المناضل التقدمي عزيز بلال
المفكر العضوي الذي صنع عددا من النخب.. والحجر الأساس في المدرسة الاقتصادية بالمغرب
حسن عين الحياة
عندما تسأل بعض التقدميين عن الراحل عزيز بلال، الذي ماتزال وفاته الغامضة، كالغصة في الحلق، تنساب الأوصاف كشلال عن رجل استثنائي.. البعض يقول إنه طبع مرحلة من تاريخ المغرب بأفكاره المُتقدة، التي أصبح لها من الأتباع والمريدين مَن توهجت أسماءهم في المجالين السياسي والأكاديمي في المملكة. وآخرون يصفونه بالمفكر العضوي الذي ربط بين النضال الفكري والممارسة الميدانية .. بينما الذين عاشوا بالقرب منه، فيقولون إنه تميز بالتواضع، فلانت له قلوب الناس. فهو شيوعي عند التقدميين، ومناضل تقدمي عند اليساريين.. ويساري عند الأكاديميين، وأكاديمي عند الاقتصاديين، ومفكر اقتصادي عند السياسيين. لكنه عند كل هؤلاء، فعزيز بلال، بقدر ما كان بوابة للأمل، أصبح عنوانا للألم، في إشارة إلى رحيله المبكر والمفاجئ، في ربيع 1982 عن عمر يناهز 49 عاما.
الآن ورغم مرور 40 سنة و8 أشهر على وفاته الغامضة، إلا أن المفكر الاقتصادي المغربي عزيز بلال، ما يزال حاضرا بقوة من خلال إرثه الفكري والنضالي والسياسي، عند عدد من السياسيين والاقتصاديين والأكاديميين في المملكة، خاصة وأن كثيرين يعتبرونه مفكرا اقتصاديا من طينة الكبار، والأستاذ الذي تلمس العديد من اليساريين طريقه في النضال، فضلا عن كونه اتصف إبان حياته بالمنظر الإيديولوجي لحزب التقدم والاشتراكية.
ولد عزيز بلال بمدينة تازة يوم 23 أكتوبر 1932، وتحديدا في منزل عريق بزنقة العالم ابن عبد الجبار بالحي المحيط بالجامع الكبير. ترعرع في كنف أسرة متواضعة. وعاش ظروفا صعبة بعد وفاة والده. كان عمره وقتها 8 سنوات، وبالرغم من كونه نشأ يتيما، إلا أنه شق مسارا دراسيا متميزا، مهد له الطريق ليصبح أول مغربي يحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد.
كان عزيز، وفق المهتمين بمساره، تلميذا مجتهدا في دراسته الابتدائية التي دشنها بمدينة تازة، وظهرت نجابته أكثر في مدينة وجدة التي تابع فيها دراسته الثانوية.. وبعد حصوله على الباكلوريا، يضيف هؤلاء، التحق عام 1951 بمدينة الرباط لمتابعة دراسته وتحضير إجازته في العلوم الاقتصادية التي نالها عام 1953. بعدها حلق إلى مدينة تولوز بفرنسا، فحصل هناك على دبلوم الدراسات العليا سنة 1956.
وخلال هذا المسار الدراسي الحافل، كان عزيز يراقب بعين فاحصة ما يجري حوله.. فالسياق الوطني وقتها كان موسوما بالنضال والكفاح من أجل طرد المستعمر الفرنسي من المغرب.. وعزيز الشاب، كان بدوره قد شكل فكرة عن طريقته في النضال التي تلائم ميوله الفكري.. فانضم إلى الحزب الشيوعي المغربي وعمره 19سنة فقط. وكان الحزب وقتها سريا، قبل أن يصبح فيما بعد حزب “التحرر والاشتراكية”، ثم “التقدم والاشتراكية”. ولأنه أبان عن نبوغ فكري، وكفاءة علمية في مجال الاقتصاد، أصبح عزيز أحد أبرز القياديين في الديوان السياسي للحزب.
بعد 3 سنوات من حصول المغرب على الاستقلال، وتحديدا عام 1959، وضع عزيز بلال بصمته على “المخطط الخماسي الأول (1960-1964)” وكان وقتها قد شغل، في إطار حكومة الائتلاف الوطني التي ترأسها عبد الله إبراهيم، منصب الكاتب العام لوزارة الشغل والشؤون الاجتماعية، كما اشتغل بوزارة التخطيط . وهنا يقول عبد السلام الصديقي، الوزير الأسبق في حكومة بنكيران الثانية، عن عزيز بلال، إنه خلال هذه الفترة التي شغل فيها منصب الكاتب العام لوزارة التشغيل، “تمت بفضله، وإلى حد كبير، مراجعة وتطوير قانون الشغل الذي بقي على حاله منذ الاستعمار، وقد قدم استقالته من منصبه تحت طلب من حزبه لكي لا يؤيد انحرافات الحكومة عن توجهاتها في البداية”.. وموازاة مع انشغالاته خلال هذه الفترة، التحق عزيز بلال بكلية الحقوق في الرباط عام 1960 كمدرس لمادة الاقتصاد، فعمل حينها على تأسيس النقابة الوطنية للتعليم العالي وإنشاء قسم خاص باللغة العربية..
كان نشيطا للغاية، ودائم الاشتغال، على الواجهتين السياسية والتعليمية. ويضيف عبد السلام الصديقي في محاولة لرسم بروفايل لعزيز بلال، أنه “بموازاة نشاطه كمدرس والتزامه السياسي على كل الجبهات، شرع في تحضير أطروحة دكتوراه الدولة في العلوم الاقتصادية حول )الاستثمار في المغرب 1912-1964، والخلاصات المستفادة لتحقيق التنمية الاقتصادية(. هذه الأطروحة التي ناقشها ببراعة بجامعة غرونوبل سنة 1965، كانت علامة فارقة في البحث السوسيو- اقتصادي بالمغرب، ما جعله أول اقتصادي مغربي حاصل على دكتوراه الدولة”.
الذين تأثروا بمدرسة عزيز بلال، يقولون إنه كان مفكرا من الطراز الرفيع، بالقدر الذي جعله واحدا من مجددي الفكر الماركسي، ويقول أحد الذين تتلمذوا على يده إن أطروحته، ماتزال الآن مرجعا لكل دارسي علم الاقتصاد. مضيفا أن عزيز بلال قدم تصورات للمغرب أثناء فترة الاستعمار، من خلال تحليل للظاهرة الاستعمارية في المجال الاقتصادي.
في حين قال المفكر عبد الله العروي، إن عزيز بلال “كان أكثر نقدا منا نحن الشبان للأوضاع السياسة العامة، كسياسة الاستعمار وغيرها.. وكان ينتقد أيضا السياسة الرسمية للأحزاب الوطنية.. ففي كثير من الأحيان كنت أوافقه على هذا الانتقاد، وهذا ما عبرت عنه في كتابي المعنون بـ”أوراق”، بحيث كنت أقول، كما قال الطالب الشيوعي، وهذه مكتوبة في كتابي، والطالب الشيوعي الذي لم أذكره بالاسم هو عزيز بلال”.
لعزيز بلال العديد من الاسهامات العلمية كـ”حصيلة الاستعمار” التي شرَّح من خلالها الحقبة الاستعمارية في المغرب، وكيف ركزت على النمو الذي يخدم المصالح الاقتصادية لفرنسا دون تنمية المغرب. فضلا عن مساهمته الغنية المعنونة بـ”الاقتصاد التنموي”، وكتابه الأعجوبة “العوامل غير الاقتصادية للتنمية”، والذي يطرح فيه، وفق أحد تلامذته التقدميين، أسئلة مرتبطة بتصور المجتمع والحرية، “وعدة أسئلة لا يطرحها في العادة الاقتصاديين الكلاسيكيين، لكن كان يطرحها اقتصاديين من طينة ماركس وانجلز وآدم سميت.. أي مفكرين كبار جمعوا بين الاقتصاد والفلسفة، ومفكرين اجتماعيين وبعضهم ناشطين اجتماعيين”. فعزيز، بحسب عبد الواحد سهيل القيادي في حزب التقدم والاشتراكية “مضى في هذا الاتجاه، ثم يمكن أن نقول إنه مؤسس للمدرسة الاقتصادية المغربية، حيث لم يكن هناك أستاذ آخر في الاقتصاد غيره، ثم فيما بعد التحق عدة أساتذة مغاربة درسوا سواء في المغرب أو الخارج والكثير منهم تتلمذ على يده، والكثير منهم تأثروا بفكره”.
ورغم هذا الزخم النضالي والعلمي، رحل عزيز بلال في وقت مبكر.. كان عمره حينها 49 سنة وبضعة أشهر.. ففي يوم 22 ماي 1982، اهتز حزب التقدم والاشتراكية على وقع وفاته الغامضة والمُلَغَّزَة.. وعمت الصدمة أقاربه ومعارفه وطلابه.. ذلك أن نخبة من السياسيين والاقتصاديين في المغرب، تتلمذوا على يده ونهلوا من فكره وارتووا من معين قاموسه النضالي، أمثال الراحل التهامي الخياري وفتح الله ولعلو والحبيب المالكي وسعيد السعدي والراحل إدريس بن علي وآخرين.
كان عزيز بلال، المناضل التقدمي والمثقف العضوي والأستاذ الجامعي الألمعي، كما يصفه التقدميون، بسيطا في معاشه بعيدا عن حياة “الأبهة”، رغم أنه كان آنذاك شخصية بارزة ومحترمة من قبل كل الفاعلين السياسيين، بما في ذلك خصومه، ولعل ذلك هو ما جعل وفاته الغامضة تحدث صدمة آنذاك في الجسم السياسي بالمغرب، خاصة أن وفاته كانت بفعل حادث حريق شب في أحد الفنادق الأمريكية.
وتقول بعض الروايات، إن عزيز بلال، الذي كان يشغل آنذاك منصب نائب رئيس جماعة سيدي بليوط، توجه رفقة وفد مشكل من بعض الوزراء والموظفين السامين إلى مدينة شيكاغو الأمريكية، بغرض عقد توأمة لها مع مدينة الدارالبيضاء، وكان الوفد قد وصل ليلا إلى فندق “هيلتون” بشيكاغو. لكن ما هي إلا ساعات قليلة حتى اندلع حريق بالفندق، نجا الجميع آنذاك عدا عزيز بلال الذي قضى نحبه، ولأنه الوحيد الذي توفي ضمن الوفد، فقد حامت عدة شكوك حول وفاته، لتظل غامضة إلى حدود الآن.
لكن ثمة رواية أخرى، جاءت على لسان رفيقه في الحزب آنذاك عبد الواحد سهيل، والتي أدلى بها في أحد البرامج التلفزيونية، يقول من خلالها إنه بعد وصول الوفد إلى الفندق ليلا، لم يكن الوقت مناسبا لتخصيص الغرف لهم، حيث أخذ كل واحد منهم مفتاحا من المفاتيح الموضوعة فوق طاولة، وقال لهم المسؤولون عن الفندق: “كل واحد ياخذ المفتاح ديالو ويمشي للبيت ديالو على أساس نسجلوه في ما بعد”.. يقول سهيل: “أخذ عزيز بلال مفتاح غرفته بعفوية كما الآخرين، وصعد إلى غرفته، ويظهر، بحكم العياء الشديد، أنه (نعس مزيان)، فاندلعت النيران في الفندق”.. ويضيف سهيل أنه تبين، من خلال التقرير الذي توصل به الحزب، أن عزيز بلال خرج من غرفته بعدما شبت النيران في الفندق، وحاول التوجه إلى ممر النجاة، لكنه سقط قبل أن يصل إلى باب النجاة بثلاثة أو أربعة أمتار، “لم يمت حرقا، وإنما اختناقا بسبب الدخان، وحتى عندما توجهوا به إلى المستشفى كان ما يزال على قيد الحياة، ما يعني أنه توفي داخل المستشفى”.
لقد رحل بلال، لكن فكره ما يزال حاضرا في التفاصيل رغم أربعة عقود من الغياب، كما أن اسمه ما يزال يتردد على أكثر من لسان، كواحد من عباقرة الفكر الاقتصادي والساسي في المغرب، والمدرسة التي فرخت العديد من النخب .. على روحه السلام.