ليلى خزيمة
يقول العلامة المختار السوسي في المعسول، الجزء الثاني:
هذي جنان الخلد أم هذي بـــــزو منى كل نفس لو يدوم لها الفوز
عرفت ابزو منذ القدم كمركز تجاري بفضل موقعها على طريق القوافل الواصلة بين دمنات وفاس. وقد وصفها المؤرخ حسن الوزان في مؤلفه وصف إفريقيا: «ابزو مدينة قديمة يجري من تحتها واد العبيد على بعد نحو ثلاثة أميال. وسكان ابزو كلهم تجار أُمَناء، حسنو الهندام، يُصَدِّرون الزيت والجلود والأغطية إلى بلاد السودان، ويُنتِج جبلهم كثيرا من الزيت والحبوب، ومختلف أنواع الفواكه الطيبة. وتمتد الحدائق الغناء إلى ضفة النهر.».
كما وصفها أحد المؤرخين البرتغاليين الذي كان أسيرا في بلاط السعديين بمراكش: «ابزو مدينة قديمة تضم أزيد من ألف وخمسمائة ساكن في موقع لائق ملائم على جبل شاهق في جبال الأطلس تحيط بها أسوار، وبروج مشيدة بالحجر الموثق بالجير… السكان بربر من قبيلة مصمودة، نساؤهم بيض جميلات أنيقات.»
حسنو الهندام ونساء أنيقات، لابد وأن يكون وراء الإبداع التراثي الأصيل ” الجلباب البزيوي ” الذي تشتهربه القرية عبر العالم، أناس عارفون بسر الصنعة.
البداية والنهاية
يبدئ صنع الجلباب البزيوي بجز الصوف صيفا، لمساعدة القطيع على التمتع بالفصل المشمس وجني ما تكاثر على ظهورها من الصوف. يكون الجز بمقص حديدي خاص، في طقوس احتفالية غالبا ما يتم خلالها عقر ذبيحة من القطيع.
يخزن المحصول السنوي من الصوف. والفائض منه، كان يصدر لفاس ومراكش والمدن الأخرى، ومن هذا الصوف، تنسج النساء البزيويات الزرابي والجلباب البزيوي.
يكون غسل الصوف وتهيئته وفق طقوس خاصة، وبأدوات تنظيف طبيعية سواء أكان الصوف “بطانة”،أي جلد خروف مسلوخ بصوفه بعد الذبح، أو صوفا مُجزّا. يوضع الصوف تحت شلال العين لحظة حتى يتسلل الماء إلى كل أجزائه. يرفع ويوضع على صخور ملساء أعدتها الطبيعة لهذا الغرض. يفرغ مسحوق نباتي منظِّف يسمى “تيغشت” بين ثنايا الصوف.
يفرك الصوف حتى يتسلل المسحوق إلى كل الثنايا. تقلب “البطانة” بحيث يصبح الصوف في الداخل والجلد في الخارج، لتبدأ ضربات النساء بالعصي تنهال على عليها.
بعد إشباع البطانة ضربا، تعاد إلى الماء لتنظيفها من بقايا المسحوق، وما بقي بها من أوساخ وعوالق مثل التبن، الدهون أو الدماء. بعد التنظيف، يتم تجفيفها بوضعها في سلة أو نشرها على الصخور، قبل تحريكها بقوة بين امرأتين ليتطاير ما بها من ماء.
يُحمل الصوف إلى البيت لينشر في الظل، حتى يجف، وقبل أن تنبعث منه أية رائحة كريهة، تبدأ المرأة في خلخلة الصوف بمشط كبير، يده من الخشب وأسنانه حديدية طويلة، معد لهذه المهمة.
وبعد ما يقارباليوم، يكون الصوف قد نضج، وسهل فصله عن الجلد. تأخذ المرأة المشط وتدفعه في الصوف، تجذبه فتفصله عن الجلد، وعندما يمتلئ المشط صوفا، تأخذ المرأة مشطا آخر فارغا. وعبر ضربات متتالية يتم تحويل الصوف من مشط لآخر، وتستمر في تبادل الصوف بين المشطين في عملية تسمى “الخلخلة”حتى يصبح الصوفناعما خالصا ناصع البياض.
وإذا كان الصوف لا زال في حاجة إلى معالجة، يتم تمريره بين “القراشل” وتبدأ المرأة في تمرير الصوف من واحدة إلى أخرى بعد حكهما في الاتجاه المعاكس حتى يصير أكثر نعومة.
بعد الخلخلة يتم تشكيل سنابل من الصوف المعالج، وأحيانا قد لا تحتاج النسوة إلى استعمال “القراشل”. ويتم استخراج السنابل مباشرة من المشط، إذ تجلس المرأة إلى الأرض، وتمسك المشط بقدميها، وتبدأ في سحب الصوف تدريجيا للحصول على سنابل صوفية طويلة.
بعد تكوين السنابل، تأتي مرحلة تنقيتها بالشفاه. تمرر المرأة السنبلة أمام عينيها بعد هلهلتها، وإذا ما بدت لها حبة أو عقدة صوفية تنزعها بشفتيها.وعندما تصبح السنبلة أو “السبولة” جاهزة للغزل، تُلف على مغزل يدوي، وهو عبارة عن عودين صغيرين أملسين. تلف السنبلة على واحد منهما، ويتم إثقال الآخر بخرزة خشبية تسمى “ثقالة” تشكل فلكة المغزل، لتنطلق الأنامل البزيوية في برم الصوف لينساب خيوطا دقيقة ناصعة البياض.
عندما تمتلئ المغازل بالخيوط الرقيقة، يتم إفراغها على شكل حلقات بلفها على الخنصر والسبابة.تعودالنساء بها إلى عين تامدة لتنظيفها من جديد مما قد يكون علق بها من أوساخ أو عرق أثناء الغزل، ويكون التنظيف هذه المرة بمسحوق عادي. توضع الخيوط في رغوته حتى يتشرب الرغوة، فتنقله المرأة إلى صخرة ملساء وتنطلق في ضربه “بخباطة”أو”هراوة” مسطحة ملساء معدة لهذه المهمة. بعد ذلك، يتم فرك الخيوط جيدا، قبل تخليصها من الرغوة في مياه الجدول، لتَغدو أكثر نظافة.
عند العودة إلى البيت، تكون العملية الكيميائية الوحيدة في مسار الجلباب البزيوي، هي” كبرتت” الخيوط. تضع المرأة قطع الكبريت الأصفر في قطعة من الفخار على الجمر، وفي جانب آخر تُحضر سلة من القصب، تضع عليها ثوبا نظيفا أبيض اللون، وعلى هذا الثوب، ترتب الخيوط الصوفية النظيفة، وتغطى الكل بثوب أبيض نظيف. تضع المرأة الكبريت تحت السلة تاركة الخيوط تتشبع بدخانه، وبعد وقت قد يتجاوز الثلاث ساعات تكون الخيوط قد ازدادت بياضا واكتسبت لونها الأبيض الناصع النهائي.
بهذه الطريقة، يتكون “السدا” الذي تتحدد جودته بحسب معايير المتانة، الدقة،المقاومة، اللون… فبقدر ما يكون الخيط رقيقا، متينا، سلسا، ناصع البياض تكون جودته. وليسهل استخدام الخيوط تفضل النساء جمع الخيوط في كرات في عملية تسمى “التكباب” أي تحويل الخيوط إلى كُبَّةٍ أو كرة. تتم هذه العملية بوضع المغزل الممتلئ بالخيوط بشكل مائل لا يلامس الأرض، وغالبا ما تستعين المرأة بكأس فارغة وإبريق تضع عليهما المغزل ليسهل دورانه، وتقوم بسحب الخيوط وإدارتها يدويا لتشكل الكبة.
إعداد المنسج
لإعداد المنسج يتم دق ثلاثة أوتاد متباعدة في خط مستقيم على أرضية مستوية. تجلس امرأتان عند الوتدين الذين في الطرفين. ويشكل الوتد الثالث الذي يسمى “الصاري” منتصف المستقيم. وتقوم امرأة ثالثة بالذهاب والإياب بينهما تسلمهما الخيط لتثبته كل واحدة على الوتد الذي أمامها، فيما يشكل “الصاري” نقطة لتغيير مسار الخيوط. تسمى المرحلة ب”التجرية”، من الجري تعبيرا عن تردد حاملة الخيط بين الجالستين على الطرفين، وغالبا ما تقوم بذلك مسرعة في مشيتها.
بعد “التجرية”، يتم جمع المنسج باستبدال الأوتاد بقضبان خشبية سلسة عادة ما تكون من شجرة الإجاص. فيما يتم إدراج أربع قصبات بشكل متواز، قصبتان في كل جهة، حيث يكون القضيب الأوسط محور القصبات. يُربط أحد قضبان الطرف بخشبة مستطيلة مثبتة في الأرض فيما تجر النساء القضيب الآخر. هكذا تساهم أربعنساءفي شكل زوجين في بسط المنسج. كل زوج يمسك قصبتين تحركانهما بين الخيوط من فوق إلى أسفل تسهيلا لفرز الخيوط واستقلالها، وجعلها تسير في مسار مستقيم. وهذا ما سيشكل “الواقف” أي الخيوط العمودية للمنسج. بعد ذلك تطوى الخيوط بإحكام ودقة متناهية على خشبة موازية للخشبة الأولى. فيصبح المنسج بين الخشبتين.
في البيت تكون المرأة قد أعدت المكان لاستقبال المنسج: عمودان خشبيان واقفان على بعد أقل من متر على حائط، يسميان “الوقّفات” لأن عليهما يقف المنسج. يوضع المنسج المجموع على هذين العمودين، ويسدل منه حوالي المترين، وتثبت الخشبتان السفلى الفارغة، والعليا التي طويت حولها خيوط “الواقف”، ويصبح المنسج واقفا بثبات. وحفاظا على نظافة المنسج من الغبار أو الحشرات، لا تتوان النساء في غطائه.
هكذا تبدأ الأنامل في تمرير الخيوط الدقيقة”السدا” أفقيا بين الخيوط العمودية “الواقف”. وكلما تم تمرير خيط تضغط عليه المرأة بمشط حديدي أسنانه دقيقة بضربات خفيفة من اليمين إلى اليسار، وغالبا ما يكون هذا المشط الحديدي ذي المقبض الخشبي مزينا بحلقات في الجنبين، تحدثان رنينا رتيبا يساير حركة المرأة وهي تضرب “السدا” وتثبته. وعندما تتكون بعض الخطوط، يكون المنسوج في حاجة إلى شد من الجانبين، فتضطر المرأة إلى استعمال “العضاضات”. والعضاضة خشبة مخروطية بجانب مفتوح يمر منها خيط مربوط بقطعة خشبية. عندما يُجْذَبُ الخيط، تدخل القطعة الخشبية في الفوهة المفتوحة. تلف المرأة قطعة قماش على حاشية الطرف المنسوج، وتضعها في الفوهة المفتوحة، وعندما يُجذب الخيط، تعض قطعة الخشب على النسيج لتشده المرأة، فيصبح المنسوج مشدودا.
عندما تنسج المرأة مقدار الشبرين، تلف المنسوج على الخشبة السفلى، وترخي نفس المقدار من الخشبة العليا، بنفس الحرص على نظافة المنسج. وتستمر العملية حتى آخر لفة، وقتها تكون آخر مرحلة في المنسج البزيوي وهي “التكراج”، وتعني قطع خيوط الواقف بطريقة متساوية، ليصبح ثوب الجلباب البزيوي جاهزا للتسويق.
سر الصنعة
الجلابة البزيوية ثمرة عمل طويل وشاق يستمر في المتوسط لمدة شهر ونصف. وتعتبر الجلابة البزيوية الناعمة والشفافة لباسا مغربيا تقليديا بامتياز، مصنوعة من الصوف والحرير الطبيعي، وتعتمد في مادتها الأولية النسيج البزيوي.
وعلى الرغم من أن عمل المرأة غالبا ما يكون في الظل، إلا أنه ضروري لإنشاء هذه القطع الثمينة التي تجسد ثقافة وتراث المغرب. تمثل هؤلاء النساء الشغف والالتزام واحترام التقاليد، وهي عناصر أساسية في الحفاظ على هذا التراث الثقافي المغربي. وعلى الرغم من دورهن السري، إلا أنهن يشكلن حلقات مهمة في السلسلة حتى يبقى هذا الجلباب على قيد الحياة. بعد الحصول على الصوف وإعداده، تبدأ النساجات عملية تمشيط الصوف وغزله باليد ونسجه، ليأتي دور مصمم الأزياء فيما بعد، ليحيك الجلابة في انسجام تام مع التقاليد المغربية العريقة. ينتقل تسويق المنتوج إلى المزادات العلنية “الدلالة” في دار الجلابة البزيوية، التي أنشئت بهدف تعزيز التسويق وتنظيم مهنة النساجات في المنطقة، حيث تقام هذه العملية التسويقية كل يوم جمعة.
وهناك عدة أنواع من النسيج البزيوي، منها “الخرقة البيضاء” التي تتكون من خيوط الصوف البيضاء على شكل شرائط متبوعة بشرائط من خيوط الحرير البيضاء، و”النمري” الذي يتكون من شرائط خيوط الصوف السوداء ممزوجة بشرائط من خيوط الحرير البيضاء، و”الخرقة الملونة” التي تنسج بخيوط الصوف البيضاء وألوان مختلفة من خيوط الحرير.
تدابير لإنعاش البنية التحتية
غالبية نساء قرية ابزو التي تضم أكثر من 23 دوارا تتعاطى للنسيج البزيوي منذ القدم. فقد ارتبط اسم المنتوج باسم المنطقة واقترن بالنشاط اليومي للمرأة البزيوية، ليشكل بذلك موردا اقتصاديا هاما لغالبية البيوت، حيث تقل فرص الشغل بحكم طبيعة وتضاريس المنطقة.
ولإنعاش النسيج البزيوي، تم على مستوى البنية التحتية بناء قرية للنسيج البزيوي بمركز ابزو على مساحة تقدر بحوالي 2000 متر مربع بكلفة إجمالية بلغت 7,8 ملايين درهم، والتي تضم محلا للإنتاج، ومحلا للعرض والتسويق، ومحلين لبيع المواد الأولية، وساحة للبيع بالمزاد العلني “الدلالة”، ومخزنا، وقاعات للتكوين ومحو الأمية والأنشطة النسوية، وذلك في إطار شراكة ما بين وزارة الصناعة الوصية، ومجلس الجهة، والمجلس الإقليمي لأزيلال، والمجلس الجماعي لابزو، وغرفة الصناعة التقليدية.
كما وضعت وزارة الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني علامة جماعية للتصديق، خاصة بالنسيج البزيوي، تعتمد المعايير والمواصفات التي حددتها الوزارة انطلاقا من خصوصيات ومميزات المنتوج بما في ذلك جودة المواد الأولية المستعملة وتقنيات النسيج البزيوي.