ليلى خزيمة
تازة،من أقدم المدن المغربية التي لعبتأدوارا مهمة في تاريخ المغرب علميا، وجهاديا ضد المستعمر. عرفت الاستقرار البشري منذ عصور قديمة ويدل على ذلك ما عثر عليه من مخلفات بشرية، أواني فخارية ونقوش يعود أصلها الى ما قبل التاريخ. وهي مركز لمجموعة من المغارات التي تقع على ارتفاع 565 م، ويبلغ عددها الإجمالي حوالي 300 ما بين مغارات وتجويفات صخرية مختلفة، موزعة عبر ربوع الإقليم خاصة في الحيز الجنوبي.
لكل من هذه المغارات كما يقول رئيس الجمعية المغربية للاستغوار والسياحة الجبلية في تازة السيد لحسن منصوري،مميزات خاصة من حيث الشكل، النوع، الطول، العمق واللون، ومن أبرزها مغارة “كيفان بلغماري” أو مغارة اليهودي كما يعرفها أهالي المنطقة.
تقع هذه الأخيرة بالجهةالشرقية بجبل “شكر” المتكون من مادة”التيف” الكلسية. ويقع مدخل المغارة على بعد 100 متر من باب الجمعة الفوقاني باتجاه باب الجمعة التحتي، بجوار السور الأثري المريني المزدوج غربا، فضلا عن حصن دفاعي جنوبا تم إنشاؤه خلال فترة حكم الدولة السعدية أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وهو الحصن الشهير بـاسم “البستيون”.
الهيئة والتكوين الجيولوجي
تكونت مغارة كيفان في صخور كلسية وطينيةمفتوحة على الجهة الشرقية من مدينة تازة العتيقة أو تازة العليا. يصلارتفاعمدخل المغارةالممتدة على شكل ملتو نصف دائري تقريبا إلى حوالي9,5م عرضا و4م طولا، وهي ذات شكل غيرمنتظم وغير معين خاصة في الجهة اليمني.
المغارة عبارة عن تجويف واسعيصل قطره17 م وارتفاعه 5 م في أعلى نقطة.
يحتوي مركزها على عمود صخري قطره يتراوح ما بين 2 إلى 3أمتار على مستوى القاعدة، يرتكز عليه سقف المغارة.
وهي مقسمة إلى ثلاثة أجزاء واضحة، هي المغارة البدائية أو الجزء الطبيعي أي الذي احتفظ بهيئته الأصلية منذ تشكله في المرحلة الأخيرة من الزمن الجيولوجي المتقدم.
والمغارة ذات الجدران المعدلة التي تمثل الجزء الثاني الذي اكتشف به الحجر المصقول وحسب الأبحاث والدراسات فإن يد الإنسان قد ساهمت في تحويره عن شكله الأول، لعوامل معيشية تخص الإنسان البدائي. أماالجزء الثالث من المغارة فهو المعتبر حديثا، وقد تم تصنيفه من طرف الباحثين كجزء أركيولوجي بشري أساسا.
كما تظهر المغارة على شكل تجويف صخري بعدة طبقات ومستويات حياة بشرية تراكمت عبر آلاف السنين.فخلال البحث في المدخل الخارجي للمغارة، اكتشف الباحث الفرنسي جوزيف كومباردو آثارا مميزة للعصر النيوليتكي ووجد نوازل و صواعد مهشمة جزئيا، مما مكن من إبراز تدخل يد الإنسان البدائي الذي كان يقطنها ومن أتى بعده أيضا، وحينما تمكن الفرنسيون من تحييد المكان وإزالة ما علق به، اكتشفوا مباشرة بعدها أشياء لافتة للنظر.
كما عثرواعلى تمثيل صخري دائري يجسد قرص الشمس يبلغ قطره 1,3 م، نُحت من طرف البدائيين على سطح صخرة بارزة، وقد خمن الباحثون أن يكون لذلك علاقة ببعض عبادات ومعتقدات فترة معنية.
الاكتشافات ولقى مغارة اليهودي
تم اكتشاف موقع مغارة “كيفان بلغماري” من طرف الملازم الأول جوزيف كومباردو، الذي قام ببحوث ودراسات نشرها ما بين 1915 و1916 عندما قدم إلى المغرب إبان عهد الحماية.نتائج اكتشافات وبحث كومباردو صادق عليها عدد من الخبراء البيئيين الفرنسيين، مثل فرانسوا دوميرك وبول بلاري ولوكوانتر.
وقد أبانت عما كانت عليه البيئة محليا خلال فترة ما قبل التاريخ وما طبعها من تنوع وعيش ما زالت بعض عظامه محفوظة في متحف وهران بالجزائر.
ومن جملة ما تم العثور عليه في هذا الموقع، سلسلة أدوات حجرية وعظمية ومواقد تعود إلى فترة ما يعرف ب “الموستيري”و”الابيرومغربي”، إلى جانب عظام بشرية وأخرى حيوانية تخص الضبع والأسد والحصان والحمار والخنزير والغزال والخروف والجمل والنمر والدب ووحيد القرن والثعلب والأرنب، وغيرها مما انقرض من هذه المنطقة الجبلية لتازة ومما لايزال بها إلى حد الآن.
كما وُجدت في أرضية الرواق أعداد من الصوانأو الأحجار المصقولة أشبه ما تكون بسكاكين بدائية تستعمل للقطع والتقليم. بعض الأدوات تعود إلى العصر الإيبيرو- موريسي وبعضها إلى العصر الحجري المتوسط، والبعض الآخر يعود إلى الفترة المتأخرة لما قبل التاريخ أو ما يسمى بالعصر الحجري الحديث.
كما تم العثور على رؤوس سهام كانت توظف في صيد الوحيش أوفي بعض الصراعات حول الكلأ والمؤونة أو الطعام. إضافة إلى بعض أدوات الزينة من الصوان نفسه.
وتم العثور أيضا على عدد من هياكل العظام وبقايا أخرى مجهولة، والأغلب أنها تعود إلى الإنسان البدائي الذي قطن مثل هذه الكهوف، مع بعض الحيوانات التي كانت موجودة بالمنطقة مثل “الكامليد” وهي ما بين الخراف والجمال وكانت شائعة في ذلك العصر.كما تم العثور أيضا في الفضاء الأعمق للمغارة على عظام حيوانات أخرى كالثعلب ونوع حيواني متميز بين الثعلب والنمر، ووجدت عظام الأسد والفهد ونوع من دببة الكهوف.
وفي الطبقة المتوسطة من التشكيلة الصخرية، عثر على أدوات حديدية ووسائل طعام بدائية مع أشكال مستطيلة وبقايا عظام بشرية مغلفة بالرماد المتبقي عن النار وقواقع بحرية، تبين من خلال الابحاث بأن الأمر يتعلق بقبور قديمة.
كما اكتشفت في المقطع الأوسط للمغارة، إلى جانب تلك الأدوات القديمة، بقايا قطع فخارية مبعثرة تشكل قللا وأوان خزفية لفترات تاريخية لاحقة. مما يؤكد تعاقب التشكيلات البشرية والتاريخية على هذه المغارة.
بناء على ما تم العثور عليه، فإن الإنسان الذي عاش في مغارة كيفان بلغماري اعتمد على أدوات بحجم صغير من شفرات وعظام، فضلا عن حلي عبارة عن أصداف بحرية مثقوبة وأنياب حيوانات، إلى جانب ما تم العثور عليه من آثار لنقوش صخرية متفردة في مواضيعها وإشاراتها في علاقتها بحياة الإنسان والغابة والحيوان وغيرها.
وجل محتويات مغارة كيفان بلغماري من لقى وأدوات حجرية وحديدية وطينية والتي تعد رصيدا هاما بالنسبة لفترات ما قبل التاريخ على الصعيدين المحلي والوطني والإنساني.
وبما ان هذه اللقى كانت في عهد الحماية،فقد تم نقلها إلى متحف أحمد زبانة الأثري الكائن بوسط مدينة وهران بالجزائر.
مغارة كيفان بلغماري مسكن إنسان ما قبل التاريخ
تدل الدراسات التي قام بها المختصون أن مغارة كيفان بلغماري كانت مسكنا لإنسان أزمنة ما قبل التاريخ، بناء على ما تم العثور عليه فيها من شواهد حياة وتفاعل بشري قديم.
ولاحتواء الموقع على ينابيع طبيعية تسمح بوجود غطاء نباتي، فقد اتخذها الإنسان كفضاء استقرار له، مع وجود أجواف في الصخور استغلها كمقابر.
كما أزاحت الدراسات والبحوث والتنقيبات التي أجراها المهتمون الستار عن مجموعة من الاعتقادات والعادات المتعلقة بإنسان هذه الحضارة المغربية المتوسطية مثل طرق الدفن وتفضيله واعتماده في عيشه وتغذيته كذلك على الحلزون.
كما تم التعرف على الانشغالات والحاجيات الفنية والتعبيرية للانسان الذي سكن المنطقة في الفترة ما بين عشرين ألفا وثمانية آلاف سنة قبل الميلاد من خلال النقوش التي عثر عليها بالموقع.
أتاحت كذلك هذه الدراسات فهم ارتباط السكان الأمازيغ بهذه المنطقة المشجرة، المزودة بالينابيع، حيث كان لديهم موطن للعيشومقبرة في التجاويف الطبيعية.
وتكمن أهمية هذه المغارة حسب اكتشافات كومبارد في الحفاظ على تراكم في حالة جيدة من الحفظ، على مستويين أثريين متميزين: أحدهما موستيري والآخر إيبيروموروسي. مما منح الملازم جوزيف كومباردو إمكانية عزلهم ورسم عدة رسومات تخطيطية تحدد موقع اكتشافاته بشكل دقيق.
زخم معرفي واكتشافات قيمة جعلت من مغارة كيفان أو مغارة اليهودي كما يعرفها سكان المنطقة، من أهم مواقع البحر الأبيض المتوسط الاثرية. فقيمتها ودلالاتها التاريخية التي توصل إليها الباحثون في عشرينيات القرن الماضي تؤكد بعدها الإنساني وصفتها كإرث مادي ولا مادي وحضاري للمغربي المتوسطي.