب الجزائر الثانية الطويلة و ارثها الدموي الثقيل و الذي راح ضحيته قرابة المليون شخص، تتوزع حسب المصادر الفرنسية المحكمة، بين 30 ألف جندي فرنسي من جنود جيش إفريقيا ومن 50 ألف مدني أوروبي وعربي امازيغي، ومن 300 ألف قتيل من مجاهدي جبهة التحرير الوطني، نجح دوغول في الانحياز للجزائر و تفضيلها عبر اتفاق 29 يوليوز 1965 حول النفط والغاز والتعاون الصناعي.
وهو الاتفاق الذي كسبت منه فرنسا ربحا استراتيجيا مضاعفا، فمن جهة البقاء و الحضور الحاسم في ارض الجزائر وحماية امتيازاتها القائمة، ومن جهة ثانية منح صناعتها النفطية تزودا مفضلا وقريبا يؤدى بالفرنك الفرنسي، ويقدم من جهة ثالثة إمكانية وفرص تطوير صناعتها النفطية في باقي العالم اعتمادا مداخليها المتأتية من استمرار استغلالها لحقول النفط والغاز بالصحراء الجزائرية.
من جانب آخر، بنت الدغولية سياسة التعاون مع الجزائرعلى افتراض جاذب و فرضية تحول الجزائر الى سوق مهمة للمنتوجات الصناعية و الزراعية الفرنسية ، وعلى هذا الأساس همشت السوق التونسية و المغربية معا، باعتبارهما اسواق ضعيفة ولا تتوفرعلى موارد ومواد اولية ولاسيما الاستراتيجية منها و هي المحروقات.
يضاف الى ذلك عدم قدرة الاقتصاد المغربي على امتصاص المنتوج الفرنسي المصنع بسبب غياب الطموح في اول مخطط خماسي في ما يخص التجهيزات و تفضيله الاستيراد من المنشأ عوض تسريع التصنيع كما سبق و أكد الراحل عزيز بلال.
تمت أيضا مظهرغير بارز لهذا التفضيل الفرنسي للجزائر وهو طموح دوغول و حلمه بان تستعيد فرنسا قوتها الدولية المفقودة عبر ما اسماه “سياسة القوة العظمى”، وهي سياسة نشيطة تستهدف دول العالم الثالث و تراهن على أوروبا موحدة و على الطفرة النووية. وقد سمحت الجزائر، بلبوسها الاشتراكي كاتجاه واعد وحمال لنظام جديد يقوم على إسماع صوت تحرير مسار دول العالم الثالث، لفرنسا بان تغتنم فرصة استراتيجية وجغرافية للانفتاح على دول العالم الثالث.
و زادت هذه العلاقات توترا و برودا بعد صدمة حادث اغتيال المناضل الاممي المهدي بن بركة في قلب الحملة الانتخابية للرئاسيات الفرنسية و ما تلاها من تحقيقات و إدانات كان أوجها هو قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب بعد ان تسبب هذا الحادث في أفول نجم ” سياسة القوة العظمى” و التي كانت تراهن على أول مؤتمر لشعوب القارات الثلاثة المشهور في هفانا.