إعداد : عبد الرحيم باريج/منير حموتي
إن اليهود والمسلمين يلتقون في نقاط مشتركة أمام ظاهرة زيارة الأولياء والصديقين حسب التعبير اليهودي، مع احتفاظ كل من الظاهرتين بخصوصيتها،خصوصا فيما يتعلق بشخصية الولي أو الصديق، ويمكن إرجاع هذا التقارب بين المجتمعين اليهودي والإسلامي فيما يخص هذه الظاهرة إلى التعايش الذي يزيد عن ألفي سنة من الزمن،امتزجت فيها الثقافتان على أرض المغرب فأنتجت عادات وتقاليد مشتركة دون أن تتنازل إحداهما عن حقها في رسم طريقها المميز لها في مجمل المجالات، كما أنتجت صراعا على أضرحة بعينها.
لتبقى مدينة وجدة وبشهادة العديد من المؤرخين المغاربة والأجانب رائدة في مجال التسامح الديني والتعايش بين الأطياف الدينية، وهو ما تجسده واحة سيدي يحي التي تضم ضريح الولي الصالح سيدي يحي بنيونس الذي ما زال مزارا مقدسا للمسلمين واليهود والمسيحيين عبر قرون بدون حساسيات أو مزايدات,,,وتبقى واحة سيدي يحي بنيونس القطب الروحي والمقدس للوجديين ولغيرهم من الأديان السماوية.
تعتبر السمة الكبرى للمجال البشري ليهود مدينة وجدة هي المجال الجغرافي الذي يحيل على اليهود في المدينة القديمة لوجدة، إذ لم يكن هناك قط تجمع يهودي مغلق، مع وجود حافز أغلبية يهودية في مدينة وجدة، حسب المعطيات التاريخية المتوفرة إلى حدود عام 1906، ولم يكن هناك (ملاح) بتاتا..ما يعد، بحسب الدارسين، وخاصة منهم ذ.بدر المقري، مؤشرا واضحا على رسوخ قيمتي التسامح والتعايش لدى الوجديين.
واستعمل مصطلح الملاح بوجدة مجازا في بعض المصادر الكولونيالية الفرنسية، فالقصد به إلى أغلبية يهودية كانت مقيمة في مجال جغرافي مفتوح في المدينة القديمة لوجدة، في طريق المازوزي وحي أولاد عمران وحي أهل الجامل. وأن المجال الجغرافي المفتوح في المدينة الجديدة لوجدة، الذي زكى عدم انغلاق المكون اليهودي في المجتمع الوجدي وانعزاله، يمكن تحديد معالمه المجالية، بعد عام 1907 تاريخ احتلال فرنسا لوجدة، في طريق مراكش وطريق فجيج وطريق تاوريرت وطريق القنيطرة وطريق الدار البيضاء وطريق سيدي إبراهيم وطريق قسنطينة وطريق الجزائر ودرب بوعزيز…
وأشاد من جهة أخرى، الدكتور إسحاق كوهين، بالدور الهام الذي يضطلع به صاحب الجلالة الملك محمد السادس في ترسيخ قيم السلام والتعايش والحوار بين الأديان، وقال في كلمة ألقاها باسم وفد اليهود المغاربة الذي حل بمدينة وجدة، خلال حفل افتتاح المعبد اليهودي بعد إعادة ترميمه، أن هذا الحفل “شكل مناسبة للوقوف على الدور الذي اضطلع به جلالة الملك في سبيل تكريس قيم الحوار والسلام”، وأكد كوهين على أن “اليهود والمسلمين يمتلكان تاريخا طويلا من التعايش ولذلك يتعين السير على نهج المغرب الذي استطاع البحث عن مستقبل للتعايش.وهو ما يمكن أن تحذو حذوه العديد من بلدان العالم”.
وتوجد مجموعة من المعالم الكبرى لقيمتي التعايش والتسامح في مقاربة موضوع تاريخ يهود مدينة وجدة، كتعدد وتنوع أصول يهود مدينة وجدة الذي لم يمنع من تقاطع معابدهم الدينية الثلاثة في خصوصيات المدرسة المغربية اليهودية (معبد الهبرة ومعبد أولاد يشو ومعبد أولاد ابن الدرعي).
ومن مؤشرات شيوع قيمتي التسامح والتعايش في المجتمع الوجدي، مراعاة أهل وجدة من المسلمين توقير واحترام مقامات يهودية كانت تتمتع بمنزلة خاصة عند يهود وجدة، وهي مقام مخلوف بن دحان اليزناسني الذي توفي حوالي سنة 1800 ميلادية، ومقام عمران الرواس (توفي حوالي 1820) ومقام حاييم أمويال (توفي حوالي 1875).
وكانت ثمة خيوطا للتأثر والتأثير تصل مكونات المجتمع الوجدي من مسلمين ويهود في عادات اللباس والطبخ، حيث أن مساحات اللباس التي كان يشترك فيها المسلمون واليهود بوجدة تتمثل بالنسبة للذكور في القندريسي التركي والعباية البيضاء من الحرير والجلابة الصوفية البيضاء أو الرمادية والبلغة الصفراء والشاشية الحمراء، وتكمن بالنسبة للإناث في البدعية والبروال والبشماق والمنديل والبنيقة والريطة والزروف والصدرية والصاية والجلطيطة ولبلوزة والشربيل والمنصورية.
إضافة على أن مساحات الطبخ المشتركة بين اليهود والمسلمين في مدينة وجدة كانت تتمثل في الدفينة والتفايا والخضر المرقدة بالخل وكعب الغزال والمقروط والزلابية والشامية.
وكان يهود مدينة وجدة مولعين بالموسيقى العربية الأندلسية (التقاليد الشعرية والموسيقية الغرناطية المتداولة بوجدة) والتي اشتهر من شعرائها أحمد بن التريكي التلمساني الذي أقام بوجدة (توفي حوالي 1757) ومحمد بن مسايب التلمساني (توفي حوالي 1747) وبومدين بن سهلة التلمساني (توفي حوالي 1797) ومصطفى بن إبراهيم العباسي الذي زار وجدة (توفي حوالي 1867).
والموسيقى اليهودية العربية، عند يهود وجدة متعلقة بالتقاليد الشعرية والموسيقية التي صاغها اليهود في قالب شعري بالعربية العامية، وفي قالب موسيقي غرناطي. ومن أشهر الإنتاجات المتداولة عند يهود مدينة وجدة إلى منتصف الستينيات من القرن العشرين أغاني سامي المغربي (1922-2008).
واشتراك المسلمين واليهود في حمل أسماء شخصية معينة،وخاصة عند الإناث، ومن نماذج ذلك بوجدة عائشة ورقية ورحمة وميمونة وسلطانة وجوهرة ومسعودة ويامنة والعالية والزهرة وعزيزة.ودون أن ننسى مساهمة عائلتي (أمسلم) و(كوهن) في تأسيس فريق المولودية الوجدية عام 1946.
واعتبر كتاب “طقوس الأضرحة والأولياء اليهود بالمغرب”، لمؤلفه اليهودي “بن عمي” أن الولي سيدي يحيى بن يونس من بين 36 وليا الذين يتصارعهم اليهود والمسلمون، وأشار المؤلف إلى وجود 126 وليا يشترك المسلمون واليهود في زيارتهم وقد قسم هذه اللائحة إلى ثلاثة أنواع، أولياء يهود يزورهم المسلمون من بينهم سيدي ابراهيم، وأولياء مسلمون يزورهم اليهود ومن بينهم سيدي رحال، وأولياء يتصارعهم اليهود والمسلمون ومن بينهم سيدي يجيى بن يونس، وقد أشار الكاتب إلى مجموعة من العادات اليهودية والمغربية المشتركة في الإحتفالات والولائم بمناسبة إحياء المناسبات الخاصة.
و يستشهد العديد من سكان واحة سيدي يحيى على هذه العلاقة بين الضريح واليهود بالزيارات المتتالية لبعض اليهود المغاربة إلى هذا الضريح أثناء زياراتهم إلى مدينة وجدة، بل منهم من يذهب إلى أن الإصلاحات التي عرفها الضريح سابقا أو التي سيعرفها لاحقا كان وراءها يهود مغاربة، ولا يمكن مقاربة هذه الظاهرة إلا بالبحث في الوجود اليهودي بوجدة، فالكثير من الآثار تؤرخ إلى وجود يهودي قوي في الماضي.
وتوجد في شارع طارق بن زياد بوسط المدينة مباشرة خلف شارع محمد الخامس، بيعة يهودية قديمة على وشك الانهيار الكامل، بعد أن انهار سقفها تماما وأصبحت معرضة للسقوط التام في أي وقت. ويبدو من جدران البيعة المتآكلة، أنها بنيت في بداية القرن الماضي، بينما توجد فوق بابها، أو ما تبقى من علامات الباب، نجمتان سداسيتان، واحدة مشكلة بالحديد، وأخرى منقوشة على الجدار.
ولا تثير هذه البناية القديمة، أي اهتمام خاص بين السكان باستثناء دعوتهم إلى ضرورة الإنتباه إليها، قبل أن تسقط على المارة في يوم ما، في شارع يعرف عادة حركة مرور دائبة.
ويثير انتباه الزبناء الدائمين في مقهى “المولودية” المجاور للبيعة القديمة الاهتمام المتزايد لبعض المصورين الذين يلتقطون صورا للبيعة ثم يذهبون.
وقال رجل متقدم في العمر أنه جاء قبل مدة قصيرة مجموعة من رجال ونساء، والتقطوا صورا للبيعة القديمة، وقالوا إنهم يهود ولدوا في وجدة ويعيشون الآن في إسرائيل أو فرنسا.
وفي نهاية الشارع نفسه، ما زال أحد الفنادق يحمل اسم “فندق سيمون”، غير أنه لم يعد في ملكية اليهود الذين باعوا كل شيء وغادروا، ومالكه المغربي توفي رحمه الله، ثم بعدها تم إغلاقه إلى يومنا
ويتذكر السكان بصعوبة، أسماء يهود سبق لهم العيش في المدينة، حيث يشيرون إلى بعض بائعي الحلي والذهب، أو طبيب كان يعيش قرب سينما الملكي، أو آخرين كانوا يعيشون في بلدة دبدوالتابعة لإقليم تاوريرت.
وطبيب يهودي آخر يدعى دافيد بنحاييم، وكان شهيرا في المنطقة في جبر الكسور،وكان يملك ضيعة في المنطقة باعها سنة 1970 ثم هاجر إلى مكان ما، ويتذكر عدد من كبار السن في وجدة، أن اليهود لم يكونوا يعيشون في مناطق خاصة، مثل تلك الحارات التي عرفت باسم الملاح في عدد من مدن الأخرى، بل عاشوا متفرقين في كل مناطق المدينة، جنبا على جنب مع السكان المسلمين والمسيحيين وتلك في اعتقاد الباحثين ميزة خاصة لمدينة وجدة وسكانها.
ويجمع السكان، بمن فيهم يهود، على أن الكثير من أفراد الطائفة اليهودية في المدينة، كانوا يختصون أحيانا في أعمال وضيعة مثل “تمليح” رؤوس البشر وتعليقها فوق أسوار المدينة، حتى تكون عبرة للصوص أو المتمردين أو المعارضين السياسيين لنظام الحكم وقتذاك.
وكانت الهجومات التي تتعرض لها وجدة،عادة ما تخلف العشرات من الرؤوس المقطوعة التي تعلق على أسوار المدينة القديمة، وخصوصا فوق باب “سيدي بن عبد الوهاب” من الجهة الجنوبية للمدينة. وكان اليهود يأخذون تعويضا ماديا مقابل رش الرؤوس المقطوعة بالملح،حتى لا تتعفن،ووضعها فوق الأسوار.
وأشارت مدام بنعبيدة، وهي يهودية مغربية، تشرف على العقد الثامن من عمرها، حسب ما ذكره ذ.عبد المنعم سبعي رئيس تحرير جريدة “الحدث الشرقي”، أن ذلك كان يحدث منذ وقت طويل.
وكانت قطع الحديد التي تعلق فوقها رؤوس البشر المملحة، موجودة فوق باب سيدي عبد الوهاب إلى وقت قريب، غير أنها اختفت أو كادت.
ولم تكن تلك الرؤوس تتعلق برؤوس مجرمين أو لصوص فقط، بل أيضا رؤوس معارضين سياسيين أو ثوار، عادة ما تلصق بهم تهمة اللصوصية، وتعلق رؤوسهم على الأسوار لتكون عبرة لباقي المعارضين.
وأوضح مصطفى نشاط،أستاذ التاريخ بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بوجدة، أثناء إجراء جريدة “الشرق الأوسط” تحقيقا حول “عمير بيريتس” بمناسبة صعوده إلى رئاسة حزب العمل الإسرائيلي، أن عددا أكبر من اليهود كانوا يعيشون في دبدو، وأن عددا منهم كانوا من الذين تم طردهم من الأندلس في القرن الرابع عشر..
وأن دبدو التي تبعد عن مدينة وجدة بحوالي 140 كلم، كانت في الأصل مدينة ذات أغلبية يهودية، وأن منطقة تيك شبيلة، هي في الأصل عبارة أصلها “طريق إشبيلية”، والتي حرف نطقها مع مرور الزمن، وأصبحت أغنية شعبية متداولة على نطاق كبير في مختلف مناطق المغرب، خصوصا في المدن التي عرفت وجودا يهوديا قويا، وهي في الأصل أغنية شعبية يهودية، تبدأ بعبارة “تيك شبيلة تيو ليو لا. ما قتلوني ما حياوني..”.
وأشار كذلك الكاتب الوجدي ذ.محمد العرجوني بذات المناسبة، إلى أن الوجود اليهودي في المدينة، يتمثل أيضا في “التنافس” بين المسلمين واليهود، في إضفاء قبر “سيدي يحيي بنيونس” بضواحي المدينة، حيث يزعم اليهود أيضا أنه من نسلهم، فيما يستنكر المسلمون ذلك ويقولون إنه مسلم.
ويوجد قبر سيدي يحيى بن يونس في واحة من أشجار النخيل في سفح “جبل حمرا”، تدعى واحة سيدي معافة، حيث يقام حوله موسم زيارة شهر في شتنبر من كل عام، يجمع كل قبائل المنطقة. وذكر ذ.العرجوني إلى ما حدث خلال الأحداث الشهيرة في المنطقة في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، التي عرفت باسم “زازة اليهود”، وهي أحداث قتل فيها عدد منهم في صدامات مع السكان المسلمين، أججتها أياد خفية من أجل دفع يهود المنطقة للهجرة إلى “إسرائيل”.
أضاف ذ.العرجوني،أن تلك الأحداث ما زالت ذكراها حاضرة إلى الآن، حيث لعبت دورا كبيرا في رحيل يهود المنطقة، من غير أن يستبعد وجود أياد ل”الموساد” فيها من أجل دفع يهود المنطقة للرحيل، في وقت كانت “إسرائيل” في أوج حماسها من أجل استقبال كل يهود العالم بعد إنشاء “إسرائيل”.
ومن المحتمل جدا أن تكون هجرة أسرة رئيس حزب “العمل الإسرائيلي” السابق،هاجرت من منطقة وجدة مباشرة بعد أحداث “زازة اليهود”.
ذكر المصادر التاريخية، أن عددا كبيرا من الأسر اليهودية، كانت تسكن وجدة من بينها أسر بنسادون وبن عيشو، وبن سوسان وبواعزيز، وشقرون وكوهن ودحان ودراي والباز، والغوزي والقايمو القوبي وإمسالم وقارسنتي وطبول وتواتي والصبان وسوسان وعمياش وأسولين وبن وليدو أزويلوس وأزنقوط وبن حاييم وبن حمو وبن غيغي وبن عبيدة وبن عروس وبن شتريت…
غير أنه لم يبق اليوم أحد من هذه الأسر اليهودية، باستثناء أفراد قليلين جدا معدودين على رؤوس الأصابع، غابوا تماما في زحمة النمو السكاني الكبير للمدينة، ومعها جهة الشرق التي أصبحسكانها اليوم يقاربون المليون نسمة.