ليلى خزيمة
بعد نجاح ابداعاتها والصدى الطيب الذي حازته لوحاتها ضمن المعرض الجماعي الذي نظم برواق المكتبة الوسائطية لمسجد الحسن الثاني والذي اختتم ليلة البارحة، عبرت الفنانة التشكيلية نادية عبادي عن سعادتها بمشاركتها في هذه التجربة الأولى في مسارها الفني. وللتعرف عنها أكثر وعن أسلوبها في العمل وعن هذه التجربة، اختصت جريدة المنعطف بهذا الحوار.
حدثونا عن مسيرتكم الفنية. متى بدأت؟ وكيف تحولتم بعد 34 سنة في مهنة التدريس الى الفن التشكيلي؟
شكرا لاهتمامكم ولهذه المساحة التي منحتموها لي. إذا ما تحدثنا عن الفترة الزمنية، فمنذ ثلاث سنوات بدأت في رسم معالم لوحاتي. أما إذا تحدثنا عن حبي وتعلقي بالفن بصفة عامة، فعمره من عمري، وأنا الآن أستاذة متقاعدة. كان الفن دائما رفيقي. فكل ما قدمته منذ نعومة أظافري، ألبسته حلة جميلة سواء على الصعيدي الشخصي أو العملي. حتى على مستوى الهندام، أحب دائما تقديم وترتيب الأشياء بأحسن طريقة وبمنظر يبهر الآخر. فحياتي المهنية وحياتي قبل وبعد التقاعد وحياتي منذ ان أصبحت أحمل لقب فنانة، تسير في منحى واحد وبخط تحريري مسترسل هو الفن والتفنن. لم يكن هنالك قطيعة بين كل هذه الفترات. ولحسن الحظ أن التخصص الفعلي جاء بعد التقاعد، فلربما لم أكن لأنجح في تطوير مهارات قبل هذا. وكما قلت فالفن كان دائما لصيقا بي. ففي فترة التدريس، كنت أعيش فترتين في زمن واحد. فترة الدرس المقرر من الوزارة، وفترة كنت أقوم من خلالها بتأطير التلاميذ في الأنشطة الموازية سواء تعلق الأمر بالقراءة أو الشعر أو الكتابة أو المسرح. وعندما نتمعن قليلا، نجد أن عملية التدريس والطرق والأساليب المعتمدة من تغيير ديكور الفضاء وتغيير الأماكن واعتماد الألوان للتمييز والشرح، كلها بالنسبة لي تندرج ضمن الفن. كنت ألتجأ دائما إلى كل ما هو رسم لشرح الدرس، حتى ففي فترة الطفولة، كنت بارعة في تقديم دفاتري في أحسن صورة،لذا فأنا كنت دائما فنانة في داخلي. كل ما فعلته منذ ثلاث سنوات هو اعتماد الريشة فعليا.
كيف جاءت فكرة مشاركة الجمهور بإبداعاتكم من خلال المعرض؟
من قبل، كل رسوماتي وأشعاري وكتاباتي، كانت خاصة جدا ولا أشاركها مع أحد إلا أفراد العائلة. لكن الفكرة كانت تراودني دائما. في أحد الأيام، أدركت أنهفي حوزتي ما يزيد عن 31 لوحة دون التي أهديتها. عندها بدأتأقتنع أكثر فأكثر بالفكرة،إلى أن أتيحت لي الفرصة وتمكنت من عرض لوحاتي بالمكتبة الوسائطية لمسجد الحسن الثاني والتي دامت نصف شهر. وهي مبادرة من أفراد عائلتي.
تعرضون اليوم لوحاتكم بالمكتبة الوسائطية لمسجد الحسن الثاني. ما هي رمزية اختيار المكان؟
بناء المعلمة كان ولازال وسيضل تحديا معماريا وهندسيا وجماليا. وأظن أن أعمالي هي أيضا نوع من التحدي. فهي أول مرة أعرض فيها مشاريعي وحلفني الحظ لأعرضها في فضاء له دلالته ورمزيته لدى المغاربة. فهو فضاء حيٌبزواره المغاربة والأجانب طيلة اليوم. وهو فضاء يشهد على الابداع الفني التقليدي المغربي. فرمزية المكان في حد ذاتها معبرة بشكل كبير.
ما هي القيمة المضافة للتعريف بفنكم في إطار معرض جماعي؟
منذ البداية، لم أكن أتخيل إبداعاتي بمعرض فردي. فعندما بدأت الرسم كان حلمي هو عرض لوحاتي رفقة فنانين آخرين حتى أتمكن من مقاربة أعمالي بأعمالهم. فالعرض الجماعي قيمة مضافة. فلو لم أعش التجربة لما تمكنت من التحدث عنها معكم اليوم. فهي فسحة لي أمام الفنانين الآخرين، والنقاد والزوار وعائلتي التي تراني بشكل مغاير وفي فضاء آخر. تجربة جديدة أتواصل من خلالها مع فئة أخرى من المهتمين. فهي نقطة التقاء ما بين ما أقدم وما يقدم المبدعون الآخرون. وهي تفاعل بين تجاربنا وإبداعاتنا. هي حفلة فنية عرضت فيها إبداعاتي التي سافرت بعيدا عني ضمن إبداعات أخرى. فالقيمة المضافة هي مشاطرة حبي لفني مع الآخر وبين الآخر.
كيف رأيتم تفاعل زوار المعرض مع إبداعاتكم؟
عندما كنت أزور المعارض من قبل كنت ألاحظ تواجد زوار من المهتمين بالفن يحملون هواتفهم لالتقاط الصور ومقاطع تصويرية للتمعن فيها وإبداء آرائهم وانتقاداتهم، وكنت متوجسة من ذلك. لكن في أول يوم من معرضي، اختفى التوتر رغم أنني لا أعرف الأشخاص الذين حضروا ما عدا أفراد عائلتي وبعض الأصدقاء الذي جاؤوا لمساندتي. خلال هذا اليوم، قدم العديد من الزوار للبحث عني والتأكد من أننيأنا من رسم هذه اللوحات. شعرت حينها بإحساس غريب يمزج ما بين الفخر والامتنان والمتعة.
على يمين مدخل رواق العرض، كانت هنالك لوحة عنوانهاأجيالوهي من مجموعةأسميها“البلدي”. فتوقف عندها واحد من الزوار، وأخذ يشرح لي ويعبر عن رأيه في اللوحة دون أن يعرف من أكون. عبر عن إعجابه باختيار الألوان وترتيب الاحجام والاشياء.قالأنمجمل لوحاتي أبهرته وأعجب بها كثيرا،وأن لديه تحفظا واحدا وهو حجمإبريق الشاي. عند انتهائه عرفني بنفسه كناقد فني وفنان فقلت له أنا صاحبة هذه اللوحة وشكرته. فالتفاعل مع الأشخاص الذين حضروا كان عفويا واستمتاعهم بأعماليأسعدني كثيرا.
ما هو الأسلوب الذي تعتمدونه في العمل؟
سؤال يتطلب تفكيرا عميقا. فهو تلخيص لمسار حياتي. فإذا ما أردت التحدث عن أسلوب العملي في لوحاتي، يجب أن أتحدث عن أسلوب حياتي. فالفن الذي أبدع ضمنه هو الفن التصويري. وهذا الفن يسلط الضوء إما على الأشياء أو الأفكار. وطريقة عملي على اللوحة تتطلب تركيزا كبيرا. فعندما أتناول موضوعا ما، أقوم بذلك بطريقتين مختلفتين وعلى مراحل متعددة. فإما أن تأتي الفكرة أو تلفت نظري كلمات أو جمل وسأكتبها بشكل عشوائي. وما أكتبه هو الذي سيوحي لي بفكرة اللوحة. وإما العكس، ريشتي وقماشة الرسم هي التي ستلهم الكلمات في مخيلتي. فعند الانتهاء من اللوحة أجدني أمام زخم من الكلمات والأفكار التي ستشكل النص الشعري أو القصة. هذه هي طريقتي في العمل. لذلك قلت أنهاتتطلب تركيزا كبيرا. ناهيك عن أنني في حياتي اليومية،أنا شخص شديد الملاحظة والتحليل. فمن طبعي اقتناص اللحظة سواء كانت صوتا أو صورة أو إحساسا أو حدثا أو لحظة سكون. أعيش كل هذابإحساس عميق يترجم من خلال الريشة والألوان والاشكال والاحجام والأبعاد. فلوحاتي هي نصوص بصريةوقصص أعيشها. عندما أرسم لوحة للفن المعماري التقليدي المغربي، ربما لن يتعرف الجمهور على التقنيات التي استعملتها، لكن سيصله نفس الإحساس الذي اعتراني. فالنظرة لا تتوقف عند الأشياء بل تبحر عبر الخطوط والانحناءات. وهذا التنقل بالنسبة لي هو لوحة في حد ذاتها.
هذا يحيلنا على طبيعة المواضيع التي تعالجونها من خلال الريشة؟
الريشة كما القلم يساعدانني لإيصال ما يستهويني. أعنى مواضيع تنهل من حياتي وما أعيشه. وهي جزء من الفضاء الذي ترعرعت فيه في قلب المدينة العتيقة بالرباط. كل الموروث المغربي له دلالة تعبر عن الحب القوي للفضاء الذي عشت فيه. الحب الذي أحمله لأجدادي واعتزازي بانتمائي يجعلني أحس بأنني حارسة هذا الإرث. ومن خلال لوحاتي يوجد دائما أثر لفرد من عائلتي ليس بشكل شخصي، لكن من خلال رمزية الأشياء والفضاءات. من خلال لوحاتي، أحاول تكريم هذه الشخصيات. وهذا هو الفن “البلدي”الذي أشتغل عليه. كما أعتمد كثيرا في أعمالي على عالم النباتات العملاقة بشكل مبهر لأبرز هيبتهم وجمالهم. ففني يقوم على الاحترام والدقة.
لاحظنا من خلال اللوحات تحولا في طبيعة الألوان، فلما هذين العالمين؟
قصتي مع الألوان تحاكي نوعا ما سرا خاصا. ففي لوحاتي الأولى اعتمدت كثيرا على الألوان الباردة. فأنجزت ما يقارب ست لوحات ضمن خانة هذه الألوان من أزرق ورمادي وأخضر داخل إطار مبهم وسينوغرافيا ليلية. عندما تحولت إلى الألوان الصاخبة اعتمدت اللون الأصفر فالأحمر والبرتقالي. الأولى هي تعبير عن حالة نفسية معينة في زمن معين عانيت فيه من الحزن والرتابة والمرارة، الشيء الذي يلزم التعبير عنه بهذه الألوان بكل تدرجاتها.ابتداء من سنة 2022 أنجزت لوحة أجيال. استعرضت في هذه الأخيرة مقتنيات خمس نساء من عائلتي بداية من جدتي “لالة غيتة” إلى حفيدتي “غيتة”. بين هاتين الشخصيتين المتشابهتين في الاسم قرن من الزمن. فنجد مرآة وزليج وثوب جدتي مرورا بمنديل أمي المطرز إلى إبريق الشاي خاصتي وكؤوس الشاي من “البلار”والمسبحة الخاصتين بابنتيْاللتين تمثلان الجيل الرابع وصولا إلى حفيدتي. من خلال هذه اللوحة حاولت أن أجمع ما بين شخصيتين لم ترى بعضهما البعض أبدا هما جدتي وحفيدتي لأعبر عن حياة ما لم تعش في الواقع لكنها حية في لوحتي. وابتداء من هذا العمل، تغيرت طبيعة الألوان في ابداعاتي من الباردة إلى الدافئة عن طريق اللون المحايدالبنفسجي. فكانت هي الخطوة التي انتقلت من خلالها من السكون إلى الحياة وهذا ما يعطي بعدا للوحاتي.
وكيف توظفون الإضاءة في أعمالكم الفنية؟
في أي عملي تشكيلي، إذا ما أردنا التعبير عن الضوء يجب أن نشتغل على الظلال. فهما ثنائي متلازم ولا يمكن التفريق بينهما. والإيحاء هو جوهر الرسم.
هناك تقنيتين اثنتين. إما استخدام التدرج في الألوان من الغامق إلى الفاتح والذي سيوحي بالمرور إلى إضاءة هادئة. وكلما وظفنا التقابل ما بين الألوان الباردة والألوان الدافئة بشكل متقارب، كلما اشتدت الإضاءة.
بعد نجاح هذا المعرض، ما هي مشاريعكم المستقبلية؟
لن أتحدث عما سيأتي لأنني لا أتحكم فيه. فكما أقول لابنتيْ لا أعرف إذا ما كان أمامي وقت كاف لإنجاز كل ما أفكر فيه. بصيغة أخرى أَمَلي كبير في إنجاز لوحات بصفتي حارسة للتراث الثقافي المغربي والعائلي، وأتمنى أن أحافظ عليه من خلال لوحاتي. أرغب في منح حياة ونفس جديدللأشياء التي عشت معها وأحببتها وتفاعلت معها. فقد عشت في طفولتي داخل بيوت عتيقة من التراث المغربي الأصيل ورُسِمَت ملامح هذه الفضاءات في ذاكرتي وأتمنى أن أُترجم حبي لها من خلال إبداعاتي حفاظا عليها من الضياع والنسيان. كما سأتابع رسم الطبيعة في سحرها وأنفتها ورقيها. أود أن أمنح اللحظات القصيرة للجمال حياة أطول، حتى تبقى لوحاتي شاهدة على زمن عائلتي وزمن موروثي المغربي وزمن من رحلوا وتركوا بصمة في حياتي.