حسن عين الحياة
كل الذين عايشوه، في ثلاثينيات القرن الماضي، كانوا يتنبؤون بمستقبل عظيم لهذا الشاب المًتَّقد.. كان أنيقا للغاية، ومنظما إلى أبعد حد.. مَرِن وصلب في الوقت نفسه، وفوق كل ذلك، يتمتع ببعد نظر ورؤية مستشرفة للمستقبل.. لقد كان المهدي بن بركة، في بداياته الأولى، بحسب من عاصروه، مصدرا للطاقة التي تحرك الآخرين للعطاء والتميز.. وطني من طراز رفيع، وسياسي بدرجة عالية من الذكاء والنقاء، وألمعي حين يبتكر الفكرة الإيجابية. ومؤثر حين يُقنع بها من حوله. وديناميكي حين ينفدها بقدر عال من الحنكة والكفاءة.. ولعل ذلك هو ما جعله يحمل أكثر من وصف، سواء في المغرب أو خارجه، فهو الجمعوي والسياسي والمثقف والأستاذ والمناضل والمعارض والزعيم… وهلم جرا من الأوصاف التي رافقت مسيرته في درب “الأمل والألم”. لكن مباشرة بعد اختطافه واغتياله يوم 29 أكتوبر 1965، سيحمل المهدي وصف الشهيد، الذي نالت منه آلة الغدر.. اختطفته وعذبته ثم قتلته، لكن دون أن تخلف أثرا للدم، فأصبحت عملية قتله عنوانا بارزا لجرائم الاغتيال السياسي المبهمة في العالم، خاصة وأن المهدي بن بركة “شهيد بلا قبر أو شاهد حتى”.
ولد المهدي بن بركة في يناير 1920 في الرباط.. درس بكوليج مولاي يوسف في المدينة نفسها، وكان وهو ابن 15 سنة عضوا في فرقة مسرحية تابعة لقدماء المدرسة اليوسفية بالرباط، وقيل إنه مثل أدورا في مسرحيتين، إحداهما بعنوان “غفران الأمير”.
كان نجيبا ومتفوقا، بالرغم من مزاوجته بين الدراسة والعمل.. ذلك أنه كان يحمل همَّ مساعدة أسرته، وبالتالي عمل بالموازاة مع الدراسة محاسبا في سوق الجملة. وتؤكد عديد المصادر أنه كان ينوب عن المدرِّس حين يتخلف، في إلقاء الدروس نيابة عنه.
حصل المهدي على شهادة البكالوريا عام 1938، وبعدها بفترة قصيرة حاز على دبلوم بشعبة الدراسات الإسلامية.. ولأنه كان مصدرا للضوء، ويلفت الانظار، انتبه إليه المقيم العام الفرنسي الجنرال “نوكيز”، فبعثه معية التلاميذ المتفوقين في عطلة صيفية في باريس.. بعدها اقتحم عالم الرياضيات، إذ لم تمر سوى سنة واحدة حتى نال شهادة الباكالوريا الثانية تخصص رياضيات. بعدها حصل على شهادة الباكلوريوس في التخصص نفسه، ليكون أول مغربي يحقق هذا الإنجاز.
لكن قبل ذلك، وأثناء دراسته، تقول بعض المصادر إنه تزعَّم الحركة الطلابية في ثانوية مولاي يوسف، ونظم وقفات ومسيرات تنديدية بالسياسة الاستعمارية مع مجموعة من التلاميذ. وتضيف المصادر نفسها أنه كان مشرفا على خلية “العمل المغربي”، وكانت بحسب هؤلاء أول منظّمة تحرِض على النضال ضد الآلة الاستعمارية الفرنسية.
بعد حصوله على “الليسانس” التحق المهدي بن بركة عام 1942 بثانوية “غورو” في الرباط، فعمل بها أستاذا.. وفي 1943، التحق بالمدرسة المولوية )الكوليج رويال( لتدريس ولي العهد آنذاك مولاي الحسن، بمعية رفاقه، مادة الرياضيات، فكان ذلك أول قربه من القصر.
كان المهدي وهو حديث السن، ذو مكانة بارزة في المجتمع المغربي، ذلك أنه واحد من الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال عام 1944 وعمره لم يتجاوز 24 سنة. وأحد من أبرز أطر حزب الاستقلال، فضلا عن كون أفكاره وتمرده ضد الوضع القائم، دفع بالاستعمار الفرنسي إلى اعتقاله، ثم نفيه وإخضاعه للإقامة الجبرية.
وهنا يتذكر الاتحادي عبد الواحد الراضي، بعضا من محطات المهدي، الذي كان وقتها ساهرا على عودة السلطان محمد الخامس من المنفى.. ويقول الراضي في كتابه “المغرب الذي عشته”، إنه )أي الراضي( كان آنذاك شابا في سن العشرين، وكانت تنظيمات الحركة الكشفية قوية، وكانت الكفاءات الشابة التي تأطرت في سياق المخيمات الصيفية حاضرة ومنظمة وفاعلة، وكان أطر الجمعيات هم المؤهلون والأفضل في تأطير الشباب، يقول الراضي، قبل أن يضيف من خلال هذا التمهيد، أن هاته الأطر لعبت دورا أساسيا في تنظيم عودة السلطان محمد الخامس من منفاه السحيق. “بأولئك الشباب المؤطر والواعي هيأنا كل الترتيبات الأمنية والتنظيمية لضمان نجاح عودة بن يوسف إلى وطنه وعرشه. وطبعا، كانت العملية كلها تجري بالإشراف المباشر للمهدي بن بركة”.
ويواصل الراضي حديثه، مؤكدا أنه كان ضمن الأطر الشابة التي أشرفت على الجانب الخاص بمدينة سلا في عودة السلطان.. “أي من مطار سلا وعلى امتداد الطريق صوب الرباط. ومع مدخل الرباط وصولا إلى القصر السلطاني كانت هناك لجنة أخرى مشرفة. الجميع تحت النظرة الفاحصة للمهدي وتوجيهاته”.
ولأنه كان الأقرب إليه ضمن الاتحاديين، والأكثر التصاقا به، كشف عبد الواحد الراضي عن بعض الخواص الفريدة في شخصية المهدي بن بركة باعتباره مؤسس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكيف كان هذا الزعيم آلة إنتاجية غير قابلة للتوقف. فقد كان، بحسب المتحدث، يمتلك هبة طبيعية، تتمثّل في قدرة استثنائية على استعادة طاقته الذاتية وتجديد حيويته الجسدية. كانت تكفيه ساعات قليلة من النوم ليتجدّد نفسه وعنفوانه. والغريب، يقول الراضي، أنه كان يتحكم في توقيت استفاقته، وكأنه كان يبرمج ساعته البيولوجية. إذا أراد أن ينام ساعتين، يصحو فعلا بعد ساعتين من النوم. فإذا استفاق من نومه أو إغفاءته، لا يظل مسترخيا. على الفور ينهض من فراشه، على الفور يبدأ العمل، على الفور يتحرك في هذا الاتجاه أو ذاك. كأن المهدي كانت الحركة جوهره وبِلَّور روحه.
ولكي يؤكد هذه الخاصية، يعود الراضي إلى عملية تطويع الذاكرة، من أجل استحضار بعض الوقائع التي كان المهدي دقيقا فيها مثل الساعة.
“مازلت أذكر أسفاري معه، ونحن في فرنسا، أثناء تنقلاته التفقدية بين الفروع الحزبية الموزعة على عدة مدن فرنسية. كان يقود سيارة فولسفاكَن صغيرة، وما أن نصل ونلتقي المناضلين حتى يشرع في عمله التنظيمي. وقد يتواصل الاجتماع الليل كله إلى الساعة الثانية أو الثالثة صباحا. ثم نعود إلى الفندق لننام مؤكدا أنه سيأتي ليوقظني بعد ثلاث ساعات، كي نواصل الطريق إلى مدينة أخرى وموعد آخر. وفعلا، بعد ثلاث ساعات يوقظني فأجده وقد ارتدى ملابسه كاملة وحلق ذقنه وصار جاهزا للانصراف. ويكون عليَّ أن أسرع لألحق بإيقاعه إن استطعت”.
اليوم ورغم مرور قرابة ستة عقود من الزمن على اختطاف واغتيال المناضل الكبير المهدي بن بركة، إلا أنه ما يزال كما كان، عصيا على الضبط، عسيرا على آلة الزمن نفسها، التي تحاول جاهدة أن تضعه في رفوف النسيان.. فهو وإن كان حاضرا بفكره الآن، إلا أن حضوره يكاد يكون قويا في التداول بين الناس، كواحد من أشهر الزعماء السياسيين في المغرب الحديث، وأحد أكبر المناضلين الذين تجاوز فكرهم حدود بلادهم، إلى حيث التفكير الشمولي في مصير شعوب العالم الثالث.. لقد كان لغزا في حياته، وتحول إلى أكبر لغز بعد موته، ليظل اختطافه واغتياله عنوانا بارزا للموت الغامض، خاصة أن كل الروايات والتحقيقات والملفات الصحافية والبرامج الوثائقية والأفلام السينمائية التي تناولت قصته، كانت تعمق أكثر من غموض ملفه المُلَغَّز.
البعض نسب اختطاف واغتيال المهدي للجنرالين أوفقير والدليمي وعناصر من الاستخبارات الفرنسية، يوم 29 أكتوبر 1965. وآخرون أكدوا أن دمه تفرق بين أربع قارات (إفريقيا وأمريكا وأوروبا وآسيا) حيث توحدت جهود عناصر أمنية واستخباراتية من المغرب وفرنسا وأمريكا وإسرائيل، من أجل اختطاف المهدي بن بركة، الذي كان يعتزم تنظيم مؤتمر القارات الثلاث بكوبا، بعد التزامه مع دول كبرى بانعقاده.. لكن في ظل هذه الوقائع، ثمة سيناريو أكده أكثر من مصدر، يقول إن المهدي بن بركة، تم اختطافه أمام مطعم “ليب” في شارع سان جيرمان، في قلب العاصمة الفرنسية باريس.. تقدم نحوه شرطيان فرنسيان وطلبا منه مرافقتهما عبر سيارة للشرطة، ثم غاب عن الأنظار إلى حدود الآن.. لتأتي بعد ذلك عدة سيناريوهات من عدة أطراف مشاركة في الجريمة، وأيضا من عائلته، أغلبها قابل للتصديق، لكن ليس ثمة ما يؤكد صحتها، لتظل جريمة اختطافه واغتياله لغزا محيرا بعد مرور 58 سنة على اقترافها