قدماء الحلايقية في سوق شطيبة–الحلقة 1
حسن عين الحياة
بسوق “شطيبة” الذي يحتل مساحة واسعة بحي مبروكة بسيدي عثمان في الدار البيضاء، كان هناك فضاء مُترب شاسع، أصبح الآن عبارة عن حديقة خضراء.. هذا الفضاء الذي انتعشت فيه “الحلقة” كفن شعبي، ظل إلى أواخر التسعينيات من القرن الماضي احتفاليا بامتياز، وباذخا من حيث تناسل الثقافات الشعبية والروافد المغذية للتراث الشفهي، لكنه الآن، أصبح “يتيما” يعيش على ذكرى “الحلايقية” الكبار، ممن ألهبوا ألباب الناس بالقصص والأساطير والتفكه بسخرية لاذعة من الواقع المعيشي آنذاك.
بعد صلاة العصر، كان الحلايقية يتسابقون على احتلال الأمكنة المناسبة لتقديم الفرجة، كل يجتهد بطريقته الخاصة في جمع الناس من حوله، قبل أن يصبح كل واحد منهم يتجه لمكانه دون مزاحمته للآخر، وإن كانوا لم يتفقوا على ذلك، وحدها التلقائية عنصرا مكملا للاحتفالية، ما دام أن لكل واحد من هؤلاء الحلايقية جمهوره الخاص، ومن أبرزهم: الفكاهي أحمد الطويل.
الفنان والمبدع “حمد الطويل” طاقة هائلة في الإضحاك، يعتمد على جسده ولغته البدوية في السخرية، وإدخال الناس في عالم من المفارقات بين العروبي وبين المديني.. فعندما يأتي “حمد الطويل” خاصة خلال أيام شهر رمضان، تَنْحل كل الحلاقي المجاورة، كما لو أنها عقد جواهر انفرط فجأة، حيث يتجه الناس إليه.. طمعا في “كوكطيل” فكاهي مفتوح على الارتجال.
كان هذا الحلايقي من أبناء كاريان ابن مسيك، يأتي دائما متأخرا إلى سوق شطيبة.. يأخذ له مكانا منزويا قرب “طبيب الأسنان الشعبي” الذي يتوسط خيمة بجانبها أكوام من الأضراس القديمة، يظهر “حمد طويل” فجأة في مكانه، يرتدي شاشية حمراء، ثم يشرع في العزف على آلة المزمار بعض معزوفات “الغياطة”، وكان ذلك منبها خاصا يخبر من خلاله زوار السوق بوجوده في هذه الساحة المتربة. وعلى الرغم من كونه كان يشتغل بمفرده (قبل أن تلتحق به مجموعة أخرى تعتمد على آلة الوتار وأحد العيساويين ممن يشربون الماء الساخن وترويض الأفاعي)، كان أحمد يشتغل داخل حلقة فسيحة، له سلطة على الناس فيها، فهو محترم جدا بينهم، إذ بإشارة منه يحدد قُطر الحلقة التي يريد قبل أن يشرع في العرض: “الفرق بين ولد لمدينة وولد العروبية كبير بزاف.. لمديني فرمضان كايتسحر شلاضة.. مع الـ12 ديال النهار كتلقاه كيبقلل فعينيه، وكيقول لمراتو وهو سخفان.. معرفتش مال النهار طوال أسميتك.. (يجسده بحركاته التي تثير الضحك في الناس)، أما ولد العروبية، كايتسحر بمسمنة قد الرويضة، مدهونة بالسمن الحار وزيت العود.. مللي كايتكرع كايقتل الذبان، تقول مسحر بفليطوكس”. ثم ينتقل للحديث باستضافة عن المرضي والمسخوط، وعن الكريم و”الرعواني”، وخلال العرض يتوقف فجأة.. “قبل من نهضروا على الرعواني، هزو يديكم (يخاطب الجمهور)، معانا هنا واحد مريض قولو الله يشافيه.. (الكل يردد الله يشافيه)، واحد مهموم ومغموم، قولوا الله يفرج همو، (يردد الناس الله يفرج همو).. أنا غادي ندور دورة وحدة، راه الحلقة هي خدمتي، نشطوني باش نشطهم..” ثم يلتقط درهم من هذا ودرهمين من آخر وهكذا.. لكن حين يتلقى “مبلغا كبيرا” يتوقف.. “هذا ديما دايرنا بين عينيه، عطاني ألف فرنك مجموعة (ورقة نقدية انقرضت)، الله يجمع شملو، ويعلي مقامو ويحيَّد الشوك من قدامو.. وهذا عطا ميا شقفة، بيضة، الله يبيض سعدو..، وهذا عطا ريال صفر، كايضحك معانا، وما عارفشقيمتو (يتحدث إلى مول الريال ويقوم بحركة فيها كثير من كوميديا المواقف)، فتنطلق ضحكات جماعية، تفقد معها الحلقة توازنها، قبل أن يعيد الحلايقي ضبطها من جديد.
يجمع حمد الطويل “لحصيصة” ويضعها في حقيبته، ثم ينطلق في الفرجة.. “قال ليك الزين إلى عنق الزين، بحال إلى زارو مكة عامين، والويل إلى عنق الويل.. بحال إلى كمش موكة فالليل..” يقول الحلايقي، ثم يضيف “الزين حبو الله، كاتلقى لمرا الزينة شادة ولدها وكتقول ليه، قول أولدي A قولB، كتعلمو من صغرو.. أما الويل لكحل كتلقاها مركبة الولد وتقول ليه، قول أولدي بومزوي، قول الجذري، عاير بوك..” ثم يشرع في تجسيد بعض الأدوار في محاولة لإشباع نهم المتحلقين حوله.
لقد كان هذا الفنان الشعبي الموهوب، ملهما لجيل تواق إلى صناعة النكتة، ذلك أن عددا من الفنانين المسرحيين في منطقة بن امسيك سيدي عثمان، تحلقوا حوله وهم أطفالا، وكان ملهما، بل ومحرضا على ركوبهم مغامرة الإبداع من بوابة المسرح، شأنه في ذلك شأن عدد من “الحلايقية” الكبار، ممن سنسرد بعض أخبارهم في الآتي من الحلقات.