عبد اللطيف بوجملة
توتر العلاقات المغربية الفرنسية ليس وليد الحاضر والراهن المرتبط بالجمهورية الخامسة و هي ماضية في أفولها، بل يتعداه إلى ثقل التاريخ الكولونيالي الفرنسي على المغرب و محطاته الفاصلة و المنسية والتي لا يمكن تجاوزها او الاستهانة بها في فهم طبيعة هذه العلاقة المتشابكة و المعقدة في تاريخيتها و في صيرورتها.
ان مقاربة هذه العلاقات، من جهة تباعدها وخصامها ومن جهة دمويتها و شراستها، عليها ألا تغفل طرح السؤال المحوري والذي لا يطرح عادة على طاولة البحث التاريخي والسياسي ويبقى دون إجابة، وهو سؤال: لماذا احتلت فرنسا ” المغرب العربي الصغير” المتشكل من المغرب الأقصى والأوسط والأدنى، ولماذا احتلت بالذات المغرب الأقصى وهو ما يهم هاهنا؟
قد نختلف في الإجابة تبعا لرؤيتنا للتاريخ ولاختلاف أدواتنا ومرجعياتنا، وتبعا لحججنا وأدلتنا، إذ ما من شك أن فرنسا، ان أرادت أن تتشكل كإمبراطورية امبريالية، كان عليها ان تردم الهوة السحيقة التي تفصلها عن باقي الإمبراطوريات الامبريالية التي لا تغيب عنها الشمس، صناعيا و علميا و عسكريا، و لكي تنكب على هذه المهمة الحيوية لوجودها الامبريالي، كان عليها ان تؤمن عنصرين استراتيجيين و بشكل مستدام وهما الطاقة والغذاء و هو ما يوفره مجال ” المغرب العربي الصغير” كفاية و إمدادا.
غير أن هذا المسعى اصطدم بعامل هدر الزمن جراء المقاومة الشرسة التي ووجهت بها داخل هذا المجال الحيوي لوجودها، إذ يتفق الكثير من المؤرخين و المفكرين و المتتبعين، ان فرنسا تأخرت زهاء قرن من الزمن لبسط احتلالها من 1830 زمن بداية احتلالها للجزائر إلى غاية 1934 بإخمادها و قضائها على ثورة الريف بقيادة محمد بن الكريم الخطابي سنة 1926 و إسكاتها لمقاومة الأطلس المتوسط كآخر حلقة في استكمال احتلالها ل ” المغرب العربي الصغير”.
و ان كانت كل حلقة من هدا المد الامبريالي تهيء للأخرى ، فان احتلال فرنسا للمغرب عبر بوابة وجدة و من بعدها الدار البيضاء و فاس، اتسم بطابعين وهما أولا إدخال أنواع زراعية جديدة واستعمال تقنيات فلاحية جديدة في السقي والمكننة، وثانيا البدء في استغلال الفوسفاط ، و هو ما تحتاجه من المغرب لتامين غدائها و غداء جيوشها الامبريالية. بينما كانت تحتاج من الجزائر نفطها و من بعد غازها. ومن اجلهما كانت الجزائر الحلقة الأولى والحاسمة.
و لكي نفهم الثقل التاريخ الكولونيالي وارتداداته الراهنة على المغرب و على طابع التوتر الذي يميزه عن باقي بلدان ” المغرب العربي الصغير”.، فعلينا الا نقتصر فقط على محطاته المشرقة في المقاومة المسلحة و في المطالبة بالاستقلال و تحرير ما أطلقت عليه فرنسا تسمية المملكة الشريفة المحمية، بدء بثورة الريف و مقاومة و إجهاض تطبيق الظهير البربري و المقاومة الأطلسية و بداية الحركة الوطنية من خلال لجنة العمل المغربي من اجل الإصلاح و انقساماتها المزمنة في ما بعد، و تجدر العداء الفرنسي للسلطان محمد الخامس، رفيق التحرير إلى جانب فرنسا الحرة، لأسباب عديدة من جملتها لقاء انفا مع الرئيس الأمريكي روزفلت و بمعية وريث عرشه ولي العهد الحسن الثاني، حيث ستتأجج مطالب السلطان بالاستقلال، و سنة بعد ذلك سيرفض السلطان التوقيع على قرارات الحماية الفرنسية، ثم خطاب طنجة حيث بدأ محمد الخامس يطالب علنا بالاستقلال.
و بسبب أوضاع ما بعد الحرب العالمية على المغاربة، حيث عم الجوع والبؤس، ستشتد المقاومة المغربية المدينية أو الحضرية، ولاسيما بعد تعيين مقيم عام دموي وشرس و هو المدعو جوان، الذي سيخلفه مقيم أشرس منه و المسمى غيوم بمجرد دخول البادية المغربية صفوف المقاومة، و هو المقيم الذي قتل المغاربة و رمى بكثير من الشباب المقاوم إلى غياهب السجون في انتظار إعدامهم، بدعم من القياد الخونة الذين ضغطوا على السلطان لإبعاد معاونيه من شباب و قادة المقاومة، و بعد مفاوضات عسيرة و مضنية، بادر السلطان إلى المطالبة بالاستقلال التام في خطاب المشهور، و الذي قاد إلى نفيه و تنصيب ابن عرفة مكانه بدعم من الباشا الغلاوي و كثير من الأعيان و الفقهاء الفاسدين.
و بعد اشتداد جذوة المقاومة الباسلة، ولدت “المملكة المغربية الشريفة”، عبر كفاح و نضال مستميت جمع بشكل تلقائي و عضوي بين المغاربة قاطبة، ملكا و شعبا و امة.
غير ان فرنسا لم تنس جرحها النرجسي بفقدان آخر قلاع الإمبراطورية الاستعمارية والمتمثل في ” فرنسا الثانية”، بدعم مطلق من السلطان الذي جمع بين مطلب استقلال وطنه المغرب و وطنه الثاني الجزائر و دعم و بلا هوادة المقاومة الجزائرية لنيل الاستقلال، إلى الحد الذي ساومت فيه السلطان بين الاستمرار في مفاوضات نيل الاستقلال و بين دعمه العلني للثورة الجزائرية.
و لان شروط الولوج للاستقلال كانت مختلفة من بلد لأخر من بلدان المغرب العربي الصغير، فان كانت الحماية الفرنسية قد انتهت بالنسبة للمغرب و تونس مبكرا، فان استقلال الجزائر تطلب حربا طويلة.
و ان حافظ المغرب على الملكية كنظام سياسي عريق و قديم مثله السلطان محمد الخامس و من بعده الراحل الحسن الثاني، فان تونس العثمانية قد صارت جمهورية يرأسها الحبيب بورقيبة و من بعده بنعلي، بينما وضعت فرنسا و جبهة التحرير الوطني في الجزائر نظاما وظيفيا استبداديا بلبوس اشتراكية.
لقد نجحت فرنسا ، إمعانا في انتقامها التاريخي ضد الشعوب المغاربية و ضد وحدتها كحلم تشبت به زعماؤها الفعليين، و صيانة لمصالحها الاستعمارية الحيوية في شمال إفريقيا، نجحت في تأجيج التناقضات السياسية التي طبعت الأنظمة السياسية التي أقامتها او سمحت باستمرارها.
لذلك شكلت طبيعة هذه الأنظمة وظروف تطورها عائقا مستديما لقيام اتحاد مغاربي قوي و مستقل، مثلما شكل التعاطي السياسي مع هذه الأنظمة عبر التمييز الدوغولي بين النافع و غير النافع منها و تفضيل نظامها الوظيفي في الجزائر على ما سواه، من منطلق ان التعاون بالنسبة للجنرال دوغول يعتبر ” أداة سياسية للقوة و لإشعاع فرنسا” بعد عزلها من لدن القوى العالمية الجديدة، من جهة أولى، ومن جهة ثانية لان الجزائر تتوفر على ما تحتاجه فرنسا من مصادر و مواد أولية ” استراتيجية ” تتمثل في النفط والغاز.
و بينما وقعت الجزائر و تونس على اتفاقية الصداقة و التعاون التي فرضتها فرنسا لحماية مصالح المعمرين و الشركات الفرنسية، فان المغرب سيخرج مجددا عن الطاعة برفضه التوقيع على هذه الاتفاقية، و سن سياسة تعريب القضاء و من بعدها سياسة المغربة و استرجاع اراضي و مؤسسات المعمرين الاقتصادية و الإنتاجية، وهو ما يفسر و لحدود اليوم طبيعة التوتر في العلاقات بين البلدين بسبب انحياز فرنسي موروث ومستمر لفائدة نفط وغاز الجزائر… ولنا عودة.