الحسن الثاني يطور “الدروس الحسنية” إحياءً لعادة السلاطين والملوك العلويين في رمضان
حسن عين الحياة
قد يتساءل كثيرون، وهم يتابعون الدروس الحسنية التي يترأسها الملك محمد السادس في شهر رمضان الكريم، عن السر الكامن وراء تلك الجاذبية التي تميز هذه الدروس عن كثير من مجالس العالم والفقه في الجغرافية العربية والإسلامية، خاصة وأنها تحولت في عهد الملك محمد السادس، كأمير للمؤمنين، إلى “جامعة رمضانية” يحج إليها العلماء والفقهاء والشيوخ والمقرئين من شتى بقاع العالم، لإلقاء الدروس وتفسير القرآن الكريم وشرح الأحاديث النبوية الشريفة، والتداول في أمور الدين وفق رؤى معاصرة تتماشى مع تجديد الخطاب الديني، وما تمليه المتغيرات وحاجيات العصر.
لقد ظل الملك محمد السادس منذ اعتلائه عرش المملكة عام 1999، وفيا لإحياء سُنة المجالس الدينية في رمضان. ذلك أنه كان منذ طفولته،يرافق معية شقيقه الأمير مولاي رشيد وباقي أمراء القصر، والده الملك الراحل الحسن الثاني أثناء ترأسه للدروس الحسنية، وكان كما هو موثق في عديد الدروس المصورة، ينصت بإمعان إلى محاضرات كبار العلماء والفقهاء والشيوخ، وهم يتداولون في شؤون الدين من منطلق آية قرآنية أو حديث شريف.. وهنا، كان الحسن الثاني كأب أولا، يزرع حب المجالس الدينية في أبنائه الأمراء والأميرات، بالنظر إلى عراقتها كإرث تاريخي قديم دأب عليه سلاطين المغرب منذ قرون.
من هذا المنطلق، يُفهم سر تشبث الملك محمد السادس بإحياء سُنة الدروس الحسنية في شهر رمضان، والتي عرفت في عهده نوعا من التحديث،بدخول المرأة العالمة لأول مرة تاريخ الدروس الحسنية، من منطلق عنايته بالمرأة عموما، حيثألقت في حضرته الدروس وذلك بحضور العديد من العلماء والمفكرين والمثقفين والدبلوماسيين من المغرب وخارجه.
في هذه الورقة، نسلط الضوء على تاريخ الدروس الحسنية، وكيفية تجديدها وتطويرها من قبل الملك الراحل الحسن الثاني، مع التركيز على هذا الملك الذي كان أول حاكم في سلالة العلويين يلقي بنفسه درسا أمام كبار العلماء والفقهاء، مع التوقف عند بعض هذه الدروس التي يبرز فيها الحسن الثاني ملكا وعالما وفقيها ومحدثا ومفسرا، وإن كان قد نفى عنه في إحدى دروسه هذه الصفات.. لنتابع.
الدروس الحسنية من السلطان المولى إسماعيل إلى الملك محمد السادس
في إحدى الدروس الحسنية، أشار الملك الراحل الحسن الثاني إلى سر تشبث السلاطين والملوك المغاربة بهذه المجالس الدينية في رمضان،حيث قال: “قد يتساءل الناس، لماذا نحيي هذه الدروس؟”، ليجيب “إنه تقليد سرنا عليه منذ قرون..”.
وبحسب عدد من المراجع التاريخية، كان سلاطين وملوك الدولة العلوية يقيمون في شهر رمضان مجالس دينية، يحضرها العلماء والفقهاء والقراء ونخبة من رجال القصر.. ففي عهد السلطان المولى إسماعيل، كانت هذه المجالس تقام بأمر من السلطان في قصره خلال شهور رجب وشعبانورمضان، وتناقش فيها أمور الدين وعلم الحديث وعلوم الفقه والتفسير والشريعة.. وهنا يقربنا العلامة محمد الصغير اليفرني من عادات المولى إسماعيل في رمضان، قائلا: “ومن عادته أن يُسرد عليه كل يوم فصل من كتاب إلى أن يختمه، ويبتدئ كتابا آخر، وكل ما مر على أذنه من الحكايات الرائقة والأخبار المستظرفة لا ينسى منها شيئا، بل يستدل بذلك في مواضع الاستدلال، ويفصل بواسطتها عقود ألفاظه البليغة، ولم ير الناس أحفظ منه ولا أثبت ذهنا ولا من يقاربه في سيلان الذهن وجودة القريحة”.
بدوره، كان السلطان محمد بن عبد الله، الذي حمل لقب “سلطان العلماء”،قد نهج أسلوبا جديدا لمجالس العلم في رمضان، بعد تطويق المجالس العلمية بالانكباب على علم الحديث وحده. ويقول بعض المؤرخين، إن هذا الأسلوب الذي أنشأه لم يمت بوفاته، حيث أصبح عرفا احترمه سائر السلاطين الذين تعاقبوا بعده، إلى غاية تولية السلطان المولى الحسن الأول.
وقبل الحسن الأول، عُرف عن السلطان المولى سليمان حبه للعلماء، وكان بدوره يقيم في شهر الصيام مجالس العلم في قصره، حيث قال المؤرخ الناصري عن هذا السلطان:”وأما الدين والتقوى فذلك شعاره الذي يمتاز به ومذهبه الذي يدين الله به، من أداء الفريضة لوقتها المختار حضرا وسفرا، وقيام رمضان وإحياء لياليه بالإشفاع، ينتقي لذلك الأساتيذ ومشايخ القراء، ويجمع أعيان العلماء لسرد الحديث الشريف وتفهمه والمذاكرة فيه على مر الليالي والأيام، ويتأكد ذلك عنده في رمضان، ويشاركهم بغزارة علمه وحسن ملكته، ويتناول راية السبق في فهم المسائل التي يعجز عنها غيره، فيصيب المفصل، ويواظب على صيام الأيام المستحبة من كل شهر، ويعظم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ويرفع مناصبهم على سائر رجال دولته…”.
أما السلطان الحسن الأول، فكان بحسب المؤرخ الناصري الذي عاصره ينظم في شهر رمضان مجلسا للعلماء والفقهاء، حيث قال:”ثم دخل السلطان المولى الحسن أعزه الله رباط الفتح، صبيحة يوم الخميس التاسع والعشرين من رمضان المذكور، عام 1290هـ، وكان العيد يوم السبت، فأقام السلطان أيده الله سنة العيد برباط الفتح، وختم به صحيح الإمام البخاري على العادة، وكان فقيه المجلس ومدرسه يومئذ: الفقيه العلامة السيد المهدي بن الطالب ابن سودة الفاسي، وحضر ذلك المجلس وفود المغرب وقضاة العدوتين وعلماؤها”.
وعلى هذا النهج سارالملك الراحل محمد الخامس في إحياء سنة المجالس الدينية، والتي عرفت في عهده نوعا من التحديث بالنظر إلى ازدهار النهضة التعليمية التي دعا إليها، لكنها لم تكن منتظمة بالنظر إلى الظروف السياسية التي كان يمر منها المغرب بسبب السياسة التي فرضها الاستعمار آنذاك.. وكانت هذه المجالس تضم علماء المغرب الموظفين بالقصر الملكي وبعض المسؤولين والقضاة، كما ترأسها عدد من الشيوخ أبرزهم الشيخ أبو شعيب الدكالي والشيح محمد بن العربي العلوي المذغريوعدد من شيوخ المغرب.
لكن مع اعتلاء الملك الراحل الحسن الثاني عرش أجداده،أخذت الدروس الحسنية منذ أول درس عام 1963 شكلا آخراأضفى عليها هالة من القداسة.حيث اتخذت هذه الدروس، بحسب بعض المحللين،توجها دينيا، لكن ببعد سياسي لمكافحة الصراع القائم آنذاك بين اليسار والناصرية والقومية،قبل أن تصبح مجمعا لتدارس العلوم الدينية ومناقشتها، بلوترجمتها إلى عديد اللغات الحية. وهذا ما أخرج الدروس الحسنية من المحلية إلى العالمية، وذلك بعد أن قام الحسن الثاني بتحديثها وتطوير شكلها وانفتاحها على علماء الإسلام، لتصبح موعدا سنويا قارا يحج إليها العلماء والفقهاء من شتى بقاع العالم. وعلى النهج نفسه، سار نجله الملك محمد السادس الذي أصبحت في عهده الدروس الحسنية منفتحة أكثر، خاصة بعد سماحه للمرأة العالمة أن تلقي في حضرته الدروس، بعدما كانت مغيبة في سائر العهود السابقة. وكانت أول امرة تدشن هذه الدروس،الدكتورة رجاء ناجي مكاوي، وذلك في 7 نونبر 2003، بحضور نخبة من رجال العلم والسياسة.
تجديد وتطوير شكل “الدروس الحسنية” من قبل الحسن الثاني.. وهؤلاء أبرز العلماء الذين حضروها
كانت الدروس الحسنية تُعرف في المغرب قديما بـ”المجالس الحديثية”، غير أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ستطلق عليها اسم”الدروس الحسنية” نسبة إلى الملك الراحل الحسن الثاني،وإن كان كثيرون يقولون إن الملك الراحل هو الذي وسمها بهذا الاسم..
لكن بعيدا عن أصل التسمية، فإن الحسن الثاني أدخل على هذه الدروس، منذ بداية عهده كملك،تعديلات جوهرية، ساهمت في إشعاع رسالة الإسلام الكونية، بالقدر الذي أضفى على هذا الاسم (الدروس الحسنية) جاذبية عند أهل العلم والفقه، خاصة عندما حافظ الحسن الثاني بحسب عديد المراجع على إحيائهاوالحرص على إقامتها كل شهر رمضان بشكل قار، وأيضا تجديد وتطوير شكلها وإطارها وفي مفهومها ودلالتها وفي موضوعاتها وشخصياتها أيضا. ولعل هذا التحديث هو ما أعطى لهذه الدروس بُعدا كونيا، من كونها أرقى مجالس العلم على الصعيدين العربي والإسلامي.
وبحسب مجلة “دعوة الحق” الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، إنه في إطار التجديد والتطوير، خرج الحسن الثاني بالمجالس الحديثية من إطارها المحلي الضيق إلى إطار أوسع وأشمل، حيث أخذ الملك الراحل يستدعي لها طائفة من علماء المسلمين من مختلف البلاد الإسلامية، من المشرق وشمال إفريقيا، إلى جانب إخوانهم علماء المغرب.
وتبعا للمصدر ذاته، لم تعد هذه الدروس مقتصرة على شهر رمضان وحده، فقد كانت تقام أحيانا في بقية شهور السنة، حيث أصبح الحسن الثاني يعقد مجلسا شهريا في مختلف بلاد المملكة.
ومن أبرز العلماء والفقهاء والمحدثين المشارقة، الذين ألقوا دروسا في حضرة الملك الراحل الحسن الثاني،الشيخ محمد متولي الشعراوي، والعلامة الراحل الفاضل بن عاشور مفتي الديار التونسية الذي ظل من المداومين على المشاركة في هذه الدروس،وخلفه الشيخ الدكتور محمد الحبيب بلخوجة، ثم الدكتور محمد عبد الحليم محمود شيخ الأزهر السابق، والشيخ أحمد عبد الرحيم عبد البر،والشيخ يوسف القرضاوي، إضافة إلى العلامة أبو الأعلى المودودي من باكستان، والأستاذ سعيد الصالحي من الجزائر، والدكتور صبحي الصالح من لبنان، والدكتور محمد فاروق النبهان، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة من سوريا، والدكتور عبد العزيز الخياط من الاردن، والشيخ إسماعيل صادق من الإمارات العربية وغيرهم كثير.
أما الذين حضروهاوشاركوا فيها من علماء المغرب وشيوخه فهم كثر، ومن أبرزهم، الشيخ العميد الرحالي الفاروق، والعلامة علال الفاسي، والشيخ المكي الناصري الذي كان يفتتح الدروس الحسنية أحيانا بدرسه عندما كان وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية، والعلامة عبد الله كنون، والأستاذ الحسن الزهراوي والعميد المرحوم الجواد الصقلي، والعميد المرحوم مولاي عبد الواحد العلوي، والأستاذ محمد حماد الصقلي وغيرهم كثير.
وعلى الرغم من حضور هذا الكم الهائل من العلماء والشيوخ، ممن كان لهم وزنا في البلاد الإسلامية، للدروس الحسنية، إلا أن الملك الراحل الحسن الثاني، سيتفضل شخصيا بإلقاء عدد من الدروس في حضرة نخبة من أهل العلم، حيث سيبرز ضمنها كفقيه وعالم ومحدث ومفسر، وإن كان نفسه ينفي عنه هذه الصفات.
الحسن الثاني أول ملوك الدولة العلوية يلقي بنفسه درسا مستقلا في المجالس الحديثية
عندما نعود إلى أرشيف الدروس الحسنية من 1963 إلى 1999، يستوقفنا الملك الراحل الحسن الثاني، بحضوره البارز وسط نخبة من كبار رجال العلم في العالم الإسلامي.. تارة ينصت بإمعان، وتارة أخرى يتدخل لإضافة شيء للمعنى، أو للاختبار.. وبين هذا وذاك، يبرز الحسن الثاني كفقيه في الدين، وفوق ذلك كعالم يقارع الحجة بالحجة، لكن بذكاء خارق ودهاء منقطع النظير.. لذلك، تقول مجلة “دعوة الحق” إن الحسن الثاني يعتبر “أول ملوك الدولة العلوية الذي اختص بدرس مستقل في المجالس الحديثية يلقيه بنفسه، شانه في ذلك شأن العلماء، يتناول فيه تفسير آية قرآنية أو حديث نبوي، بأسلوب فريد وطريقة مبتكرة تعتمد على الاجتهاد والاستنباط وإظهار مزايا هذا الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان ومظاهر تجدده الدائم”.
ومن بين الدروس التي ألقاها بنفسه: درس تغيير المنكر من منطلق الحديث النبوي الشريف “من رأى منكم منكرا فليغيره…” عام 1966.
وشرح حديث: “كم من رجل لو اقسم على الله لأبره” بتاريخ 16 دجنبر 1967.
ودرس “الامانة وجلال قدرها في شريعة الإسلام”، بتاريخ 5 دجنبر 1968.
الحسن الثاني يلقي أول درس حسنى بنفسه وسط كوكبة من رجال الدين
كان أول درس يلقيه الملك الراحل الحسن الثاني بنفسه في الدروس الرمضانية، يتعلقبـ”تغيير المنكر”، وذلك في ختام الدروس الحسنية لرمضان الموافق لعام 1966.. وهنا يأخذنا الشيخ الأردني الراحل عبد الله غوشة الذي حضر هذا الدرس إلى أجواء الدروس الحسنية في حضرة الحسن الثاني، حيث يقول “والواقع أن السنة التي ينتهجها جلالة الملك الحسن الثاني في استماعه للأحاديث الدينية خلال أيام شهر رمضان الفضيل سنة حميدة تعيد إلينا ذكرى المجالس العلمية التي كانت تعقد في أيام المسلمين الأولى بحضور الخلفاء والملوك والأمراء، وكبار الرجال.. كانت هذه الدروس تلقى بحضور جلالة الملك الحسن الثاني، إذ يجلس على الأرض، ويجلس أمامه العلماء، وعن يمينه سفراء الدول العربية والإسلامية، وعن يساره الوزراء ورجال الحكم والمدراء ورجال الثقافة والفكر، وقد دعا لحضورها أربعة علماء من الدول العربية: اثنان من الجمهورية العربية المتحدة، وواحدة من تونس، وأنا عن الأردن، وبقية العلماء من المغرب، وهم كثيرون”.
وقبل أن يفتتح درسه، قال الراحل الحسن الثاني بحضور العديد من العلماء والفقهاء: “رأيت من الواجب على أن أقوم بحديث ـ ولو بحديث فضولي متطفل ـ عند انتهاء الدروس الدينية التي تقام كل سنة في شهر رمضان. وقد أجهدت نفسي على أن لا أرجع إلى مرجع. ولا أطالع كتابا، أو تفسيرا، أو تأويلا، حتى يكون حديثي هذا بمثابة امتحان لا لي فحسب، ولكن لجيلي، ذلك الجيل الذي قضى أكثر أيامه في الكفاح، ذلك الجيل الذي حجبت عنه حضارته ـ ومنع من ثقافته ـ ذلك الجيل الذي كان يذهب إلى الدرس وإلى التعليم خلسة وخفية من الأعداء ومن المستعمرين ـ فإذا وفقنا الله سبحانه وتعالى تمكنا بأن نقول بأن جيلنا ـ رغم ضيق علمه، وعدم اتساع اطلاعه ومعرفته باجتهاده وبمقارناته ـ أمكنه أن يعلم ولو النزر القليل من الديانة الإسلامية والسنة النبوية، وإن نحن والعياذ بالله لم نوفق فيسكون ذلك لنا حافزا بأن نسعى دائما وراء العلم، ونعاشر أهل العلم، ونجالسهم، حيث أنه يقال: (لا حد للكمال ولا نهاية للفضيلة)”.
بعدها استرسل في الملك في درسه..كان درسا مرتجلا، ومرتبا بمنهجية علمية حيرت كبار الفقهاء والعلماء ممن حضروا تلك الجلسة العلمية. ذلك أن تفسير الراحل الحسن الثاني للحديث النبوي الشريف: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، لم يكن بحسب المهتمين تفسيرا فقهيا، بقدر ما استند في تفسيره، كما قال الملك نفسه، “على ضوء السياسة الاجتماعية، وعلى ضوء فصل السُّلط وعلى ضوء تنظيمها”.
فتغيير المنكر باليد، بحسب الملك الراحل، هو من اختصاص القيِّمين على الأمور، ويدخل في نطاق مفهوم الدولة وحاكم البلاد والوزراء والعمال والولاة والقواد والقضاة والموظفين السامين والمسؤولين. أما تغيير المنكر باللسان، ففسره الراحل الحسن الثاني، بأن اللسان يفيد الإخبار أو الكتابة، “عليه أن يكتب إلى عامل الإقليم أو إلى والي المدينة أو إلى قاضي القرية.. أن يكتب لهم ويمضي كتابه أو يبلغه بواسطة الهاتف، وهو لسان المنكر الذي رآه وشهده وشاهده، حيث يمكن للقائمين على الأمر أن يغيروا ذلك المنكر”، يقول الملك الراحل، قبل أن يضيف في شرحه للحديث النبوي الشريف، عن تغيير المنكر بالقلب، قائلا: “فإن لم يستطع فبقلبه.. ما معنى القلب؟ لا أعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال بقلبه قصد القلب، لأنه ليس من شيم النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عبقرية الإسلام أن ننطوي وننزوي ونكون كالرهبان نتعبد ونستغفر لغيرنا، بل حتى في قلبه أراد بذلك عملية إيجابية وحركة، بمعنى، بخلقه في نظري، بسيرته، فليكن مواطنا صالحا، موظفا نقيا، رجلا نزيها في أمانته، رب أسرة لا يقوم بأي منكر ولا بأي فاحشة بكيفية عامة “.
أما معنى “أضعف الإيمان” فتفسيره بحسب الحسن الثاني،”هو الحد الأدنى الذي يُطلب من كل عضو في المجتمع، ذلك المجتمع الذي خلقه الله في صورة تعاقد جماعي أو ترابط اجتماعي بين فرد وفرد، بين الجماعة والفرد، بين الدولة والجماعة، بين الدولة والأفراد، ذلك هو الحد الأدنى الذي يتطلب من ذلك الشخص الذي تعاقد مع إخوانه ومع كيان دولته ومع أنظمتها”.
وقد كان هذا الدرس طويلا ومستفيضا، دفع بالشيخ الأردني الراحل عبد الله غوشة إلى الانبهار بإلمام الملك الراحل بأمور الدين، حيث قال بعد عودته إلى وطنه لجريدة “الدفاع” الأردنية: “وكان الحديث الديني الأخير من سلسلة المحاضرات الرمضانية لجلالة الملك الحسن الثاني، فكان مسك الختام وقد شرح فيه قوله عليه السلام: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).. والحقيقة لم أكن أظن أن جلالته على هذا القدر من العلم، ولا أنه واسع الاطلاع بهذا الشكل. فقد استشهد في شرح حديثه بكثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية والآثار. وهو يحفظ القرآن الكريم حفظا جيدا ـ كما علمت ذلك ـ وجلالته يحب العلم والعلماء”.
الملك الراحل يشرح بحضور كبار العلماء حديث “كم من رجل لو أقسم على الله لأبره”
بعد عام على ألقائه درس “تغيير المنكر”، ختم الحسن الثاني الدروس الحسنية لرمضان الموافق لعام 1967 بشرح مستفيض للحديث النبوي الشريف “كم من رجل لو أقسم على الله لأبره”، وافتتحه الحسن الثاني درسه، بعد البسملة والثناء على النبي الكريم، قائلا:”جردت العادة في نهاية دروس رمضان أن أتطفل على مائدتكم وما هو من اختصاصاتكم، فنحن لسنا من الفقهاء ولا من المحدثين ولا من المفسرين المتخصصين، فَسَلَفًا نرجو منكم التسامح، كما أننا نطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على تفسير هذا الحديث وشرحه وتطبيقه، تفسيرا وشرحا وتطبيقا يزيدنا إيمانا وتعلقا بملة أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم”.
وأضاف الحسن الثاني قائلا، إنه تذكر “بهذه المناسبة مثلا عربيا عاما أصوغه في قالب فصيح وهو يقول: (لا تتخل عن عادات، يسبب لك تركها معادة)، إذن فما علينا إلا إن نحافظ على هذه العادة، ونسهم معكم بنصيبنا لا كمفسر ولا كمحدث ولا كعالم ولا كأستاذ، ولكن كراع عليه مسؤوليات الراعي، ومسؤوليات الراعي ـ كما تعلمون ـ هي مسؤوليات جسام ومتعددة في أنواعها وأزمنتها وأمكنتها، ولما كانت هذه الرعاية تصادف شهر رمضان الذي هو شهر الصيام والإمساك عن كل معصية، وشهر الإنابة إلى الله تعالى ـ صارت رعايتنا ـ اعتبارا للزمان وللمكان في شكل تقديم بعض النظريات من شأنها أن تعزز جانب الدين في قلوبنا وتثبت عليه أقدامنا”.
وفي شرح الحديث المشار إليه، قال الملك الراحل “إنني وجدت هذا الحديث لطيفا في مبناه، عظيما في معناه، وجدته بابا مفتوحا وافقا فسيحا لا حد له ولا نهاية أمام كل عبد مسلم، وقبل أن أشرح هذا الحديث وأطبقه على ديننا وعلى دنيانا وعلى المسلمين أجمعين، أود بطريقة موضوعية ، إن لم أقل بطريقة حديثة ـ أن أظهر فضل هذه الديانة، ديانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، على سائر الديانات الاخرى، حتى يمكننا إذ ذاك أن نقيس أعمالنا ومعاملاتنا بالديانة الاسلامية، وحتى يمكننا أن نبشر أنفسنا ويبشر بعضنا بعضا،أنه من الممكن أن يكون منا في كل زمن وفي كل وطن، ذلك الرجل الذي إذا أقسم على الله أبره”.
وقسَّم الملك درسه أو الأحرى شرحه للحديث النبوي الشريف إلى عدة فقرات حملت عناوين مختلفة، أبرزها: الاسلام مسك ختام الرسالات السماوية ـ الاديان من حيث الزمان والمدلول والرسول… ـ عيسى يحرر الأفراد ـ المعجزة الخالدة ـ عيسى روح الله وكلمته ـ شمول الرسالة المحمدية ـ الله…الله…يا أهل القلمـ أخرجنا من ديارنا والرأس مرفوع…وعناوين أخرى.